هكذا ساهم الاستثمار الجريء في تغيير مشهد الأعمال في السعودية

5 دقائق
shutterstock.com/Mohammed younos
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تغيّر مشهد قطاع الأعمال بالكامل في المملكة العربية السعودية خلال السنوات العشر الأخيرة، بسبب نمو الشركات الناشئة وتشجيع الأفكار الريادية وخلق بيئة استثمارية جاذبة للمستثمر المحلي والدولي، غير أن التغيّر لم يكن من قبيل الصدفة، وإنما تضافرت العديد من الجهود على مدار عقد كامل لتصبح السعودية ذلك السوق الواعد متسارع النمو والجاذب للاستثمارات.

بدأتُ العمل في قطاع تمويل المشروعات في وقت مبكر للغاية، عام 2010، حيث كان المشهد الاستثماري مختلفاً تماماً عما نعاصره اليوم، لذا، كنت شاهداً على مراحل تطور ذلك المشهد عبر السنوات الماضية، وكيف تطوّر شكل قطاع الأعمال في السعودية ليصبح اليوم سوقاً يرى فيها كبار المستثمرين الدوليين فرص كبرى لا مثيل لها.

حينما بدأنا في 2011، بتأسيس مجموعة “عقال” كأول مجموعة تجمع بين المستثمرين الملائكيين بهدف تمويل الشركات الريادية الناشئة، كانت الفكرة مازالت غير واضحة للكثيرين، إذ تخوّف رواد الأعمال من عرض أفكارهم على المستثمرين خشية سرقتها، وفي الوقت نفسه لم يكن من السهل إقناع المستثمرين بخوض هذه التجربة التي تبدو جديدة على السوق السعودي، لدرجة أن البعض سخروا من الفكرة في البداية بدعوى أننا لسنا في وادي السيليكون. فأتذكر أن المجموعة لم يكن لديها خلال ذلك العام سوى ثلاثة مشاريع فقط بإجمالي استثمارات بلغت 500 ألف دولار، ولم يكن هذا ما نطمح إليه. 

لم تكن منظومة الاستثمار الجريء مكتملة، إذ كان هناك الكثير من الأموال مقابل القليل من الأفكار الريادية، ولكن كليهما كانا بحاجة إلى جسر يجمع بينهما، من مسرعات وحاضنات الأعمال، ومستثمرين خبراء، وصناديق استثمارية، وقوانين ولوائح تسهل عملية الاستثمار، وتواصل جدّي من مؤسسات الدولة لإزالة العوائق والتحديات أمام التجربة الجديدة. 

استطاعت المملكة بناء هذا الجسر من المقومات عبر التواصل بين الحكومة والمستثمرين للحديث عن الفرص والتحديات، وظهر تأثير التواصل واضحاً عبر رؤية 2030، فمُنحت هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة قوة لم تكن موجودة من قبل، وأصبحت وزارة التجارة أكثر مرونة في الاستجابة للمشكلات التي تواجهنا كمستثمرين، وأصدرت مؤسسة النقد العربي السعودي لوائح جديدة خاصة بالشركات الناشئة بعدما كان مجرد الدخول من بوابة البنك المركزي محظوراً، فأتذكر دخولنا البنك المركزي للمرة الأولى للحديث عن شركة “هللة” وهي منصة دفع رقمية تستهدف المستهلكين والتجار، حيث كانت هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها البنك المركزي مع شركة ناشئة، وحينها لم يكن هناك أي لوائح، فاتفقنا على منح الشركة فرصة للتجربة أو ما يطلق “ساندبوكس” (Sandbox)، وهو إطار عمل يسمح باختبار الشركات الخاصة ابتكارها على نطاق صغير.

كان استثمارنا في شركة كريم من الخطوات التي لفتت الانتباه إلى الاستثمار  الجريء في الشركات الناشئة، لأنها كانت أول شركة مليارية يونيكورن في الشرق الأوسط، وأثارت العديد من التساؤلات حول كيفية وصول شركة ناشئة إلى هذا الحجم خاصة أن المستثمرين في كريم كانوا شركات عامة في السعودية، ورغم أن استثمارنا في كريم بدأ في 2012 لم نستطع الحصول على الرخصة سوى في عام 2016 يفضل التغيير الذي شهده النظام بعد رؤية 2030.

غيّر الاستثمار الجريء شكل الكثير من القطاعات، فاليوم مُنحت التراخيص لأكثر من 36 شركة في قطاعي التمويل والتكنولوجيا المالية، فمن كان يتخيل أن يمنح البنك المركزي رخصة لشركة مثل “ليندو” (Lendo)، والتي تمكن الشركات من الحصول على قرض من أشخاص مستثمرين، بعدما كان الإقراض مقتصراً على البنوك فقط، والتي لا تمنح قروضاً صغيرة بطبيعة الحال بسبب عدم جدواها الربحية بالنسبة لها، ما يضطر الأشخاص إلى اللجوء إلى السوق السوداء والتي خلقت بدورها مئات المشكلات في المحاكم. إضافة إلى ذلك التغيير المرتبط بالشركات الجديدة، بدأت بعض البنوك التقليدية في التحول للرقمنة مثل مصرف الراجحي، الذي رأى فعالية التكنولوجيا في سير الأعمال في قطاع البنوك.

ولولا المستثمرون الملائكيون في الفترة بين عامي 2011 و2013 ما انتعش قطاع الأعمال وتطور بهذا الشكل، خاصة أن السعودية لم تشهد صناديق رأس المال الجريء قبل عام 2018. وحينها بدأ القطاع الحكومي بصندوقين كبار، وهما “الشركة السعودية لرأس المال الجريء” (SVC)، وصندوق “جدا” (Jada)، والذيّن سرعا بدورهما وتيرة الاستثمار، خاصة للمشاريع ذات التكلفة الكبرى، إذ كان هناك أشخاص مستعدين للاستثمار ولكنهم مترددون بشأن المخاطر، لكن مشاركة صندوق مثل (SVC) ليشارك بـ 50% من التمويل أو أكثر زادهم طمأنينة وإقداماً. كما تشارك صناديق رأس المال الجريء هذه في سد الفجوة في التمويل بين المراحل المختلفة للشركات، إذ نجد الكثير من الأموال في المراحل المبكرة للتمويل، والقليل منها في المراحل المتأخرة لأنها بحاجة إلى تكلفة ضخمة تبدأ من 20 مليون دولار، في حين يبلغ أقصى تمويل للمراحل المبكرة 5 مليون دولار.

كان لتأسيس “جمعية رأس المال الجريء والملكية الخاصة” بقرار من مجلس الوزراء، دور مهم أيضاً في تشجيع حركة الاستثمار في الشركات الناشئة، إذ مثلت المستمرين الجريئين و صناديق رأس المال الجريء وصناديق الملكية الخاصة أمام الحكومة، فتم مقابلة الوزراء والمؤسسات الحكومية المختلفة لدراسة الأوضاع والسعي لتحسينها، فعلى سبيل المثال، التقينا هيئة السوق المالية لبحث أمر زكاة الصناديق، وكانت استجابتهم سريعة للغاية إذ نسقوا الأمر بدورهم مع هيئة الزكاة والضريبة والجمارك، والتي أصدرت نظام جديد للزكاة يخص الصناديق الاستثمارية المغلقة مثل صناديق رأس المال الجريء وصناديق الملكية الخاصة نظاماً خاصاً للصناديق الاستثمارية.

وفي 2020، شهدت حركة تأسيس الشركات الناشئة انتعاشاً بسبب زيادة الاعتماد على التكنولوجيا في مجالات متعددة مثل التسوق وطلب الطعام والتكنولوجيا المالية، فعلى سبيل المثال، اعتمد نجاح تطبيق “جاهز” (Jahez) لتوصيل الطعام على توقيت طرحه بشكل كبير، حينما ظهرت الحاجة بين صفوف الجماهير إلى تطبيق لتوصيل الطعام، كما سهّلت الجائحة تأسيس شركة شركة “تمارا” (Tamara) التي انتمى مؤسسوها إلى 6 دول مختلفة والتقوا عبر اجتماعات الفيديو الافتراضية التي زاد الاعتماد عليها في 2020. وهكذا خلقت الجائحة اهتماماً بالشركات الناشئة والأفكار الريادية سواء بين رواد الأعمال أو حتى المستثمرين خاصة أولئك الذين لم يقتنعوا سوى بالأسهم والعقارات.

يعوّل اقتصاد المملكة بشكل كبير على الشركات الناشئة والأفكار الريادية، لذا، يحتاج ورواد الأعمال الاستفادة من وضع السوق السعودي واستعداده للتوسع في قطاعات واعدة مثل التكنولوجيا المالية والتكنولوجيا الصحيّة، والتكنولوجيا التعليمية، والعقارات الرقمية، وغيرها. وخلال عملي في قطاع تمويل الشركات الناشئة لأكثر من 10 سنوات، أيقنت أهمية ثلاثة أمور لابد أن يعيها رائد الأعمال لضمان نجاحه، الأول ألا يبدأ فكرته دون أن يملك شغفاً واضحاً تجاهها، ورغبة حقيقية في وضع حل لأحد المشكلات التي يسعى هو شخصياً لحلها، وليس سعياً وراء المال فقط، والثانية هي السماع للمستثمرين الرافضين للفكرة وليس المشجعين لها فقط وسؤالهم عن سبب رفضهم ربما يفتح له أفاقاً لم يعلم رائد الأعمال بوجودها، وأخيراً الحفاظ على علاقة جيدة مع المستثمر والحرص على عدم خسارته إذ من المتوقع أن يحتاج إليه ثانية خلال رحلته.

حينما أنظر إلى الوضع السعودي الآن، يملؤني تفاؤلاً فيما يتعلق بمستقبل القطاع، فأتوقع أنه إذا صار يونيكورن سعودي واحد على الأقل، سيشهد القطاع المزيد من الانتعاش، وضخ المزيد من الأموال خاصة من الشركات الدولية التي طالما واجهت معوقات وصعوبات في الماضي وباتت تنظر إلى السوق السعودي كفرصة لازدهار ونمو أعمالها، فعلى سبيل المثال، يعدّ نجاح شركة “هنغر ستيشن” (Hungerstation) في السعودية دليلاً على استفادة المستثمرين الدوليين من الاستثمار في السعودية، ما سيؤدي إلى المزيد من ضخ الأموال خاصة لسد الفجوة في التمويل بين المراحل المختلفة للشركات.

فتخيّل إذا مرت الشركة الناشئة بالدورة الصحيحة خلال المنظومة من مسرعات الأعمال للمستثمر الجريء أو صناديق رأس المال الجريئة ثم سوق الأوراق المالية (IPO)، ستتحول في غضون سنوات قليلة لشركة كبرى في السوق السعودي، فمثلاً أتوقع أن تصل 3 أو 4 شركات من بين 17 شركة يملكها صندوق دراية للاستثمار الجريء في محفظته الاستثمارية إلى سوق الأوراق المالية لتصبح شركات كبرى خلال السنوات القادمة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .