يتصف المستهلكون المعاصرون بالوعي السياسي والاجتماعي أكثر من أي وقت مضى، وبينما تحاول بعض العلامات التجارية الاستجابة للأحداث خشية خسارة بعض شرائح زبائنها، أثبتت دراسة أجرتها مؤخراً شركة "مورنينغ كونسلت" (Morning Consult) أن مجرد قول "الأشياء الصحيحة" أو "إبداء التضامن" لم يعد كافياً لإرضاء المستهلكين، فهم يريدون من العلامات التجارية التي يقفون في صفها أن تدعم الأحداث الجارية والقضايا الاجتماعية باتخاذ مواقف. إذاً، كيف تنجح في التسويق خلال عصر مقاومة المستهلك؟
تواجه الشركات ضغوطاً متزايدة لإعلان تنديدها بالتمييز وتعزيز التزامها بالتنوع والشمول في وقت تتواصل فيه الاحتجاجات المناهضة للاضطهاد العنصري في مختلف أنحاء العالم، ولاحظنا مؤخراً أن الشركات تستجيب لهذا المطلب بعدة طرق.
فقد نشرت بعض العلامات التجارية رسائل قصيرة على وسائل التواصل الاجتماعي تعبر عن دعمها وتضامنها التامين عقب مصرع جورج فلويد، بينما أطلقت شركات أخرى حملات تسويقية متعددة القنوات وواسعة النطاق، لكن يجب على الشركات المضي قدماً بحذر عند التعليق على الأحداث الجارية، أياً كان النهج المستخدم، خاصة عندما تنطوي تلك الأحداث على قضايا تمس العدالة الاجتماعية أو الاستقطاب السياسي.
فقد تراكمت لدى الشركات خلال العصر الرقمي كميات ضخمة من السجلات على مواقعها الإلكترونية وحساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي، ويستطيع المستهلكون التفتيش في سجلات أي شركة بأقل مجهود لمعرفة العلامات التجارية التي تتشدق بشعارات جوفاء في حملاتها الدعائية وأيها تبدي اهتماماً حقيقياً بقضايا المجتمع، وهكذا صار بالإمكان دحض أي ادعاءات غير صادقة أو غير دقيقة حول التزامك بالتنوع أو المساواة، والسخرية منها ومشاركتها عبر الإنترنت بسرعة منقطعة النظير.
المس القضايا الاجتماعية ولا تكتف بالحديث عنها
لطالما كانت المصداقية في التسويق من أفضل الممارسات، لكنها غدت أكثر أهمية في هذه الحقبة التي تشهد موجة عنيفة من الاضطرابات الاجتماعية وتفشي مرض "كوفيد-19"، ذلك أن الحملات المتعلقة بالأحداث الجارية والقضايا الاجتماعية تترك الشركات عرضة لمستوى مختلف وأعمق من التدقيق.
وقد نشرت "أمازون"، على سبيل المثال، إعلاناً شكرت فيه موظفيها "الأبطال" على حسن تعاملهم مع تبعات جائحة فيروس كورونا، وتحدثت فيه عن تفاني الشركة في الحفاظ على صحتهم وأمانهم. بدا الإعلان نابعاً من القلب، ولكن اتضح أن الشركة لم تستطع "ترجمة أقوالها إلى أفعال" عند اندلاع إضرابات موظفي "أمازون" الأخيرة على خلفية بعض المخاوف المتعلقة بالسلامة في مكان العمل.
وبالمثل، لا يزال اتحاد كرة القدم الأميركية يناضل من أجل اجتثاث مشكلة التمييز العنصري في أميركا من جذورها. وتحدث الاتحاد صراحة خلال الشهر الماضي على وسائل التواصل الاجتماعي عن أهوال التمييز العنصري النظامي وعنف الشرطة. لكن الاتحاد عاقب اللاعبين على الركوع في أثناء عزف السلام الوطني قبل عامين احتجاجاً على هذه القضايا نفسها. وكان من الطبيعي أن يشكك الكثيرون في موقف الاتحاد المتناقض.
ليس هذا هو الوقت المناسب لتشدق الشركات بشعارات فضفاضة أو جوفاء أو منافقة، فقد يُعتَبر سلوك مثل هذا دلالة على غياب المصداقية ودرباً من الحيل الدعائية بدلاً من اعتباره محاولة حقيقية للإسهام في النقاش، وقد حان الوقت الآن للتحلي بشيء من التواضع والاعتراف بأي أخطاء والتعبير عن رغبتك في النمو. هذا المستوى من التواضع والمصداقية هو ما يريد المستهلكون أن يلمسوه الآن، ومن شأنه أن يساعد الشركات على الاستمرار في بناء الثقة على المدى الطويل، فالشركات التي تقر بما يحدث في العالم والتي تريد تحسين الأحوال بصدق وإخلاص تضرب على الوتر الصحيح مع عملائها. تستطيع الشركات التي تضطلع بمسؤولياتها الاجتماعية، على سبيل المثال، أن تعزو 40% من سمعتها العامة إلى أعمال المسؤولية الاجتماعية للشركات.
لكن يمكن أن تتحول المصداقية إلى مجرد شعارات جوفاء تأمل الشركات أن تسهم في تجميل صورتها دون الحاجة إلى فعل أي شيء. وكم لاحظت حدوث ذلك بهذه الطريقة، ومثلي لا يجهل الآثار الضارة التي يمكن أن تحدث. وإليك أربع نصائح لاحظت أنها تحقق نجاحاً ملموساً وبمقدورها مساعدة العلامات التجارية في الحفاظ على مصداقية حملاتها الدعائية وفاعليتها في الأوقات المشحونة بالاضطرابات.
نصائح تساعد العلامات التجارية في الحفاظ على مصداقيتها الدعائية
انظر إلى ما هو أبعد من تصورات وأفكار شركتك. غالباً ما تصنع فرق التسويق حملاتها الدعائية في الفراغ، حيث تعتمد بشكل كبير على خبراتها وتصوراتها الداخلية عند تطوير رسائلها ورؤاها بزعم أن القائمين عليها يعرفون منتجاتهم أكثر من أي شخص آخر خارج الشركة، بيد أن ثمة موضوعات، مثل الصحة العالمية والتمييز العنصري، تقع خارج نطاق اختصاص فرق التسويق التقليدية. لذا يُنصَح بتضمين تصورات الخبراء الخارجيين عند محاولة التعليق على هذه الموضوعات الحساسة للحفاظ على رصانة رسائلك ومصداقيتها.
تواصل مع القائمين على العلامات التجارية الرائدة الذين اضطروا أيضاً إلى تكييف رسائلهم وأساليبهم أو إصلاحها في الظروف الغامضة، فعادة ما تكون لديهم إحصاءات يمكنها وضع التحديات التي تواجهها في منظورها الصحيح وتساعدك على تجنب الصراعات غير المتوقعة في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، ادرس عقل جمهورك المستهدف للتعرف على ما يريدون سماعه وما الذي لن ينجح معهم. يمكن لهؤلاء الغرباء أن يكونوا بمثابة مرآة لشركتك، ويسمحون لك برؤية الأشياء بشكل أكثر وضوحاً.
تتضح أيضاً أهمية لجوء فرق التسويق إلى أشخاص من خارج المؤسسة عندما ينحرف بهم التفكير الجماعي عن الغاية المرجوة. عندما كنت أعمل في "ديل" (Dell)، على سبيل المثال، قررت الشركة تكثيف جهودها التسويقية الموجهة إلى المرأة، وطُلب مني الانضمام إلى فريق عمل داخلي للمساعدة في إعداد هذه الحملات، لكنني سرعان ما تنحيت عن الموقف بمجرد أن أدركت أن كبير مسؤولي التسويق -الذي تصادف أنه امرأة- كان عازماً على توصيل رسائل نمطية، مع التركيز على مواضيع مثل الموضة والأنظمة الغذائية. لم تستشر هي ولا فريقها أحداً من خارج فريق العمل الذين أعربوا عن مخاوفهم وحذروها من هذه الرسائل غير المدروسة والمبنية على شعارات قديمة عفى عليها الزمن. انتهى بها الأمر بفقدان وظيفتها بعد تدشين الحملة بسبب رد الفعل السلبي على محتواها.
استمع وعالج وتحقق. عندما يعبر العملاء أو الموظفون عن مخاوفهم بشأن استجابة شركتك لجائحة "كوفيد-19" أو التمييز العنصري أو غيرهما من الأحداث الجارية، فعليك أن تفعل أكثر من الاستماع إلى تعليقاتهم - اعمل على معالجتها بشكل نقدي. انتبه جيداً للمصطلحات التي يستخدمونها وخذها على محمل الجد. لا تحاول أن تقرأ ما بين السطور أو تفترض افتراضات دفاعية حول ما يشعرون به، وإلا أقحمت تحيزاتك وتصوراتك المسبقة في المشهد. كن مرآة تعكس صياغاتهم واختياراتهم للكلمات عند صياغة ردك للتحقق من مخاوفهم وإظهار تفهمك لها.
انظر على سبيل المثال إلى ما حدث مؤخراً في "ستاربكس". واجهت الشركة ردود فعل عنيفة بعد أن علم المستهلكون أن محالها لن تسمح للموظفين بارتداء أي زي يقول "حياة أصحاب البشرة السمراء مهمة". بدا أن هذه السياسة تتعارض مع التصريحات السابقة التي أدلت بها الشركة بشأن مناهضة العنصرية وتشجيع الشمول. وأثبت مسؤولو "ستاربكس" صحة مخاوف المستهلكين عندما أعربوا عن انتقادهم للنفاق، حتىأعلنت الشركة مؤخراً أنها ستصنع 250,000 قميص مكتوب عليها "Black Lives Matter" (أو "حياة أصحاب البشرة السمراء مهمة") وتوزعها على موظفيها. في حين أن بعض الشركات تتمادى في مسلكها وترفض التراجع عنه أياً كانت السبل، فإنني أعتقد أن قرار "ستاربكس" بتخليها عن موقفها السالف كان خطوة في الاتجاه الصحيح، بإقرارها بالنفاق وتعهدها بتحسين موقفها، استطاعت الشركة حفظ ماء وجهها وسمحت لنفسها بالبدء من جديد نوعاً ما.
اعتذر دون محاذير أو مبررات. لا تستهن بقوة الاعتذار الصادق - حتى لو كان التجاوز قد حدث قبل عقود من الزمن. تعرضت شركة "لوكاس فيلم" (Lucasfilm)، على سبيل المثال، لهجوم لاذع للمرة الأولى في عام 1999 بعد ابتكارها شخصية "جار جار بينكس" التي يعتقد الكثير من المشاهدين أنها تجسد الصور النمطية العنصرية، لكن جورج لوكاس أصر على إنكار أي نية عنصرية طوال هذه السنين، ورفض الاعتذار عن ابتكار مثل هذه الشخصية المثيرة للجدل. ومع عودة جار جار بينكس إلى الواجهة مؤخراً، نظراً للأسئلة المطروحة حول ظهور الشخصية في مشروع تلفزيوني مرتقب بعنوان "حرب النجوم"، أتيحت أمام لوكاس فرصة أخرى لتقديم اعتذار صادق وحاسم.
يجب أن يخلو أي أسف حقيقي من أي محاذير أو مبررات، ويجب ألا يدور في فلك نشرات الأخبار للإقرار بتأنيب الضمير، فهو يقبل بالخطأ ويلقي بالمسؤولية على العلامة التجارية وليس الأشخاص الذين يشعرون بأنهم في مرمى الانتقادات. حتى إذا لم تكن ترى سبباً وجيهاً للشكاوى المثارة ضد شركتك أو لم تقرها على الفور، فخذ ما يكفيك من الوقت للتفكير بينك وبين نفسك وتحديد سبب ضرورة الاعتذار.
إذا قررت الإعراب عن أسفك علناً، فاعترف بقصور فهمك بالتوازي مع إيضاح كيف أنك تخطط لاكتساب الوعي اللازم لعدم تكرار هذا الخطأ مستقبلاً. وقدم بيانات توضح آخر المستجدات حول تعلمك وتطورك وتنفيذك للتغييرات.
لا تُدل ببيان لمرة واحدة وانتهى الأمر. كنا قد أثبتنا أن الاعتذار وحده لم يعد كافياً اليوم، ومع انتشار "ثقافة التشهير"، لا فرق بين اتخاذ رد فعل لمرة واحدة وترك المشكلة تتفاقم. لذا لا بد من التعامل مع الاعتذار أو التعبير عن الندم باعتبارهما الخطوات الأولى في حوار مستمر ومصمم لتحقيق تقدم مدروس وهادف.
بعد الإقرار بالمشكلة والإلمام بكافة جوانبها، أظهر كيف أنك تعتزم مواصلة النمو واترك المجال مفتوحاً أمام هذا التطور. انظر إلى العلامات التجارية العريقة في مجال المستحضرات المنزلية مثل "آنت جميما" (Aunt Jemima) و "أنكل بنز" (Uncle Ben’s) و"كريم أوف ويت" (Cream of Wheat) و"مسز باترورثز" (Mrs. Butterworth’s) و"إسكيمو باي" (Eskimo Pie)، تتخذ هذه العلامات التجارية اليوم خطوة (شديدة الأهمية) من خلال إعادة النظر في عبوات منتجاتها القديمة والمثيرة للجدل. ولو كنا نعيش في عالم أفضل لحدث هذا منذ سنوات عديدة، بيد أنه يُظهر أنهم يحاولون النمو وتقديم منتجات أكثر مراعاة لكافة الأعراق.
اللافت في الإجراءات التي تتخذها هذه العلامات التجارية أنها مجرد إجراءات، فالبيانات دون متابعة قابلة للتنفيذ هي مجرد كلام فارغ سيكون عرضة للتجاهل في أفضل الأحوال، وستواجه علامتك التجارية في أسوأ الأحوال ردود فعل سلبية أسوأ مما لو التزمت الصمت. اتخذ الخطوة المنطقية التالية التي توضح أنك تستطيع "ترجمة أقوالك إلى أفعال".
لا يُشترَط أن تكون المتابعة معقدة أو باهظة الثمن: فإذا كنت تقدّر موظفيك وعمالك الأساسيين، فامنحهم العون على مدار الساعة لمواجهة الظروف الخطرة المتزايدة. وإذا كنت تقدر البيئة، فازرع شجرة. وإذا كنت تدعم مجتمعك المحلي، فامنح كل موظفيك إجازة مدفوعة الأجر للتطوع في الجمعيات الخيرية المفضلة لديهم. وإذا كنت تستثمر في ترسيخ ثقافة الشمول وتحسين أوضاع المساواة العرقية، فعليك تعيين وتوظيف مرشحين من المجتمعات غير الممثلة بنسب عادلة. اجعل هذه الإجراءات روتينية بدلاً من الانتهازية لإثبات أنك تستثمر في إحداث تغيير حقيقي.
قد لا تستطيع شركتك تحقيق أهدافها بنسبة 100% طوال الوقت، إلا أن التمسك بقيمك الأساسية والتواصل بحذر وإظهار الاستعداد لإعادة تقييم وجهة نظرك سيمكنك من بناء الثقة مع المستهلكين بالتوازي مع التعلم والنمو المستمرين وسيمكنك من النجاح في التسويق خلال عصر مقاومة المستهلك.
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: مميزات التسويق الفيروسي