على الرغم من أن حجم الإنفاق على الرعاية الصحية للفرد الواحد في الولايات المتحدة أكبر بمرتين منه في الدول المتقدمة، تظهر الولايات المتحدة منذ مدة طويلة نزوعاً إلى انخفاض العمر المتوقع وارتفاع معدل انتشار الأمراض المزمنة وتدني النتائج الصحية العامة فيها. ويتمثل أحد الحلول المقترحة لهذه المعضلة في تغيير نمط الدفع في نظام رعايتنا الصحية من النمط السائد المعروف باسم نمط الرسوم مقابل الخدمات (إف إف إس) (FFS)، والذي يسدد ثمن الخدمات بغض النظر عن النتائج، إلى نهج الرعاية الصحية القائم على القيمة الذي يسدد ثمن النتائج المحققة فقط.
نهج الرعاية الصحية القائم على القيمة
وتظهر خبرتنا في نظام نيمورز (Nemours) لصحة الأطفال أن نمط الرعاية القائم على القيمة (في بي سي) (VBC) ضروري لإحراز التحسن الملموس في النتائج الصحية وخفض تكاليف علاج الأطفال المصابين بالأمراض المزمنة وأولئك الذين يعانون من حالات طبية معقدة. ولقد وجدنا أن من شأن نهج "في بي سي" أن يخفض التكاليف المباشرة للعناية بالأطفال الذين يعانون من أمراض مزمنة. بيد أنّ التحول إلى نهج "في بي سي" ينطوي أيضاً على تكاليف إضافية مرتبطة بالبنى التحتية والتدريب إلى جانب بعض التعقيدات في تقديم الرعاية ضمن بيئة تخلط بين نمطي الدفع "إف إف إس" و"في بي سي". علاوة على ذلك نعتقد أن الوفاء بوعدنا المتمثل في تحسين الصحة وخفض التكاليف، يتطلب تعزيز نمط "في بي سي" ودعمه من خلال نهج مدروس لتفادي الهدر، كما يتطلب أن تتم زيادة فعالية ذلك النمط من خلال جهود متنوعة ومتضافرة للتصدي للعوامل المؤثرة في صحة المرضى من خارج الحدود التقليدية لعمل مؤسسات الرعاية الصحية.
وفيما يلي مثال مناسب لشرح القصد مما سبق. ففي العام 2012 نفذت شركة نيمورز برنامجاً أولياً لتحسين نتائج معالجة مرضى الربو – بوصفه المرض المزمن الأكثر انتشاراً لدى الأطفال – بالنسبة لمجموعة من الأطفال في ولاية ديلاوير، حيث نمتلك شبكة راسخة من المستشفيات التي تقدم الرعاية الأولية وحيث أسسنا في العام 2004 وحدة نيمورز لخدمات الصحة والوقاية، وهي عبارة عن شعبة مستقلة متخصصة بصحة السكان ومكرسة للبحث في العوامل الاجتماعية المؤثرة في الصحة بالتعاون مع الدائرة الأوسع من المجتمع.
تشير مجموعة كبيرة من الدلائل إلى أن 80% على الأقل من العوامل المؤثرة في نتائج الرعاية الصحية إنما ينبع من خارج نطاق العلاج السريري. وتشمل تلك النسبة عوامل اجتماعية (كالعمل والأسرة والدعم الاجتماعي والدخل والتعليم)؛ وسلوكية (كالتغذية والنشاط الرياضي والتدخين وتعاطي الكحول والمخدرات والحياة الجنسية)؛ وأخرى متعلقة بالبيئة المادية (كالمسكن ونوعية الهواء والمياه والنقل).
وقد أشارت عدة مقاطع من قانون الرعاية بأسعار معقولة الصادر عام 2010 إلى قدوم مرحلة سيادة نمط "في بي سي" والتركيز على رعاية صحة السكان. ولما كان الجزء الأكبر من موارد نيمورز صادراً عن عقود من النمط "إف إف إس"، صممنا هذا البرنامج الأولي لدمج الخبرة التي اكتسبناها في مجال صحة السكان مع عملياتنا السريرية، في مسعى منا للحصول على فهم أفضل لنمطي الرعاية والدفع "في بي سي" ولمتابعة تحسين النتائج الصحية للمرضى الأطفال المصابين بالربو.
تلقى برنامجنا الأولي دعماً جزئياً من الحكومة الفيدرالية على شكل منحة. كما حصلت مستشفيات الرعاية الأولية المشاركة في البرنامج على شهادات بوصفها بيوتاً طبية محورها المريض. ولقد وسعنا فرق العمل التي تعالج مرض الربو والمؤلفة عادة من الأطباء والممرضات لتشمل أيضاً اختصاصيين في العمل الاجتماعي وأطباء نفسيين ومدراء حالات. كما جرى توحيد عمليات التقييم والتشخيص والعلاج وفقاً لأفضل الأدلة، وأُدخلت إلى السجلات الصحية الإلكترونية، بحيث إنّ الانحرافات في نتائج الرعاية تكون ناتجة حصراً عن العوامل الشخصية للمرضى. ولقد منحت الممرضات إمكانية الدخول إلى السجلات الصحية الإلكترونية للأطفال المرضى بموافقة الأهل.
فضلاً عن ذلك قمنا بتوظيف عاملين في المجال الصحي الاجتماعي للعمل مع الأسر في المنزل والمدرسة لتقييم العوامل المثيرة لمرض الربو، ولتثقيف الأهل والمدرسين ومساعدتهم في التعامل مع المسائل المختلفة التي من شأنها أن تؤثر في نتائج رعاية الأطفال المصابين بمرض الربو. ولقد شكل أولئك العاملون قناة ارتباط بين أسر المرضى وموارد المجتمع المحلي، وقاموا باستكشاف العوامل الاجتماعية التي من شأنها أن تؤثر في انتشار مرض الربو، وأوصوا على مستوى سياسات الولاية والبلديات بإحداث بعض التغييرات مثل منع اقتراب الباصات من المدارس الأمر الذي كان يتسبب بتردي نوعية الهواء وبالتالي زيادة احتمال إثارة نوبات الربو. ومن الأنشطة الأخرى التي قمنا بها خارج نطاق عملنا التقليدي في تقديم الرعاية: توفير السكن المناسب لبعض الأسر وتوفير النقل لبعض الأطفال والضغط لتغيير نوع المبيدات المستخدمة في البيوت الشعبية وتشجيع الجهات والمؤسسات على التبرع بفرشات جديدة لبعض الأطفال.
ولقد كانت النتائج بعد ثلاث سنوات من العمل بالنسبة للأطفال المنضوين في المشروع ملفتة: لقد شهدنا انخفاضاً بنسبة 60% في عدد الزيارات المرتبطة بمرض الربو إلى غرف الإسعاف، وانخفاضاً بنسبة 44% في عدد قبولات المستشفى ذات الصلة بمرض الربو، وتخفيضاً يفوق 2,100 دولار في الإنفاق الطبي السنوي عن كل طفل مصاب. فضلاً عن ذلك شهدنا استقراراً متزايداً في حالة المرضى، الأمر الذي قلص عدد الزيارات إلى مكاتبنا وعدد الخدمات الاستشفائية. وبالطبع ارتفعت التكاليف الخارجية المرتبطة بهذا النمط من الرعاية بسبب توسيع فريق الرعاية. بيد أنّ ذلك الارتفاع جرى تعويضه من خلال انخفاض نسبة استخدام الخدمات الاستشفائية.
في نمط الدفع "إف إف إس" الذي لا يزال يحكم غالبية إيراداتنا من العناية بالمرضى، فإن هذا التخفيض في الإنفاق الطبي السنوي عن كل طفل مصاب لا يعود بالنفع إلا على الدافعين. أما نحن كمؤسسة فقد خسرنا مالياً، لأن استخدام خدمات الاستشفاء قد انخفض بشكل ملحوظ، الأمر الذي خفض إيراداتنا (جرى تعويض هذه الخسارة جزئياً من خلال المنحة المالية التي حصلنا عليها). انتهى البرنامج الأولي بعد ثلاث سنوات لكننا استمرينا في تطبيق نموذج الرعاية بالأطفال المصابين بمرض الربو. وعلى الرغم من النتائج الملفتة التي نجح البرنامج الأولي في إظهارها، إلا أن نموذج الرعاية المقترح غير مستدام ببساطة إذا ما جرى تطبيقه على نطاق واسع مقترناً بنظام سداد من النمط "إف إف إس". فضلاً عن ذلك هنالك عقبات ومعيقات كثيرة تقف في طريق تطبيق الرعاية الفعالة، بما في ذلك عدم توفر وسائل النقل والسكن الملائم وعدم القدرة على قراءة الوصفات الطبية. فتلك المعيقات لا يمكن معالجتها من خلال اتباع نمط "إف إف إس". وحتى إن اتباع بعض أنماط "في بي سي" في السداد قد لا يقود إلى ضمان الاستدامة المالية لنموذجنا الأولي في الرعاية، وذلك بسبب تعقيده وما يتطلبه من استثمارات مالية كبيرة على مستويات المنزل والمدرسة والمجتمع والسياسة.
"السداد القائم على القيمة"
يشمل المصطلح العام المعروف باسم "السداد القائم على القيمة" طائفة من طرق السداد التفصيلية مثل طريقة الدفع مقابل الأداء، وطريقة تشارك الوفورات، وطريقة المدفوعات المجمعة، وطرق دفع بديلة مرتبطة بمؤسسات الرعاية الخاضعة للمساءلة والبيوت الطبية التي محورها المريض، وطريقة تحميل المسؤولية الكاملة عن المخاطر للجهة المزودة كما هي الحال في نظام الدفع الفردي. وعلى العموم يتعين على غالبية النظم الصحية التعامل مع أكثر من نمط واحد من أنماط السداد. ولعل التعقيد المتزايد لتتبع أداء نظم الدفع المختلفة وتلبية متطلبات متعددة ومختلفة لإعداد التقارير حول نتائج الجودة والأمان من شأنه أن يزيد التكاليف الإدارية.
وفي ظل الانتقال إلى نظام الدفع "في بي سي" بوتيرة غير مؤكدة، مع احتمال العمل في بيئة تشمل أكثر من نموذج للسداد لفترة ليست قصيرة، انتهجت نيمورز مساراً جديداً لضمان التحول في نهج الرعاية وتحسين القيمة المتوافقة مع جميع نماذج الرعاية والسداد. ولطالما التزمنا في السنوات المنصرمة بفلسفة وأدوات منهجية "لين" (lean) الترشيدية التي تمثل طريقة مدروسة ومنظمة لخلق قيمة أكبر بموارد أقل. وتشمل المبادئ الأساسية لهذه المنهجية تحديد القيمة بناء على حاجات الزبون (المريض)، وتخليص العمليات من جميع أشكال الهدر، والتحسين المستمر للعمليات، وإشراك الموظفين الذين ينجزون الأعمال على أرض الواقع في تحديد المشاكل وإيجاد الحلول. ويساعدنا هذا النهج في تحسين النتائج وتخفيض التكاليف، الأمر الذي يشكل قاعدة صلبة للنجاح بغض النظر عن نموذج السداد المتبع.
ومن خلال اتباع منهجية "لين" تمكنا من تقليص مدة الإقامة في المستشفى وعدد حالات إعادة القبول في جميع أفرع شبكتنا وزيادة استيعاب الوحدات من دون توسيعها وتخفيض الإنفاق على المشاريع الكبرى. ومن الأمثلة على تحسين العمليات الذي أدى إلى خلق قيمة وإيصالها مباشرة إلى المريض، نذكر إلغاء الفحوصات التي تجرى للمريض في اليوم السابق ليوم إجراء العمل الجراحي – حيث بتنا قادرين على القيام بكل ما يلزم في نفس اليوم. وقد أدى ذلك إلى تخفيض عدد حالات إلغاء العمليات الجراحية ورفع سوية رضا المريض، من دون أي آثار سلبية على مواعيد بدء العمليات الجراحية. على العموم أدت مثل هذه التغييرات مجتمعة إلى تحسين النوعية والأمان وتعزيز رضا مرضى الفئة العليا وتحقيق وفورات سنوية في التكاليف بملايين الدولارات. وتعدل هذه الوفورات جزئياً التكاليف المرتفعة المرتبطة بالانتقال إلى نظام قائم على القيمة وتسهم في تمويل جهودنا المستمرة فيما يخص صحة السكان (وهي جهود نعتقد أنها ضرورية لكي تجعل نظام "في بي سي" يعمل بشكل صحيح)، وذلك بغض النظر عن نماذج السداد المطبقة.
إذاً، إنّ التغييرات الضرورية لإحداث التحول المطلوب في نظام الرعاية الصحية بسيطة وواضحة وهي: ترسيخ السلوكيات الصحية منذ الولادة؛ ومكافأة جهود الرعاية الصحية تبعاً للنتائج، لا تبعاً لحجم الجهود المبذولة؛ وتزويد المرضى بكل ما يلزم من إمكانات وأدوات للاهتمام الفعال بصحتهم. بيد أن تطبيق هذه التغييرات صعب ومعقد للغاية. لكننا نعتقد أن نهج الرعاية الصحية القائم على القيمة، إذا ما طُبق بالاعتماد على مبادئ منهجية "لين" الترشيدية وبالاقتران مع جهود مستمرة تشارك فيها قطاعات المجتمع كافة، قادر على خفض الإنفاق على الرعاية الصحية والوفاء بالعهود المقطوعة من حيث تحسين صحة الأطفال والكبار.
اقرأ أيضاً: