إدارة التعددية الثقافية والتنوع قوة محركة لتعزيز الأداء والابتكار

5 دقائق
إدارة التعددية الثقافية والتنوع
shutterstock.com/Muhammad Afiq artz
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

التغيير الجذري الذي يعرفه العالم خلق توجهاً جديداً للاقتصاد العالمي الذي أصبح أكثر اعتماداً على المعرفة والمعلومات بدلاً من الإنتاج الكمي. وفي ظل هذه التحولات التي تشهدها بيئة الأعمال التي أصبحت أكثر تعقيداً، تواجه الشركات والمؤسسات نوعاً جديداً من التحديات والعقبات لضمان استمراريتها ومواكبة المتغيرات المتسارعة، وأصبحت القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها أداء المؤسسات هي خلق ميزة تنافسية بهدف احتلال موقع سباق في السوق يؤهلها لأن تتفوق على منافسيها في القطاع الذي تنشط فيه. فهل إدارة التعددية الثقافية والتنوع يمكن أن تحقق أهداف هذه الشركات في تعزيز الأداء والابتكار؟

ترتب عما سبق ذكره اعتبار الإبداع من أهم مقومات القدرة التنافسية، حيث أصبح التوجه الإبداعي أو الابتكاري ضرورة حتمية على مستوى المؤسسات الصغرى والشركات الكبرى، بل وحتى على مستوى الدول والحكومات. وأصبح عامل الميزة التنافسية مرتبطاً بالقدرة على تبني توجهات إبداعية على كل المستويات. لذلك تتجه المؤسسات إلى أخذ قرارات متعددة لإحداث سبق تنافسي، فتتسارع إلى اكتشاف طرق جديدة سواء بتحسين وتطوير منتجاتها، أو خدماتها، أو تحسين طريقة التسويق والتواصل مع العملاء بالإضافة إلى تحديث أنظمتها الإدارية واستقطاب تكنولوجيات جديدة، إلى غير ذلك من الاستراتيجيات التي تصبو إليها لتثبيت مكانتها وتوسيع حصصها في السوق.

الرأسمال الفكري: موارد وأصول المستقبل التنافسية

من أهم مميزات ثورة العلم والتقنية وحركة المتغيرات العولمية ارتفاع الأهمية النسبية للأصول التي يطلق عليها الرأسمال غير المادي أو غير الملموس، إذ أصبحت تشغل قيمة مهمة في أصول الشركات والمؤسسات.

وتلخص هذه الأصول في المعرفة المكتسبة من الموارد البشرية، والتي اكتسبت عبر الخبرة والتجارب الشخصية وتطورت بالتدريب المستمر والتطبيق الفعلي والتوجيه والمساندة من المدراء والقادة، وعبر تبادل الأفكار والخبرات مع الزملاء في فرق العمل، والتواصل مع العملاء، ويمكن القول أيضاً إن عبارة الرأسمال الفكري أو رأس المال البشري المتداولة تمثل في البيئة العملية الراهنة أكبر قوة تنافسية، والتي من شأنها المساهمة في ضمان الأداء المتميز والاستمرارية وتعزيز الإبداع والابتكار خاصة إذا تم تبني سياسة تنوع القوى العاملة وإدارة ذلك التنوع بأسلوب فاعل ومجدٍ.

إدارة التنوع في القوى العاملة: إجراء قانوني أم فرصة لتطور الأعمال؟

في العالم الذي نعيش فيه اليوم، تزيد ندرة المجتمعات والأسواق والبيئات المتجانسة. لقد أصبح العالم قرية صغيرة وبات التنوع الثقافي واقعاً ملموساً، مع توسع الأسواق وعولمة التعليم ووسائل التواصل المتقدمة. لقد تنوعت ثقافات الأشخاص فأصبح من الطبيعي أن شخصاً من الصين، على سبيل المثال، يدرس بأميركا ويعمل في شركة عالمية بفرنسا لتنقله بعد ذلك إلى الشرق الأوسط. التعامل مع شخص مماثل بمعرفتنا عن الثقافة الصينية المحضة من شأنه أن يخلق سوء فهم على مستويات مختلفة. لذلك ظهر اليوم مصطلح “المواطنين العالميين” الذين يعملون ويتعايشون مع ثقافات متعددة تؤثر في طريقة تفكيرهم وأسلوبهم كموظفين أو مستهلكين أو قادة فرق وغير ذلك. إن الإلمام بهذه المفارقات داخل الشركات أصبح ذا أهمية قصوى على مستوى استقطاب الكفاءات وإدارة الموارد البشرية.

التنوع في القوى العاملة حقيقة واقعة وليست بالمفهوم الجديد، لكن أسباب تنوع القوى العاملة تغيرت عبر التطورات التي تشهدها الساحة الاقتصادية. لقد ظهرت سياسات إدارة التنوع بسبب القيود القانونية والمطالبة بتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص بين الأفراد، سواء للذكور أو الإناث، ومن أعراق ومعتقدات مختلفة، وطبقات اجتماعية مختلفة، لتشمل بعد ذلك ذوي الاحتياجات الخاصة (أصحاب الهمم من ذوي الإعاقة) وغيرها من فئات المجتمع التي ناضلت للحصول على حقوقها. لكن مفهوم إدارة التنوع تعدى تلك الأبعاد المتعارف عليها، فإدارة التنوع في القوى العاملة اليوم تعني الوعي بالفروق والاختلافات الفردية على مستوى الفئات العمرية والأفكار والأجيال والمهارات الشخصية والقدرات النفسية وأسلوب الإدارة والحوافز، وكذلك التجارب الشخصية التي تؤثر في طريقة التفكير والتعامل مع الأنظمة والأشخاص.

وتعمل إدارة التنوع الفاعلة على تبني وبناء التنوع الثقافي في المؤسسة ضمن ثقافتها الداخلية لتصبح حاضنة للكفاءات بغض النظر عن الاختلافات الموجودة بينهم، والمؤسسة الناجحة في إدارة التنوع هي التي تتبنى سياسة أكثر شمولية تندمج فيها الأعراق والثقافات والخصائص الأخرى لتعطي نتائج متميزة في الأداء وتخلق بيئة عمل أكثر إيجابية ومحفزة للموظفين ليستغلوا أقصى إمكاناتهم.

إثبات بالأرقام

ربما يظهر أثر التنوع على الأداء أنه فرضية يصعب تأكيدها بحقائق ملموسة، لكن الاهتمام الذي يحظى به موضوع التعددية الثقافية وإٕدارة التنوع دفع كبار شركات الاستشارات أمثال: (ماكنزي، وهارفارد بزنس ريفيو، وديلويت) إلى إجراء دراسات مختلفة لتأكيد علاقة التنوع بمفهومه الشامل بتحسين أداء الشركات وتعزيز الإبداع والابتكار والميزة التنافسية.

فقد وضحت دراسة لـ “ماكنزي” أن المؤسسات التي تصنف ضمن الأكثر تنوعاً على مستوى الجنسين تتفوق بنسبة 25% في الأداء على مثيلاتها، والشركات التي تحقق أكبر النسب على مستوى التعددية الثقافية لديها فرص التفوق بنسبة 35% في الأداء على مثيلاتها.

وبحسب تقرير التعددية والشمول لسنة 2020 الذي أطلقته شركة “طومسون رويترز”، والذي صنف أكثر 100 شركة عالمية تتبنى سياسات ممنهجة لإدارة التعددية الثقافية والتنوع، حصلت شركة “بلاك روك” الأميركية على المركز الأول بينما ضمت قائمة العشر الأوائل شركات أخرى مثل “لوريال” الفرنسية، و”ناتورا” البرازيلية، و”آليانز” الألمانية، وشركة الأدوية السويسرية “نوفارتيس”.

كما قامت مجلة “فوربس” العالمية بمسح شمل أكثر من 321 مديراً شغلوا مناصب قيادية بشركات عملاقة تفوق عوائدها السنوية 500 مليون دولار أميركي مثل “لوريال” و”إنتل” و”كريدي سويس” عبّر أكثر من النصف منهم عن إيمانهم بأهمية إدارة تنوع قواهم العاملة في تحقيق الابتكار في شركاتهم، فتنوع الثقافات والأفكار والأجيال والجنسين، يعني تنوع الأفكار والأساليب التي يمكن أن تسهم في ابتكار منتجات جديدة، أو الحصول على حصص أسواق جديدة، ومن الجدير بالذكر هنا أن بعض الشركات بدأت بالاستغناء عن بعض الخدمات الاستشارية باستبدالها بالكفاءات الداخلية التي يساعد تنوعها في إيجاد الحلول لبعض تحدياتها أو تطوير بعض الاستراتيجيات، خاصة إذا كان يتعلق الأمر بأسواق خارج حدودها، كما عبر بعض المشاركين في نفس الاستبيان عن المساهمة القيمة لإدارة كفاءاتهم المتنوعة في تخطي الأزمة العالمية في 2008.

وأكد معظم المشاركين في المسح أن قادتهم يدركون ضرورة التنوع، ويستجيبون لذلك بوضع برامج وممارسات تؤكد عملية اختيار وتوظيف وتعزيز وإدماج موظفين متنوعين بما يتناسب مع احتياجات المؤسسة وقيمها وبحسب تنوع عملائها وحدودها الجغرافية والخلفيات الثقاقية والعرقية للموظفين حول العالم

المرونة الثقافية: الذكاء الجديد

شاع مصطلح الذكاء العاطفي في السنوات الأخيرة ليحتل الأولوية على قائمة سمات الموظفين الأكفاء وخاصة القادة، واليوم برز مصطلح جديد يؤكد أهمية إدارة التعددية الثقافية والتنوع التي أصبحت الواقع المعاش على مستوى الموظفين والعملاء والزملاء والرؤساء وغيرها من العلاقات العملية التي نديرها يومياً. المرونة الثقافية أو قدرة الفرد على التعامل والتعايش وتقبل ثقافات أخرى، ولا نعني هنا بمفهوم الثقافة، الهوية أو الجنسية واللغة والعادات والتقاليد فحسب، بل ثقافة الفرد تشمل أيضاً تجاربه الشخصية وميوله الفكري وأسلوب عيشه الذي ربما تأثر بعوامل مختلفة بعيدة كل البعد عن أصله أو موروثه الثقافي، وتعد المرونة الثقافية من المهارات التي تميز رائد الأعمال والقائد بالقرن الحادي والعشرين، وقد بدأت الشركات بوضع برامج تدريبية لتطوير هذه المهارة المعاصرة لدى موظفيهم من كل الفئات.

استراتيجيات إدارة التنوع

نسلط الضوء على بعض الخطوات التي يمكن لأي قائد أو مدير تبنيها لإدارة فعالة للتنوع:

* توضيح الرؤية والأهداف والقيم والثقافة السائدة للمؤسسة مع مراعاة إمكانية فهم القيم بمعنى مختلف من ثقافة إلى أخرى، فالثقة أو الاحترام لا يمارسان بنفس الطريقة في كل الثقافات.

* وضع سياسات وإجراءات تؤكد ضرورة التنوع والمساواة وعدم التحيز لفئة دون أخرى.

* التأكد من أن كافة سياسات الموارد البشرية من التعاقد والترقيات تستند بالأساس على الأداء المتميز للموظفين ومهاراتهم.

* تمكين بيئة العمل لتشمل بعض الفئات كتخصيص مرافق خاصة بالنساء أو ذوي الاحتياجات الخاصة (أصحاب الهمم).

* إدماج برامج تدريبية وتوجيهية على المرونة الثقافية، وإدارة التنوع الفاعلة ضمن البرامج التدريبية الإجبارية لكل الموظفين.

* تبني سياسة تضمن مشاركة الجميع في وضع السياسات.

* توعية الموظفين لتجنب الحكم المسبق والأحكام الجاهزة على الأفراد والجماعات والأعراق.

لا شك في أن الإدارة الفعالة للتعددية الثقافية والتنوع تشكل عاملاً مؤثراً في تحسين أداء المؤسسات، لكن فوائد إدارة التنوع لا تقتصر على الهدف العملي للمؤسسات فقط، فما يمكن حصاده اجتماعياً من هذه السياسات يفوق العوائد المادية، حيث تسهم في خلق مجتمع تتوازن فيه الفرص لكل الفئات وتشجع المساواة والعدالة والتسامح وفهم الآخر لتحقيق بيئات إيجابية يسود فيها التعايش بعيداً عن الصراعات والنزاعات الهدامة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .