قصة حقيقية؛ كنت أتحدث قبل بداية شهر رمضان إلى مدير تنفيذي لشركة عالمية كبرى في دولة خليجية، حول تحديد موعد لمناقشة موضوع معين معه، فأخبرني بمواعيد عمله في شهر رمضان، وذكر لي عَرَضاً أنه قد يكون متعباً بعض الشيء قبيل الإفطار، لذا، فهو يُفضّل أن نتحدث في الموعد الفلاني. فتحت بؤبؤ عينيَّ وسألته: وهل تصوم رمضان؟! على حد علمي فإنّ الرجل مسيحي، وعلى الرغم من أنني كنت أتوقع أنه يحترم مواعيد العمل في رمضان لموظفيه الصائمين، فإنني بصراحة لم أتوقع أن يكون صائماً.
أخبرني الرجل بالقصة التي دفعته إلى صيام رمضان منذ عدة سنوات. وكان السبب المباشر هو نقاش حاد دار بينه وبين أحد مدراء الإدارة الوسطى الذين يعملون تحت إدارته قبل سنوات. ووصل النقاش الذي كان مُتعلّقاً بالعمل إلى حد استشاط فيه المدير المتوسط غضباً وقدَّم استقالته على الفور، بسبب الخلاف مع مديره العام. راجع صاحبنا المدير التنفيذي نفسه، وحاول تهدئة المدير المتوسط، لكنه أصرَّ على الاستقالة. وبسبب الاستقالة خسر هذا المدير المتوسط بعض التعويضات والميزات المادية التي كانت ستُصرف له بحسب أنظمة الشركة، لأنه خرج من العمل مستقيلاً.
نعم كما توقعتم، كان هذا النقاش الحاد والصعب الذي أدى إلى استقالة المدير المتوسط في شهر رمضان. بعدها أحسَّ المدير التنفيذي بالذنب، وبدأ يسأل نفسه: هل أسهمتُ في تصعيد النقاش والغضب؟ كما تساءل بينه وبين نفسه: هل كان هذا النقاش عادلاً؟ فقد كان زميلي المدير المستقيل صائماً، ولا بد أنه ليس في وضع نفسي مماثل لوضعي باعتباري شخصاً غير صائم؟ هل أسهم الصيام في انفلات أعصاب المدير المتوسط وغضبه، وبالتالي استقالته وخسارته للتعويضات الكبيرة، التي هي من حق أسرته وأولاده؟
منذ ذلك اليوم، قرر هذا المدير التنفيذي، الذي لم يستطع إصلاح ما حدث، أن يصوم رمضان. والهدف كما يقول هو أنه يدير شركة فيها مئات الموظفين الصائمين، ولكي يحقق التوازن النفسي والعاطفي معهم عليه أن يصوم ليعيش الحالة التي يعيشونها، ويطبّق مبدأ "التعاطف" على أصوله تجنباً لأي حالات تحيّز مستقبلية قد تدفعه بوصفه مديراً تنفيذياً إلى التعامل بحالة نفسية مختلفة عن غالبية موظفيه. ليس هذا فحسب، بل فرض صاحبنا المدير التنفيذي أنظمة داخل الشركة تمنع الجنسيات غير الصائمة من تناول طعامها علناً داخل الشركة، وخصص للموظفين غير الصائمين مكاناً لتناول الطعام في رمضان بحيث يكون غير مكشوف لباقي الموظفين الصائمين.
القيادة المتعاطفة
هناك تعبير إنجليزي يعبّر عن معنى أن تضع نفسك مكان الآخرين، ويستخدمونه كثيراً في الكتب والنصائح التي تدعو إلى النقاشات الهادئة والمقنعة، فبدلاً من أن تقول للشخص افعل أو لا تفعل، يستخدمون هذا التعبير (If I were In your shoes) ومعناه العام "لو كنت مكانك"، في حين أن معناه الحرفي "لو كنت ألبس حذاءك". لأنك عندما تضع نفسك مكان الآخرين تكون قد حققت ما يُسمى علمياً "التعاطف" (Empathy)؛ أي أنك تضع نفسك مكان الآخرين عندما تريد أن تدخل معهم في نقاش حول فكرة معينة، لأن دوافع الناس وحالتهم النفسية وظروفهم تؤثر في النقاش، كما تؤثر ظروفك وحالتك النفسية في النقاش ونتائجه، بما فيها إذا كنت قد نلت القسط الكافي من النوم أو لا، أو كنت جائعاً أم شبعانَ، وغيرهما من الظروف.
وقد أثبتت الدراسات أن القضاة، الذين يُفترض أنهم أكثر البشر انضباطاً في مشاعرهم، يحكمون لصالح السجناء بنسبة أكثر بـ 65% عندما يكونون في حالة شبع، وتتشدد أحكامهم عندما يجوعون، ثم يعودون إلى الأحكام المتساهلة في جلسات ما بعد الغداء. ويمكنكم أن تجدوا الكثير من هذه الأمثلة الحقيقية في كتاب "التشويش" لعالمي السلوك دانيال كانيمان وكاس سنستاين، وفي كتاب "متى" للباحث دانيال بينك.
عندما تدير فريق عملك بتعاطف فإنك تحقق النتائج التي لا خلاف على إيجابيتها، وقد تأكدت هذه النتيجة في معظم دول العالم، فبحسب أحد الأبحاث العملية التي نشرتها هارفارد بزنس ريفيو، أثبتت دراسة أجريت في 100 دولة حول العالم أن القيادة المتعاطفة ساعدت على رفع إنتاجية الموظفين وحالتهم النفسية ورضاهم الوظيفي بنسبة 86%.
ولكن كيف تطبّق التعاطف في الإدارة بطريقة صحيحة؟ هل عليك أن تعيش كل ظروف الموظفين حتى تتمكن من فهم مشاعرهم وحالتهم النفسية؟ هذا الأمر غير ممكن في كل الحالات.
وعلى الرغم من أن بطل قصتنا المدير التنفيذي الذي قرر صيام رمضان، مع أنه ليس جزءاً من طقوسه الدينية التي نشأ عليها، فإنه اختار هذا التطبيق العملي للتعاطف لأن معظم موظفي الشركة التي يديرها كانوا صائمين. لكن كما يقول مجموعة باحثين ألّفوا كتاباً بعنوان "القيادة المتعاطفة" ونشروا حوله مقالاً في هارفارد بزنس ريفيو، إن القيادة بتعاطف لا تكفي وحدها، بل لا بد أن تكون قيادة متعاطفة مع حكمة. ما هو المقصود بذلك؟
القيادة المتعاطفة دون حكمة كما يقول هؤلاء الخبراء، تعني "الاهتمام مع تجنب الأجزاء الصعبة"، في حين أن الإدارة المتعاطفة الحكيمة تعني الاهتمام مع "القيام بالأمور الصعبة بطريقة إنسانية". وهذا يعني عملياً الانتقال من التعاطف الشكلي إلى وضع نفسك موضع الآخرين والعمل على حل الصعوبات والتحديات التي تقف بين وجهة نظرك وأسلوب عملك ووجهات نظر الموظفين وأساليبهم.
أوقف التصعيد
ولكن ماذا عن دور الموظف في التعاطف مع حالة المدير؟
يتوقع الموظف ربما أن المدير لا يكترث له، أو أن مديره قد تغيّر بعدما تولى المنصب. ولن يحل سوء التفاهم هذا سوى تطبيق حالة افتراضية يضع فيها الموظف نفسه مكان المدير، ليتخيل المهمات والمسؤوليات والطلبات اليومية والهموم والأهداف الكبرى التي يديرها، إضافة إلى الاعتبارات المالية والقيود المؤسسية التي تحكم ظروف عمل المدير ومسؤولياته كافة. وتنصح الخبيرة الإدارية كارين ديلون، المدراء بالاهتمام بخفض التصعيد ووضع أنفسهم مكان موظفيهم، وتذكر أنها ندمت على إحدى أكبر المشكلات التي افتعلتها مع موظفة كانت تحت إدارتها بسبب تأخرها في تسليم العمل، لكنها اكتشفت لاحقاً أن الموظفة كان لديها الحق في التأخر بسبب طبيعة المهمة.
في الوقت نفسه تنصح الخبيرة ديلون الموظفين، بالتعامل مع المدير الغاضب عبر اتباع عدة نصائح، منها تحمّل المسؤولية، واقتراح الحلول، والعمل على التوافق، والتأكد من سياق الخلاف.
وهكذا، عندما نكون في بيئة عمل تتفهم فيها الإدارة حالة الموظفين وظروفهم، ليس فقط الصحية والنفسية، بل الاجتماعية والمعيشية أيضاً، ويتفهم فيها الموظفون عمل الإدارة، يصل المدراء والموظفون معاً إلى حالة "اللاأنا" كما يُسميها الخبير دوغلاس نول في كتابه "أوقف التصعيد". وهي الحالة التي تجعل الشخص ينتقل من "الأنانية" إلى وضع نفسه مكان الآخرين. عندها فإن الحرب الخفية التقليدية التي تصنِّف العاملين في المؤسسات إلى مدراء ظالمين وموظفين مضطهدين قد تنتهي.