الاستراتيجية في عالم مسيّس للغاية

15 دقيقة
الشفافية

تتصف جميع جوانب العمل التجاري وقطاع الأعمال تقريباً بأنها ذات صبغة سياسية هذه الأيام، بمعنى أنها تتطلب أخذ مجموعة واسعة من الاعتبارات والمسائل الأخلاقية والاجتماعية والبيئية المثيرة للجدل غالباً بالحسبان. والخيارات التي ربما كانت واضحة بالمعايير الاقتصادية البحتة – مثل ما هو القطاع الذي يجب أن نعمل فيه، وأين يمكن أن نمارس النشاط التجاري، وما هي الجهات التي بوسعنا التعامل معها، بل وحتى كيف بوسعنا تحديد الأسعار أو تعيين الموظفين وترقيتهم – يمكن أن تصبح الآن خيارات معقدة بسبب السياسة.

كما بات التعامل مع هذا الوضع ببراعة الآن على المحك، وأكثر من أي وقت مضى. فعندما توقفت شركة الطيران الأميركية "دلتا" (Delta) عن تقديم خصومات لأعضاء "الجمعية الوطنية للسلاح" في أميركا في أعقاب حادث لإطلاق النار في مدرسة في فلوريدا عام 2018، تعرّضت الشركة للتهديد بإلغاء حصولها على دعم الوقود في جورجيا. وعندما رفعت "ديزني" صوتها للدفاع عن حقوق بعض الأقليات في فلوريدا، خسرت الوضعية والحقوق الخاصة التي كانت تتمتع بها في مجال الحوكمة في الولاية. وعندما عبّرت "آتش آند إم" (H&M) عن مخاوفها بخصوص مصادر الحصول على القطن وحقوق الإنسان في الصين، حصل هبوط حاد في إيراداتها في ذلك البلد. وعندما اندلعت أزمة أوكرانيا، أُجبرت "ماكدونالدز" على التخلي عن أنشطتها التي بنتها بالكد والتعب في روسيا على مدار 30 عاماً.

وبالتالي، الافتراض أن التجارة والسياسة يمكن أن تنفصلا أو يجب أن تنفصلا لم يعد واقعياً، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالقيم، والهوية، والأمن. وفي هذه الأيام، لا يكفي محاولة نزع فتيل المشاكل السياسية عندما تنشأ من خلال الاعتماد على الرسائل الصادرة عن قسم العلاقات العامة بالشركة. فما الذي تغيّر؟

أسهمت التكنولوجيا في بلوغ مستوى جديد من الشفافية. ولم يعد بوسع الشركات التعامل مع التوترات السياسية من خلال التحدث والتصرف بطرق مختلفة مع جماهير مختلفة في أوقات مختلفة. وفي عصر بات الناس فيه عازفين عن الانخراط في قضايا الشأن العام، أصبح مكان العمل المنبر الأساسي للتفاعل الاجتماعي والتعبير عن الذات. ومع سعي الموظفين إلى التعبير عن هوياتهم ومعتقداتهم في مكان العمل، أصبحت لديهم توقعات أكبر بأن تدعم شركاتهم القضايا التي يهتمون بها. ومن الملاحظ أن العديد من الرؤساء التنفيذيين الذين تبنّوا موقفاً من القضايا الاجتماعية يقولون إن الدافع وراء ذلك هو أن موظفيهم كانوا يتوقعون ذلك وطالبوا به.

في الوقت ذاته، أصبحت المجتمعات أكثر انقساماً، سواءً من حيث الرأي أو الجوهر. وبات عدم المساواة في الثروة والدخل أكثر وضوحاً الآن في العديد من الدول، ما يؤدي إلى ظهور فوارق في المصالح والآراء سرعان ما تخرج إلى العلن على شبكات التواصل الاجتماعي وتتعرض للتضخيم. ومع تزايد التكامل الاقتصادي بين المجتمعات التي تضم نماذج سياسية ومعتقدات دينية وقيماً مختلفة، ظهرت خطوط انقسام جديدة، وتحديداً بين الدول ذات المكانة الراسخة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والقوى الصاعدة مثل الصين.

بالنسبة لعالم الأعمال، يقود هذا الوضع إلى شبكة من القضايا السياسية المتعارضة على الأغلب. ويمكن للارتدادات السلبية أن تأتي من مجموعة متنوعة من أصحاب المصلحة. ففي حالة جوجل، على سبيل المثال، احتج الموظفون على اقتراح الشركة المتمثل بمحاباة السلطات الصينية في موضوع فرض رقابة على نتائج محرك البحث. وفي حالة "آتش آند إم"، عارض عملاؤها الصينيون موقفها البيئي. وقد يتردد صدى تلك الارتدادات السلبية في داخل البلاد نتيجة الأفعال الخارجية (جوجل)، أو في الخارج نتيجة الالتزام بالقيم المحلية ("آتش آند إم")، أو في الداخل نتيجة أفعال تُرضي البعض، وتُغضب البعض الآخر في الوقت ذاته ("دلتا" و"ديزني").

فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للاستراتيجية؟

نُعرّف الاستراتيجية على أنها فن انتقاء الخيارات المدروسة ضمن بيئة تنافسية. وتحظى الخيارات بالأهمية عندما تقود طرق مختلفة إلى مخاطر ومكافآت متمايزة. فعندما تكون البيئة الاجتماعية محابية عموماً لقطاع الأعمال، فإن الخيارات الاستراتيجية لشركة من الشركات يمكن أن تكون مبررة بموجب الاعتبارات التجارية البحتة، أو يمكن إذا اقتضت الضرورة تناولها بطريقة متأنية ومدروسة من خلال بيانات صحافية مصاغة ببراعة ودقة. أما اليوم، فإن الخيارات يجب أن تُنتقى ضمن بيئة واسعة فيها تنافس شديد. وغالباً ما تكون هذه الخيارات معقدة لأن المسائل الأخلاقية، والاجتماعية، والسياسية الضمنية من النوع الدائم التغير على الأرجح، وهي عصية على التحليل البسيط. فإذا أراد القادة انتقاء أفضل الخيارات الاستراتيجية وتنفيذها ضمن هذه البيئة، يجب عليهم (1) صياغة مبادئ سليمة تشكّل منارة لتوجيه الخيارات الاستراتيجية، و(2) التعامل مع القضايا الأخلاقية في وقت مبكر، و(3) الإبلاغ عن الخيارات وتنفيذها باتساق، و(4) التفاعل خارج نطاق القطاع للمشاركة في تحديد معالم السياق، و(5) التعلم من الأخطاء لانتقاء خيارات أفضل في المستقبل.

دعونا نتمعّن في التفاصيل الضمنية لهذه الأفعال.

الافتراض أن التجارة والسياسة يمكن أن تنفصلا أو يجب أن تنفصلا لم يعد واقعياً، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالقيم، والهوية، والأمن.

صياغة مبادئ سليمة

يمكن للجوانب المختلفة للعمل التجاري أن تُسيّس، والطرق التي يمكن أن يحصل بها ذلك كثيرة جداً إلى حد يصعب معه أن تكونوا قادرين على التنبؤ بجميع التحديات. فحتى بعض الشركات التي تستثمر في رسم السيناريوهات المسبقة فشلت في التنبؤ بالغزو الروسي لأوكرانيا. لكنكم يجب أن تحاولوا التنبؤ بالتحديات التي ستمس على الأغلب بعملياتكم، وأن تصيغوا المبادئ التي ستعينكم في معالجتها. وتحظى هذه المبادئ بأهمية خاصة لأنها تساعد في التعامل مع المسائل الأخلاقية والسياسية التي تختلف عن الأسئلة التحليلية للمالية أو التسويق لأنها غنية بالتفاصيل ولا يمكن تحديدها كمياً بسهولة. إذ لم يكن من السهل وضع تقدير كمي لغضب موظفي ديزني بخصوص التشريع الذي أصدرته ولاية فلوريدا للحد من مناقشة قضايا الأقليات، أو عدوانية حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس رداً على بيان ديزني بخصوص هذه المسألة.

علاوة على ما سبق، نادراً ما يمكن استنتاج حلول فريدة من نوعها للمشاكل الأخلاقية لأنها تستدعي دوماً إطلاق حكم أخلاقي ما. فإذا لم تكن قيمكم قد حُددت مسبقاً على شكل مجموعة من المبادئ، سيكون من المستحيل اختيار مسار معقول ومنطقي للتصرف بناءً على وقائع الحالة فقط. لا بل أكثر من ذلك، القضايا الأعقد هي في معظم الأحوال تقريباً هي الأكثر إثارة للجدل والانقسامات، سواءً ضمن شركة ما أو في العالم الخارجي أيضاً. وبالتالي، فإن امتلاك مبادئ مدروسة بعناية ومتفق عليها يمكن أن يساعد في التقليل إلى الحد الأدنى من التسييس غير الضروري والاستقطاب العاطفي في النقاشات الدائرة ضمن الشركة.

يجب أن تكون هذه المبادئ شاملة بما يكفي لكي تنطبق على المصادر الأساسية للتوتر السياسي الذي من المرجح أن تتعرض له شركة ما. فعلى سبيل المثال، يجب أن تكون هذه المبادئ مناسبة لجميع المناطق الجغرافية والولايات القانونية، وليس فقط في المناطق والولايات القانونية الواضحة والمألوفة. ويجب أن تكون واضحة بما يكفي لكي تساعد في توجيه عملية انتقاء الخيارات. "لا يجب أبداً الالتزام بدفع الرشى أو التغاضي عنها"، هو مبدأ بسيط وواضح، في حين أن مبدأ مثل "لا ترتكب شراً" أو "المساهمة في الرفاهية المجتمعية" ليسا بالمبدأ البسيط والواضح. كما يجب أن تكون المبادئ ذات طبيعة ملموسة بما يكفي لكي يتحدد ما إذا كانت قد طُبّقت أم لا. فالتزام تسلا بجعل براءات اختراعها مفتوحة المصدر من أجل دعم "منصة تكنولوجية مشتركة آخذة بالتطور السريع" بهدف محاربة التغير المناخي يمكن أن يخضع للتدقيق بسهولة وموضوعية.

إذا أردتم وضع هذه المبادئ، فإن الخطوة الأولى التي يجب أن تُقدِموا عليها هي فهم القضايا الاجتماعية والسياسية البارزة بالنسبة لشركتكم. أما الخطوة الثانية فهي وضع تصوّر لنقاط التقاطع المحتملة بين تلك المشاكل ونشاطكم التجاري، وكيفية حصول هذا التقاطع، والاختيارات التي قد تضطرون إلى الانتقاء بينها نتيجة لذلك. وتتمثل الخطوة الثالثة في الاستماع إلى آراء الموظفين بهذه القضايا وفهمها، لأنها وكما قلنا، غالباً ما تكون السبب الذي يدفع الشركات إلى اتخاذ موقف بخصوص القضايا السياسية.

بعد أن تكون الشركة قد أخذت هذه العوامل بالحسبان، بوسعها صياغة المبادئ التي ستوجّه خياراتها بخصوص الأماكن التي ستزاول فيها نشاطها، وطريقة مزاولتها لذلك النشاط.

يمكن اختبار المبادئ من خلال التنبؤ بالسياقات التي قد تمنعكم فيها واقعياً من فعل شيء ما، وماذا ستكون التكاليف الناتجة عن ذلك على مدار فترات زمنية مختلفة.

خذوا على سبيل المثال شركة مثل "ستاربكس" التي تدير أكثر من 34 ألف مقهى في أنحاء العالم في 83 سوقاً وتمثل أكثر من 3% من تجارة القهوة العالمية، حيث تشمل الشرائح التي تعمل فيها كلاً من القهوة المنزلية، والقهوة الجاهزة للشرب، وأقنية تقديم الطعام. ورغم الاتساع الهائل لنطاق عمل الشركة، إلا أنها تشتري مستلزماتها محلياً حيث تشمل هذه العمليات 400 ألف مزارع في 30 بلداً في أنحاء أميركا الوسطى، وأميركا الجنوبية، وإفريقيا، وجنوب شرق آسيا. وعندما تشتري "ستاربكس" البن، تتخذ عدداً لا حصر له من القرارات، بما في ذلك أي مزارع تريد العمل معها، وما هي المعايير البيئية والسلوكيات المتّبعة مع العمال التي تريد العمل بموجبها، وكيف تدفع المال للمزارعين، وما هي المنافع التي تريد تقديمها إلى مجتمعاتهم المحلية.

في السابق، كانت قوى السوق هي الأساس الذي يُستند إليه في اتخاذ هذه القرارات، لكن "ستاربكس" ومنافسيها تعرّضوا لضغوط متزايدة لكي يأخذوا بحسبانهم عوامل أخرى عند ممارسة أنشطة التوريد. لذلك قررت "ستاربكس" في 2004 تحويل التزامها بالمعايير الأخلاقية في التوريد إلى نظام محدد، لتكون أول شركة في قطاع القهوة يتقدِم على خطوة من هذا النوع. وتعاونت الشركة مع المنظمة الدولية للحفاظ على البيئة لوضع "الممارسات العادلة للقهوة والمزارعين" التي تحدد المعايير الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية لبرنامج المشتريات الخاص بها.

تعتبرُ المبادئ التي تنص عليها "الممارسات العادلة للقهوة والمزارعين"، مثل "يجب أن يحصل العمال المؤقتون والموسميون بانتظام على حد أدنى قانوني للأجور منصوص عنه على المستوى الوطني أو الإقليمي" واضحة، ومستندة إلى القيم، وقابلة للتحقيق. ويتضمن كل مبدأ سياسات واضحة للإنفاذ، وهناك جهة خارجية ترصد عملية التحقق والالتزام في المزارع، وتشير إلى أي تقصير في حال حصوله. ومن خلال لجوء "ستاربكس" استباقياً إلى إنشاء "الممارسات العادلة للقهوة والمزارعين" والمسارعة إلى إصلاح الخلل في حالات عدم الامتثال، حفزت شبكة مورّديها على تحسين ممارساتهم، وحوّلت التقارير عن الإساءات من كوارث عامة محتملة إلى براهين على التزاماتها الواضحة.

ستشكل المبادئ الجديدة موجهاً للقرارات التجارية المستقبلية، وقد تتطلب إدخال تغييرات فورية على عمليات الشركة إذا كانت تتعارض مع مبادئ سابقة. والالتزام بها يعني أن الشركة ستنتقي الخيار المنسجم مع مبادئها السامية وليس القرار الأنسب تجارياً، عندما تقتضي الضرورة. من المؤكد أن وضع تنبؤات مثالية لما سيحصل في المستقبل غير ممكن. لكن الاستثمار في عملية التفكير هذه يمكن أن يقلل من احتمال حدوث مشاكل غير متوقعة، وأن يحد من القرارات المتسرعة والمرتجلة.

التعامل مع المسائل الأخلاقية في وقت مبكر

تماماً كما يتوجب على أي شركة أن تقيّم أين تعمل على أساس الجاذبية المحتملة للأسواق، والاتجاهات الآخذة بالتطور، والتحركات المتوقعة من المنافسين، تحتاج الآن أيضاً إلى توقع التحديات الأخلاقية الناشئة، واستباقها، والتحكم بمسارها. وقد يتطلب ذلك درجة عالية من القدرة على حل المشاكل بطريقة خلاقة، لكنه غالباً ما يضمن للجهات التي تتحرك باكراً سمعة طيبة للغاية في أوساط عامة الناس، ومزايا استراتيجية كبيرة جداً. فعندما تحتل مسألة ما عناوين الصفحة الأولى في الصحف، ستكون المعسكرات السياسية قد تخندقت، وبالتالي سيصبح هامش المناورة لدى الشركة محدوداً.

يتطلب توقّع التحديات الأخلاقية ومواجهتها إجراءات تحتاج إلى موازنة دقيقة وحساسة. فقد تكون الشركات الفردية قادرة على التحرك في وقت أبكر وبقدر أكبر من السيطرة، لكن المسائل والقضايا المعقدة قد تستدعي في نهاية المطاف تحركاً جماعياً، غالباً ما تتصدى له إحدى الشركات الرائدة في السوق. وفي بعض الأحيان، يمكن لمزيج من المبادرات الجماعية والفردية أن يبني حالة الزخم، وأن يؤثر في القضية، وأن يمنح مزايا تفضيلية للجهة المبادرة. ففي مطلع الألفية الثانية، واجهت عملاقة مناجم الألماس "دي بيرز" (De Beers)، حالها حال الشركات الرائدة الأخرى في قطاعها، أزمة كادت تعصف بوجودها. فقد كانت مجموعات حقوق الإنسان تدق ناقوس الخطر بخصوص ما يسمّى "ألماس مناطق النزاعات"، وهي الحجارة المشتراة من المناطق التي يسيطر عليها المتمردون وغالباً ما كانت تستخرج باستعمال ممارسات غير إنسانية أو بواسطة العمل القسري القائم على الاستعباد، بحيث تذهب العوائد لتمويل الحروب الوحشية. ورغم أنها كانت تمثّل أقل من 5% من المعروض العالمي من الألماس، وكانت تستخرج من دول غير تلك التي كانت "دي بيرز" تعمل فيها، إلا أن هذا "الألماس الدموي" كان يمكن أن يتسبب بتلطيخ سمعة صناعة بأكملها، وتدهور ثقة المستهلكين، وأن يقود إلى مقاطعة شاملة وكاملة.

كانت الضرورات الأخلاقية والضرورات التجارية واضحة. لذلك سارعت "دي بيرز" إلى الإعلان عن الطريقة التي تضمن بها عدم شراء الألماس وبيعه إلا من مناطق خالية من النزاعات. لكن طول سلسلة القيمة الممتدة من المنجم إلى الأصبع ووجود شبكة تهريب معقدة أفسحا المجال أمام خطر دخول أحجار ألماس غير شرعية إلى سلسلة التوريد العالمية. لذلك كانت حماية الصناعة وضمان ثقة المستهلك تتطلبان حلولاً فريدة من نوعها.

عملت "دي بيرز" مع شركات أخرى في القطاع ومع الأمم المتحدة لإنشاء نظام عملية كيمبرلي لمنح شهادات دولية للألماس من المناطق الخالية من النزاعات. لكن "دي بيرز" مضت أبعد من ذلك، حيث أصدرت مجموعة شاملة من المعايير أطلقت عليها اسم "مبادرة الممارسات الفضلى" للتصدي لطيف من المخاطر التي تطال سلسلة الإمداد والتوريد الخاصة بها، وميّزت نفسها استراتيجياً بوصفها "الأفضل في القطاع" في مجال تحرّي أصل الألماس. وشمل ذلك إجراءات مثل الاقتصار على شراء الألماس من المناجم المملوكة من الشركات، وتطوير نظام "تريسر" (Tracr) وهو نظام بلوك تشين الوحيد الخاص بالألماس الموزع في العالم لتقديم سجلات لا يمكن دحضها لأصل الأحجار الكريمة. ويستعمل هذا الحل الذي طبّق للمرة الأولى في عام 2018 الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وتكنولوجيات متقدمة في مجال الأمن والخصوصية لتمكين "دي بيرز" من تقديم ضمانات لا تخص أصول الألماس فحسب، وإنما أيضاً الأثر الإيجابي للشركة على الناس والأماكن المرتبطين بسلسلة الإمداد والتوريد الخاصة بها (الذي يدعمه إطارها الخاص بالاستدامة والمسمّى "البناء إلى الأبد").

وها هي "دي بيرز" تستفيد مجدداً من مركزها لحماية القطاع الذي تعمل فيه، وتقوية علامتها التجارية من خلال تصدّر حملة تهدف إلى توسيع تعريف ألماس مناطق النزاعات، وبالتالي توسيع نطاق نظام عملية كيمبرلي وتغطية طيف أوسع من مخاطر سلاسل الإمداد والتوريد. وفي هذه الأثناء، تستعمل "دي بيرز" نظام "تريسر" لتقديم معلومات حول أصل الألماس للعديد من الزبائن الذين يطلبون ضمانات إضافية في ضوء العقوبات المفروضة على الألماس القادم من روسيا.

لا تتمتع المبادئ بالمصداقية إلا إذا طبّقت باتساق. لذلك يجب أن تكون جزءاً من الآليات اليومية لاتخاذ القرارات التجارية.

الإبلاغ عن الخيارات وتنفيذها باتساق

غالباً ما سيحصل تصادم بين المبادئ والواقع، إما في العمليات اليومية أو في التخطيط لمستقبل المؤسسة، لذلك لا بد من إبلاغ جميع الموظفين بهذه المبادئ، ويجب أن يفهموها. وبما أنها ستؤثر على توقعات أصحاب المصلحة خارج الشركة، فإنها يجب أن تُعلَن على الملأ بشفافية.

غير أن القادة لا يجب أن يبالغوا في رفع صوتهم عند الإبلاغ والتواصل. فليست الغاية الاستفزاز، أو المواجهة، أو الإحراج، وإنما إيصال رسالة حول العناصر التي توجّه عملية اتخاذ القرارات في الشركة، والتقليل من المفاجآت والإشكاليات في المستقبل. فديزني لم تكن تخدم مصلحتها عندما استعملت الصوت العالي إذا جاز التعبير في خصامها مع ديسانتيس. ولربما كان بيانها قوي اللهجة جاذباً في أعين موظفيها، لكنه شكّل استفزازاً مثيراً لحاكم الولاية.

لا تتمتع المبادئ بالمصداقية إلا إذا طبّقت باتساق. لذلك يجب أن تكون جزءاً من الآليات اليومية لاتخاذ القرارات، وليست مجرّد شعارات تستدعى استجابة لضغوط تحدث بعد انفجار وضع ما. كما أن التعامل مع الأبعاد السياسية للعمل التجاري صعب بما يكفي أصلاً ناهيكم بالاضطرار أيضاً إلى شرح أسباب التواصل أو التطبيق غير المتسقين، ومعالجة هذا الوضع. كما أن المبادئ التي تكون موضوع تواصل فقط ولا تطبّق على أرض الواقع لن تكون لها مصداقية مع مرور الوقت، أو قد لا تكون فاعلة في مواجهة المخاطر.

عند تطبيق المبادئ التي تتبناها شركة معيّنة، لا يجب أن تكون غايتها إطلاق الأحكام على أصحاب المصلحة والأوضاع عن بعد أو النأي عنهم، وإنما يجب أن يكون الهدف هو التفاعل مع القضايا وحلها بشكل استباقي وبأسلوب قائم على التعاون كلما سنحت الفرصة. فالشركة التي تقف ضد الفساد ستترك أثراً إيجابياً أكبر إذا ما عملت مع أصحاب المصلحة الآخرين لمعالجة تلك القضية وتحسين السياق، حتى لو اضطرت في نهاية المطاف إلى اتخاذ قرار بخصوص ما إذا كانت ستبقى تعمل في المجال المعني، أم أنها ستضطر إلى مغادرته.

بما أن الخروج أو الانفصال هو أحد النتائج المحتملة من حيث المبدأ، يجب الاستعداد لخيارات الخروج المنظم إلى جانب تقديم تفسيرات واضحة لسبب ابتعاد الشركة.

ولا بد على الدوام من وجود خطة بديلة للتعامل مع الحالات التي تتعرض فيها المبادئ للخرق. كما أن الخروج لا يعتبرُ بالضرورة متناقضاً مع مواصلة التعاون مع الآخرين في العمل على مسألة ضمنية معينة، أو مع التفاعل معهم من جديد عندما يتحسن الوضع.

تعدُّ "سي في إس هيلث" (CVS Health)، التي تشمل سلسلة صيدليات "سي في إس" الأميركية مثالاً جيداً على التعامل بالطريقة الصائبة في التواصل والتنفيذ. ففي السابق، كانت سلاسل مثل "سي في إس"، و"وولغرينز" (Walgreens)، و"رايت أيد" (Rite Aid) تشكّل متاجر مهمة لتلبية احتياجات المجتمع، فقد كان سكان المنطقة لا يكتفون بشراء الأدوية منها، وإنما يشترون أيضاً بعض الأساسيات المنزلية مثل مناديل الحمام، والمنظفات، والقرطاسية، لا بل كانوا يشترون منها السجائر والمشروبات في بعض الأماكن. أما خلال العقد الماضي، فقد تزايد انخراطها في تقديم الرعاية الصحية مثل إعطاء لقاحات الإنفلونزا، وتقديم الرعاية الأساسية، ومراقبة الحالات المزمنة، وغير ذلك من الخدمات. ومع تزايد تقديم هذه السلاسل للخدمات الصحية، أصبحت منتجات التبغ المضرة بالصحة الموضوعة على الرفوف أكثر بروزاً للعيان، ما أظهر وجود تعارض بين مبادئ هذه الشركات وأرباحها، وهذا بدوره شكّل فرصة سانحة لشعور الناس بالغضب.

في فبراير/ شباط من عام 2014، أصبحت "سي في إس" أول سلسلة صيدليات على المستوى الوطني في أميركا تعالج هذا التناقض من خلال التوقف عن بيع منتجات التبغ، وهو قرار أدى إلى خسارة سنوية تبلغ ملياري دولار في الإيرادات. ولكن بالنسبة لقادة الشركة، كانت إزالة التبغ عن الرفوف أمراً إلزامياً يتجاوز المبيعات، لأنه كان قراراً أساسياً لتطبيق مبادئهم العامة باتساق ودون تناقض.

اتّخذ منافسو "سي في إس" الأساسيون إجراءات جزئية، حيث رفعوا الحد الأدنى لعمر الشخص الذي يُسمح له بشراء منتجات التبغ إلى 21 لكنهم واصلوا بيعها، وواجهوا تدقيقاً متنامياً من عامة الناس نتيجة لذلك. تمكنت "سي في إس" من تفادي الخضوع للتدقيق، واستعملت الفعل الذي أقدمت عليه كعنصر محفز لإنجاز عملية تحوّل ناجحة أصبحت بموجبها شركة للرعاية الصحية. وفي سبتمبر/ أيلول 2014، غيّرت "سي في إس" اسم علامتها التجارية ليصبح "سي في إس هيلث" (CVS Health) مضيفة بذلك كلمة "صحة" إلى اسمها؛ وفي 2018 استحوذت على شركة "إيتنا" (Aetna)؛ وطوال فترة الجائحة عززت عملياتها بوصفها أماكن أساسية لإجراء اختبارات كوفيد-19 والحصول على اللقاحات ضده. تقول مديرة الشركة ورئيستها التنفيذية كارين لينش: "بنينا أنفسنا ونواصل إعادة بناء أنفسنا كشركة متخصصة بالرعاية الصحية لديها غاية واضحة هي "التعامل من صميم قلبنا مع كل ما يخص صحتكم"".

التفاعل خارج نطاق القطاع

ثمة حدود للسلطة التي يمكن للشركات أن تمارسها فردياً، أو حتى بالتعاون مع المنافسين، وهي ستكون بحاجة في أغلب الأحيان إلى العمل مع المجتمع المدني والحكومة على القضايا الأصعب والأكثر ترسخاً بعمق من أجل إحداث التغيير المنشود. لذلك، يجب أن تشارك بفاعلية في المنتديات القائمة المعنية بالحلول، وأن تساعد على إنشاء منتديات جديدة من هذا النوع عندما تقتضي الضرورة. أما البديل المكلف فهو قبول حالة لا يمكن التنبؤ فيها بالمستقبل وتنطوي على سلسلة لا نهاية لها من الحلول المرتجلة، أو الاضطرار إلى الخضوع إلى تشريعات تُفرَض على القطاع بسبب الأثر غير الكافي الناتج عن جهودها الذاتية. وهناك قضايا جديدة مهمة يمكن بناء حالة إجماع حولها. أحد الأمثلة على ذلك هو تطبيقات الذكاء الاصطناعي. فخلال العقد الماضي، انتشر الذكاء الاصطناعي المعتمد على الخوارزميات على نطاق واسع، حيث باتت 99% من شركات "فورتشن 500" تعتمد الآن على برمجيات لغربلة طلبات التوظيف، بينما يستعمل 55% من مسؤولو الموارد البشرية في الولايات المتحدة الخوارزميات التنبؤية في عمليات التوظيف.

لكن صعود أنظمة التوظيف المعتمدة على الذكاء الاصطناعي بات مشوباً بالجدل، بما أن غياب التشريعات الخارجية ومحدودية المعايير الموضوعة ذاتياً ضمن القطاعات المختلفة سمحا لهذه الأنظمة بممارسة التحيز وإعطاء نتائج فيها تمييز. ففي نهاية المطاف، تعكس الخوارزميات النيات والتحيزات الموجودة لدى مبرمجيها والبيانات المستعملة لتدريبها. ودون وجود تصميم متأن وشفافية بخصوص النتائج، فإنها يمكن أن تصبح مصدراً أساسياً للإشكاليات.

في مواجهة هذه القضية الناشئة، سعت "باي متريكس" (Pymetrics) المتخصصة ببيع برمجيات التوظيف المعتمدة على الخوارزميات إلى تغيير القطاع من الداخل ومارست الضغوط الاستباقية من أجل طرح تشريعات قانونية. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، ضمت "باي متريكس" جهودها إلى جهود مجموعة من الشركات الأخرى المتخصصة ببيع البرمجيات، ومجموعات من المجتمع المدني، ومستخدمي البرمجيات من الشركات، وعملوا مع بلدية مدينة نيويورك لإصدار أول تشريع في أميركا يحدد معايير استعمال الذكاء الاصطناعي بطريقة غير قائمة على التحيز في عمليات التوظيف. ومن وجهة نظر فريدا بولي، الرئيسة التنفيذية لشركة "باي متريكس" كان تأطير النقاش والتنظيم الذاتي ضروريين لسلامة القطاع وسلامة شركتها: "بات المستهلكون يفقدون ثقتهم بالتكنولوجيا، وهناك تهديد حقيقي من أن يفرض الآخرون التشريعات إذا لم نتحرك بأنفسنا للمطالبة بإصدارها. فالجميع، بمن فيهم شركتنا، يخسر عندما تسهم التكنولوجيا في المحافظة على ديمومة حالة التحيز".

التعلم من الأخطاء

حتى لو كانت لديكم أفضل النيات والتحليلات، فإن القضايا السياسية والاجتماعية معقدة بطبيعتها، ولا يمكن التنبؤ بها بسهولة، ما يعني أن المفاجآت والأخطاء حتمية. وعندما تحصل، من المهم بمكان استخلاص الدروس والعِبر، والعمل بموجبها، والاستفادة من الأزمات لتحقيق أثر إيجابي. وفي نقاشاتنا مع التنفيذيين في الشركات، وجدنا أن بعضاً من أكثر المؤمنين البررة كانوا من الخطائين التوابين التي كانت عمليات التحول التي اضطلعوا بها ناتجة عن فضائح علنية سابقة.

مرّت عملاقة الهندسة الكهربائية "سيمنس" بلحظة تاريخية ومنعطف حاسم عندما كشف تحقيق دولي النقاب عن أن الشركة كانت قد دفعت 1.4 مليار دولار على شكل رشى للمسؤولين الحكوميين في آسيا، وإفريقيا، وأوروبا، والشرق الأوسط، والأميركيتين على مدار عدة عقود. وقد خضعت "سيمنس" للمساءلة، وواجهت انتقادات علنية حادة. لكنها استغلت تلك اللحظة لتكون دافعاً لإطلاق عملية تغيير داخلي شامل.

بدأت "سيمنس" بتنظيم شؤونها الداخلية، حيث عيّنت أول رئيس تنفيذي لها على الإطلاق في تاريخ الشركة قادم من خارجها أروقتها هو بيتر لوشير، الذي كان في غضون أشهر من تولّيه المنصب قد استبدل ما يقرب من 80% من كبار التنفيذيين من المستوى الأول، و70% من التنفيذيين من المستوى التالي، و40% من التنفيذيين من المستوى الأدنى منه. بعد ذلك، أعلنت الشركة عن التزامات صادقة وبعيدة المدى للتكفير عما فعلته في الماضي، فقد دعمت التحقيقات الحكومية وأنشأت "مبادرة سيمنس للنزاهة" وهي مبادرة جماعية تهدف إلى تمويل العمل الجماعي الرامي إلى التقليل من الفساد ما سمح للشركة بالاستمرار في تقديم عروض للحصول على عقود حكومية. وحتى يوليو/ تموز 2021، كانت محفظة المبادرة تضم 85 مشروعاً في أكثر من 50 بلداً مع الالتزام بتقديم تمويل تصل قيمته إلى ما يقرب من 120 مليون دولار.

أخيراً، كانت الخطوة الأهم لسيمنس هي الاستفادة من الفضيحة لإحداث تحوّل في ثقافتها، وزيادة رشاقتها في العمل. فبحسب كلمات لوشير: "لا تضيّعوا أبداً الفرص الناتجة عن أزمة جيدة، ونحن بالتأكيد لم نفوّت فرصنا. فقد تسببت الأزمة بنشوء إحساس بالعجلة والإلحاح كان تحقيق التغيير لولاه ليكون أصعب بكثير". ركز لوشير وفريقه من جديد على النشاط التجاري، وقللوا من مستويات الإدارة في الشركة، وغيّروا الطريقة التي يتخذ بها مجلس الإدارة القرارات بحيث أعادوا ضبط نظام التحكم والسيطرة الذي كان قد ساعد على حصول الفضيحة، مع تغيير موقع الشركة في السوق بطريقة تسمح لها بالنجاح (للمزيد من التفاصيل، راجعوا "الرئيس التنفيذي لسيمنس متحدثاً عن الاستفادة من الفضيحة لقيادة عملية التغيير"، هارفارد بزنس ريفيو، نوفمبر/ تشرين الثاني 2012).

نعتقد أن عوامل مثل استمرار صعود الصين، ووجود حالة من عدم الاستقرار على أعتاب أوروبا، وتصاعد الاستقطابين الاقتصادي والاجتماعي، ستسهم في زيادة التوترات الناجمة عن التقاطع بين عالمي السياسة والأعمال. وقد حان الوقت لقبول السياسة وتبنّيها بوصفها جزءاً من الخيارات الاستراتيجية، وبناء الأدوات والقدرات المطلوبة لفعل ذلك. لكن الرؤساء التنفيذيين لا يجب أن يخلطوا بين أنفسهم وبين السياسيين أو الجهات المعنية بالرقابة الأخلاقية. وإنما يجب عليهم التركيز على ما يقع ضمن نطاق عملهم، وإن كان ذلك يجب أن يتم في سياق جديد. إذ يجب عليهم أن يكونوا روّاداً في المصداقية، والجدارة بالثقة، وحيوية شركاتهم من خلال تقدير القوى الأعم والأبعد مدى التي لها دور حاسم ومؤثر ضمن بيئتهم. كما يجب عليهم أن يستعملوا ما تعلّموه عن هذه القوى لانتقاء خيارات مدروسة، والإبلاغ عنها وتنفيذها باتساق، والتفاعل بشكل استباقي مع الجهات الأخرى من أجل رسم معالم السياق الذي يزاولون النشاط التجاري فيه.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي