عندما أجد مسألة خلافية بين فقهاء الصحة والعلم والاقتصاد، فإنني أحب دوماً أن أبحث فيما يتفق عليه هؤلاء. ومن الأمور التي يتفق عليها خبراء الاستثمار المالي عبر العصور قولهم إن الاستثمار في سلة واسعة من الأسهم أو في جميع الأسهم عبر صندوق استثماري، سيجعلك تربح في النهاية بغض النظر عن خسارة بعض الأسهم وربح بعضها، لكنك ستخرج رابحاً في الآخر. وقد عبر عن هذه الفكرة التي أثبتت صحتها عبر مئات السنين من الاستثمار عالم الاقتصاد جون بوجل، صاحب كتاب "The Little Book of Common Sense Investing" الذي يتحدث عن المبادئ التي باتت ناجحة ومتعارفاً عليها لدى مستثمري الأسهم، ويلخص الفكرة بقوله: "لا تبحث عن الإبرة، اشتر كومة القش". فهو يثبت لنا أن الشركات الأميركية حققت بالمجمل نمواً بنسبة 9.5% خلال المائة عام السابقة بغض النظر عن الأزمات، فمن استثمر دولاراً أصبح يساوي خلال عشر سنوات 2.48 دولاراً، وبعد عشرين سنة أصبح يساوي 6.14 دولاراً، وبعد ثلاثين عاماً أصبح 15.22 دولاراً. إلى أن يصل إلى 93.48 دولاراً بعد خمسة عقود أو خمسين سنة.
وبعبارة ملخصة، فإن هذا العالم الاقتصادي ينصح بأن تنوع استثماراتك دون أن تلقي بالاً لما سيخسر منها، لأنك على المدى الطويل أنت الرابح، بل إنه يستخدم تعبيراً واضحاً أكثر ليجعلنا نفهم هذه الفكرة، ومفادها أنك قد ترى المقامرين واللاعبين بين رابح وخاسر في الكازينو، ولكن هل تحزر من هو الرابح دوماً؟ إنه الكازينو.
ويثبت هذه الفكرة صاحب كتاب "سيكولوجية المال"، مورجان هاوسل، من خلال مثال افتراضي، فهو يقارن بين أشخاص عاشوا فترة مائة عام بين عامي 1900 و2019 في الولايات المتحدة الأميركية، ويتساءل ماذا سيحدث لو قرر شخص أن يستثمر دولاراً واحداً كل شهر في سوق الأسهم مهما كانت حالة الاقتصاد، سواء كانت في حالة ازدهار أو ركود فهو سيستمر، ويقارن ذلك مع آخر يقرر البيع عندما يحدث ركود ثم يعود ويشتري أسهماً بعد انتهاء الركود والأزمة الاقتصادية. من سيكون الرابح بينهما برأيكم؟ الأول الذي قرر الاستمرار بالاستثمار مهما كانت حالة الاقتصاد سيخرج رابحاً بمقدار الضعف مقارنة بمن قرر البيع خلال الأزمات الاقتصادية.
كيف يمكننا الاستفادة من هذا المبدأ الاستثماري الذي يتفق عليه أكبر علماء الاقتصاد والمستثمرون المخضرمون؟ إن الفائدة في قرارات الاستثمار واضحة ويمكن تطبيقها، لكنها تحتاج لصبر ورباطة جأش، فمن يطبق هذا المبدأ عليه ألا يخاف من المطبات، لأنه سيصل في النهاية إلى وجهته منتصراًِ إذا ما تمالك نفسه. فالمسألة، حسب مؤلف كتاب "سيكولوجية المال"، أن الاستثمار في البورصة هو أشبه بعمل الطيارين داخل كابينة الطائرة، فهو عمل تتخلله ساعات وساعات من الملل، تمرّ بها حالات من الرعب المطلق. لكنك عندما تؤمن بأن عليك شراء كومة القش، أي الاستثمار في كل شيء فستخرج رابحاً. فعندما قرأت هذه القاعدة لأول مرة، رأيت أن ما يتفق عليه المستثمرون هو بالضبط ما يتفق عليه العلماء الاقتصاديون في مواضيع أخرى، ومثالها، الجواب عن السؤال المتكرر هذه الأيام: كيف أعرف ما هي المهارة التي علي أن أطور نفسي بها في هذا الزمن المتسارع لأضمن التكيف مع وظائف المستقبل؟ الجواب هو هذا التنوع "اشتر كومة القش" أي استثمر في نفسك بسلة متنوعة من المهارات.
أخيراً، ألا تذكركم نظرية شراء كومة القش بدل البحث عن الإبرة بالنظرية المعروفة "مبدأ باريتو"؟ النظرية التي قول ن الناس يقومون دوماً بأعمال سواء في الحياة المهنية أو الشخصية، يكون الجزء الفعّال فيها هو 20% بينما 80% من هذه الأعمال هي مجرد قش.