يمكن أن يصبح قضاء يوم عملك أصعب بكثير من المعتاد إذا كنت تواجه مشكلات نفسية، وليس بالضرورة أن يكون حجم العمل أو نوعه هو ما يفاقم الاكتئاب أو القلق أو أي مشكلة نفسية أخرى، بل يكون السبب أحياناً ببساطة هو تعارض تنظيم يوم العمل مع نظام يومك الطبيعي أو المشكلات النفسية التي تعانيها. يمكنك تنظيم يوم عملك بالاستفادة من وعيك الذاتي وإجراء بعض التجارب والموازنة بين احتياجاتك ومسؤوليات وظيفتك؛ وستتمكن من تعزيز صحتك النفسية وإنتاجيتك على حد سواء من خلال بناء عادات قوية لتخصيص الوقت المناسب للعمل العميق والمركز، وإنشاء روتين للتقدم في المهام ذات المواعيد النهائية غير الواضحة أو الطويلة الأجل، وتخصيص أوقات للتفكير في أمور بعيدة عن العمل والاستفادة من وقت الاستراحة من التركيز في العمل.
يمكن أن يصبح قضاء يوم عملك أصعب بكثير من المعتاد إذا كنت تواجه مشكلات نفسية، وإذا كانت أعباء عملك تفاقم قلقك أو اكتئابك أو غيرها من المشكلات النفسية فاللوم لا يقع دائماً على حجم العمل أو نوعه، فأحياناً يكون السبب عدم تنظيم يوم عملك بطريقة تتناسب مع نظام يومك الطبيعي أو المشكلات النفسية التي تعانيها.
يساعد حُسن تنظيم يوم عملك على التعامل مع مجموعة واسعة من الصعوبات، بدءاً من الاكتئاب والقلق وصولاً إلى اضطراب نقص الانتباه مع فرط الحركة والاضطراب الثنائي القطب، لكن لا يتوافر نموذج موحّد ليوم العمل الذي يحافظ على الصحة النفسية، فما يناسبك يعتمد على معرفتك بنفسك وتجربتك وموازنة احتياجاتك مع احتياجات الآخرين.
إذاً كيف يمكنك تحديد النهج الأكثر فعالية بالنسبة لك؟ سأشرح أولاً بعض الاستراتيجيات المرتبطة بمشكلات نفسية محددة، ثم سأناقش إدارة الوقت الداعمة للصحة النفسية عموماً.
استراتيجيات لمواجهة مشكلات نفسية محددة
لنبدأ ببعض النصائح التي قد تكون مفيدة لمن يعانون مشكلات نفسية شائعة.
القلق والاكتئاب
قد يكون القلق أو الاكتئاب مزمناً أو مؤقتاً، ولكن بغض النظر عن ذلك، فإنه يزيد احتمالات تجنبك مواقف معينة ولجوئك للتسويف. على سبيل المثال، قد تشعر بحساسية شديدة تجاه أي إشارات تدل على عدم رضا شخص ما عن عملك، ولكن قد تتجنب أيضاً مواجهتها بدلاً من معالجتها مباشرة. إذا كان ذلك ينطبق عليك، ففكر في تنظيم يوم عملك بطريقة تجعل التجنب والتسويف أصعب. على سبيل المثال، حدد مهلات زمنية قصيرة لإنجاز مراحل المشروع بدلاً من تحديد موعد نهائي واحد للمشروع كله، أو خصص وقتاً محدداً كل يوم لإحراز تقدم بسيط على الأقل في مهمة تتجنبها. سيمنع إحراز تقدم في المهام التي تفضّل تجنبها تفاقم التوتر.
اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط
يؤدي العديد من المشكلات النفسية إلى صعوبة أكبر في التخطيط واستيعاب الصورة الكاملة، وهذا الجانب مؤقت في مشكلات مثل الاكتئاب، لكنه يصبح مزمناً في حالات أخرى مثل اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط. إذا كنت تواجه صعوبات في التخطيط، فحاول طلب المساعدة من الآخرين إذا كانوا مستعدين لتقديمها. على سبيل المثال، اطلب من عميلك تحديد مواعيد نهائية لكل مرحلة من مراحل المشروع، أو اجعل التخطيط التعاوني جزءاً ثابتاً من جدول عملك.
الاضطراب الثنائي القطب
يواجه بعض الأشخاص الذين يعانون اضطرابات المزاج، وخاصة الاضطراب الثنائي القطب، صعوبات جمّة عندما يتزعزع روتينهم اليومي. على سبيل المثال، إذا طُلب منك العمل بنظام الورديات أو حضور مؤتمر يتطلب السفر جواً في الصباح الباكر. إذا كان الالتزام بجدول عمل منتظم ضرورياً لصحتك النفسية، ففكر في مناقشة التعديلات الممكنة مع مديرك.
المشكلات النفسية الأخرى
ثمة العديد من الأمثلة للتسهيلات التي يمكنك طلبها في الولايات المتحدة من خلال البحث عبر الإنترنت أو زيارة موقع لجنة تكافؤ فرص العمل (EEOC)، ومن المهم لأي شخص يعاني أي نوع من المشكلات النفسية أن يتعرف على هذه الخيارات.
إذا كنت تواجه مشكلة نفسية دائمة، فمن المستحسن أن تستكشف الخيارات المتاحة في قانون الأميركيين المعاقين في أقرب وقت ممكن، قبل أن تتعرض لأي أزمة، لا تفترض أن مشكلتك لا تؤهلك للاستفادة من التسهيلات إذا كانت تستدعي ذلك من الناحية الموضوعية. اعلم أيضاً أن الدول تستخدم مصطلحات مختلفة في القوانين المتشابهة، فالولايات المتحدة مثلاً تستخدم مصطلح "التسهيلات" (Accommodations)، في حين تستخدم المملكة المتحدة مصطلح "التعديلات المعقولة" (Reasonable Adjustments).
يمكنك توضيح حالتك لمديرك إذا كنت مرتاحاً لذلك وتوضيح فائدة تسهيلات معينة بالنسبة لك، ويمكن للمعالج النفسي الذي يشرف على حالتك أن يساعدك على نقل المعلومات ذات الصلة فقط دون الإفصاح عن الكثير من التفاصيل الشخصية؛ يمكنه مثلاً كتابة رسالة إلى مديرك لشرح حالتك بطريقة مهنية وموضوعية تضمن عدم انزعاجك من المعلومات التي يكشف عنها.
عموماً، إذا كنت تعاني مشكلة نفسية فحاول ألا تضع نفسك في مواجهة تحديات مستمرة تفوق طاقتك، ولكن لا تتهرب تماماً من التحديات والمحفزات. على سبيل المثال، إذا كنت تعاني الرهاب الاجتماعي، فوزع الأنشطة التي تثير قلقك بين الأنشطة التي تشعر بالثقة في أدائها (بالنسبة لي شخصياً، ينطوي ذلك على العمل مع أشخاص مألوفين معظم الوقت، والعمل مع متعاونين جدد من حين لآخر أيضاً).
استراتيجيات يمكن للجميع تطبيقها
يمكن للخطوات التالية أن تساعد أي شخص على دعم صحته النفسية في العمل، سواء كان يعاني حالة مزمنة أو من حين لآخر أو في مكان ما بينهما. تعمل هذه الاستراتيجيات أيضاً مع الأشخاص الذين يعانون مشكلات نفسية تحت سريرية (على سبيل المثال، من يعانون قدراً معيناً من القلق ولكن ليس بدرجة كافية لتشخيصهم باضطراب القلق) أو الأشخاص الذين يسعون إلى تعزيز قدرتهم على تحمّل الصعوبات النفسية أو الانتكاسات. إذا كنت تعاني مرضاً نفسياً في الوقت الحالي، مثل الاكتئاب أو القلق الشديدين، فضع في اعتبارك أن العناية بالذات وإدارة الوقت ليستا بديلاً عن العلاجات الفعلية القائمة على الأدلة العلمية، والاستراتيجيات المذكورة هنا داعمة فقط، وليست علاجاً.
بناء عادات قوية تعزز العمل العميق
سيساعدك بناء عادات قوية في عملك، بما فيه من عمل عميق ومركّز، على الشعور بالسيطرة على حياتك وجدول عملك.
ما السبب؟ ينظّم الروتين الثابت أيامنا فيعزز شعورنا بالسيطرة، إذ تعتاد أدمغتنا أداء سلوكيات متسلسلة لتصبح في نهاية المطاف شبه تلقائية. من الأمثلة الشائعة على تحول السلوكيات إلى سلوكيات تلقائية هي قيادة السيارة: في غضون أشهر قليلة من تعلّم القيادة، نصبح معتادين تشغيل السيارة وربط حزام الأمان وتحرير الفرامل ثم النظر إلى المرايا، وذلك كله دون التفكير في الأمر. ينطبق المبدأ نفسه على عاداتك الإنتاجية إذا حرصت على العمل في مكان ووقت ثابتين؛ إذا خصصت للعمل العميق والمركز الحيز الزمني نفسه كل يوم، من الساعة 10 صباحاً إلى الظهيرة مثلاً، فسيصبح الحفاظ على هذه العادة أسهل وأكثر تلقائية بمرور الوقت، وحتى حين لا تكون في أفضل حالاتك.
لكن هذا لن يحدث إلا إذا كانت لديك عادات راسخة مستمرة. على سبيل المثال، إذا كنت تنجز عملك المُركز في الساعة 10 صباحاً أحياناً، وفي أحيان أخرى تحاول إنجازه في الساعة 1 ظهراً، فلن تحقق الفوائد الكاملة من قدرة العادات على تقليل حاجتك إلى بذل الجهد للانضباط.
يمكن لأي شخص الاستفادة من هذه الاستراتيجية، خصوصاً من يعاني مشكلة نفسية عرضية مثل الاكتئاب، أو يمر بفترات يضعف فيها تركيزه بسبب التوتر واجترار الأفكار أو القلق؛ في هذه الحالة، إذا كانت لديك عادات قوية للتركيز على العمل فمن المرجح أن تنجز عملك بفعالية. يمكن للحفاظ على عاداتك المهمة خلال الأوقات المثيرة للقلق أن يحميك من تدهور أدائك في العمل، ويمكن أن يساعدك على الحفاظ على استقرارك وتجنّب تراجع ثقتك بنفسك، وأن يضمن عدم تعرضك لضغوط إضافية من تراكم الأعمال غير المنجزة.
ضع روتيناً لإنجاز المهام ذات المواعيد النهائية البعيدة
قد يبدو التركيز على المهام التي يجب إنجازها في موعد نهائي وشيك أمراً بديهياً ومنطقياً، ولكن إذا كنت تنجز المهام العاجلة فقط فستشعر بفقدان السيطرة عموماً، أما حين تنجز أعمالاً صغيرة مهمة ليس لها مواعيد نهائية ولكن إنجازها ضروري فستشعر بأنك تدير حياتك بفعالية. لذلك خصص وقتاً منتظماً لإنجاز هذه المهام الإدارية الصغيرة، فهي تخلق ضغطاً نفسياً كبيراً، سواء كانت تتعلق بالتواصل مع زميل بشأن تعاون مستقبلي أو حجز موعد مع طبيب أو معالج نفسي؛ إذ تقول لنفسك "يجب أن أفعل ذلك" ولكنك لا تفعله، وتستمر هذه الأفكار بالدوران في رأسك. وفي نهاية المطاف تؤدي هذه المهام التي تنتقل باستمرار من يوم لآخر إلى خلق شعور بعدم الراحة.
في كتابي "إنتاجية دون إجهاد" (Stress-Free Productivity)، أشرت إلى أنه بمقدوري أداء المهام الإدارية على مدى ساعة تقريباً قبل البدء بالعمل العميق، دون أن يتأثر مقدار العمل العميق الذي أنجزه. في الواقع، أركز على أداء المهام الإدارية أولاً لأنني إذا حاولت إنجازها بعد الانتهاء من العمل العميق فسأكون مرهقة جداً، كما أن إنجاز مهمة "إدارية حياتية" واحدة على الأقل (مهمة لا علاقة لها بالعمل) كل يوم يمنعها من التراكم وخلق فوضى ذهنية وتوتر.
قد تختلف طبيعة عملك وطريقة تعاملك مع المهام عن أسلوبي، لكن المهم هو أن تراقب أنماط سلوكك وترتّب مهامك وفقاً لذلك. لنفترض مثلاً أنك لا تكون منتجاً فعلياً إلا 4 أيام في الأسبوع؛ بدلاً من مقاومة هذا الواقع فكر في تقبّله. إذا لاحظت أن كل ما تفعله آخر يوم في الأسبوع هو إنجاز المهام الروتينية فقط، فتقبّل هذا النمط وتحقق من صحته، وجرب تنظيم جدول عملك وفقاً له وأنجز المهام الضرورية في الأيام الأربعة الأولى من الأسبوع بدلاً من انتقاد نفسك بسبب ضعف تركيزك وانضباطك. يمكن أن يولد قبولنا لضعفنا أحياناً أثراً عكسياً؛ فالنقد الذاتي يستهلك طاقة كبيرة، وإذا توقفنا عنه فستتاح لنا طاقة أكبر لأداء أنشطة أكثر إنتاجية.
استفد من فترات عدم التركيز لإنجاز المهام
أحد الأسباب الرئيسية للشعور بالإرهاق الشديد في العمل هو فكرة خاطئة مفادها أنه يجب أن نستمر بالتركيز دون تشتيت طوال اليوم، وذلك غير ممكن وليس ضرورياً ولا محبذاً، خصوصاً عندما تحاول فعل أي شيء مبتكر.
من الأفضل عملياً، ومن ناحية الصحة النفسية، أن يتناوب عقلنا بين حالتي التركيز وعدمه، لأن أدمغتنا تخلق روابط إبداعية دون جهد خلال فترة الاستراحة من التركيز في العمل. على سبيل المثال، ألم تراودك فكرة عبقرية لمشروع ما في أثناء الاستحمام أو المشي؟ عندما لا نركز، تتضح المسارات التي كانت تبدو غامضة في أثناء تركيزنا فجأة، وتصبح المشكلات التي بدت مستعصية على الحل أبسط.
لذلك، بدلاً من محاولة إجبار عقلك على أداء مهمة تلو الأخرى، اسمح له بالاسترخاء والتجول بعد فترة من الإنتاجية، أنا شخصياً أفعل ذلك من خلال التنزه والخروج لقضاء حاجات متنوعة والأعمال المنزلية والأنشطة الترفيهية (مثل قراءة مقال إلكتروني في منتصف يوم العمل).
أجد أنه من المفيد للغاية أن أترك ذهني يتجول بعد جلسات العمل العميق أو عندما أشعر بالإرهاق من التفكير في ترتيب الأولويات، وحين أخرج في نزهة عندما أشعر بأن ذهني مشوش، فعادة ما يتولى عقلي المشتت مهمة ترتيب الأولويات والتنظيم نيابة عني. إذا تعثّرت في مهمة ما ولا تعرف الخطوة التالية، فاسمح لعقلك بالتجول قليلاً بدلاً من الانشغال بها، وستتمكن بهذه الطريقة من تقليب الأفكار بدلاً من قضاء وقتك في التحديق بصفحة فارغة طوال الوقت دون نتيجة.
يمكن أن تكون فترات عدم التركيز مفيدة جداً لمن يعانون مشكلات نفسية في العمل. على سبيل المثال، يحتاج شخص يعاني الرهاب الاجتماعي إلى متنفس للاستراحة بعد تلقي الملاحظات أو للتكيف مع أساليب عمل الزملاء الجدد. وبالمثل، يحتاج شخص مصاب بالاكتئاب إلى جرعات صغيرة من المتعة لتحسين مزاجه، مثل احتساء فنجان قهوة على مهل في مكان مشمس.
يجب أن يكون تخصيص وقت لفترات عدم التركيز جزءاً ثابتاً من روتينك، ربما يمكنك أن تخصص فترة الصباح للعمل العميق واعتبار فترة ما بعد الظهر فرصة تتيح لك التجول الذهني واكتشاف أفكار جديدة عفوية. بغض النظر عن نهجك، أرح عقلك بعض الوقت بأي طريقة كل يوم، وتذكّر أنه كلما انخرطت في مهام فريدة أو مبتكرة، احتجت إلى المزيد من وقت التوقف عن العمل للاستراحة من الجهد المبذول، إذ ينطوي العمل الشديد الصعوبة على عدة آثار عاطفية ونفسية، بما فيها خيبة الأمل وعدم اليقين والإحباط، وإذا كنت تتوقع أن تكون دائماً في قمة عطائك، فسوف تتجنب المهام المبتكرة والصعبة التي تتطلب فترات استراحة من التركيز في العمل.
ما يجب أن يعرفه المدراء
بصفتك مديراً، من المهم أن تفهم كيف يمكن للنصائح المذكورة أعلاه أن تعزز رفاهة فريقك وأداءه وأن تكون على دراية بالتسهيلات التي قد تساعد من يعانون مشكلات نفسية معينة، يمكنك تحقيق ذلك ببساطة من خلال البحث عبر الإنترنت أو التحدث إلى إدارة الموارد البشرية أو دعوة مختص نفسي لإجراء جلسة تعريفية حول ذلك في مكان عملك. بالنسبة للخيار الأخير، اشرح للمختص النفسي مسبّقاً كيف يسير العمل في مكان عملك حتى يتمكن من اقتراح أنماط المرونة التي لن تعطل العمل.
استفسر من موظفيك عن الصعوبات التي تواجههم وكيف يمكنك مساعدتهم، والأهم هو ألا تصدر حكماً سلبياً عليهم بسبب المشكلات النفسية التي يعانونها، فالصعوبات التي يواجهونها لا تحدد مواهبهم أو التزامهم أو جودة عملهم. وبما أن الموظفين قد يترددون في طلب التسهيلات، ذكّر فريقك بانتظام أنك تتقبل طلباتهم وترحب بالمحادثات الصادقة حول المشكلات النفسية التي يواجهونها. كن مبتكراً قدر الإمكان في توفير التسهيلات، فدورك يتمثل في إبراز أفضل ما في موظفيك، وستحقق ذلك من خلال دعم صحتهم النفسية بالطرق التي يطلبونها.
لا يتعارض تنظيم يوم العمل بطريقة تدعم الصحة النفسية بالضرورة مع تنظيمه بما يحقق الأداء الأمثل، وباتباع النصائح الواردة في هذه المقالة، ستشهد تحسينات في كل من رفاهتك النفسية وإنتاجيتك.