كيف تحقق الاستفادة القصوى من فهم نفسية مندوب المبيعات؟

13 دقيقة
فهم نفسية وعقلية مندوبي المبيعات
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio
قد يسمع أفضل المندوبين لديك كلمة “لا” عشر مرات قبل أن يصلوا إلى “نعم”، ومع ذلك فهم يتحملون ما يواجههم وينجحون. فإذا فهمت ما يدفعهم على المضي قدماً ستتمكن من اكتشاف طرق أفضل لقيادتهم وتشجيعهم.
حوار مع عالم النفس والأنثروبولوجيا جيلبرت كلوتير رابيل (جي كلوتير رابيل)

هنالك أمر مذهل ومحير في عالم المبيعات، فلا بد أن نحترم المثابرة اللا محدودة التي يتمتع بها مندوبو المبيعات أمام الرفض الذي يواجهونه بشكل متواصل، وأن نُعجب بإيمانهم بأن الأمور ستسير على ما يرام في النهاية. ولكن في الوقت ذاته نجد أنفسنا نمقت هذه الوظيفة بسبب الأثر الذي تتركه على الذين يعملون فيها. وجميعنا قد قرأنا أو سمعنا عن مسرحية “موت بائع متجول” والتي تحكي قصة رجل صادق تحطمه حالة الفراغ واللاجدوى المتأصلة في هذا العمل. وهنالك أفلام مثل فيلم (Glengarry Glen Ross) تقدم صورة أسوأ عن هذا العالم، حيث يبدو أن النجاح يتطلب التنازل عن الأخلاق.

فما هي طبيعة الشخص الذي يدخل في ميدان المبيعات، وكيف يتأقلم مندوبو المبيعات مع هذه الوظيفة؟ للوصول إلى إجابات لهذه الأسئلة التقت دايان كوتو، المحررة الأولى في هارفارد بزنس ريفيو، بعالم النفس والأنثروبولوجيا والخبير في علم التسويق كلوتير رابيل، وهو أفضل من يتحدث في هذا الموضوع. حيث يحمل رابيل درجة الماجستير في العلوم السياسية، ودرجة الماجستير في علم النفس، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الطبية من جامعة السوربون في باريس. وقد عمل في حقل التحليل النفسي لعشر سنوات في فرنسا باستخدام المنهجيات التي وضعها فرويد وكارل يونغ.

يدرس رابيل أثر الثقافة على الأعمال والأسواق، وقد وضع عدة كتب تعنى بدراسة الأثر الثقافي للمنتجات اليومية مثل الشامبو والقهوة والسيارات والمناديل الورقية. وقد صدر له مؤخراً كتاب بعنوان “شفرة الثقافة” (The Culture Code). وقد أثارت أعماله اهتمام عدد من أكبر الشركات في العالم، من بينها سيتي بانك، ودوبوت (DuPont)، وإكسون موبيل، وجنرال إليكتريك، وآي بي أم، وبروكتر آند غامبل، ويونيليفر، والتي يقدم لها خدماته الاستشارية. كما أنه يساعد الشركات على فهم كيفية العمل في بيئة عالمية تتضارب فيها الثقافات والتقاليد المختلفة. ويقول لنا رابيل أن رجل الأعمال الغربي سيكون أقدر على فهم شريكه الياباني حين يعرف أن في اللغة اليابانية أكثر من عشر كلمات للتعبير عن “الجودة”، لكل منها دلالة مختلفة.

فيما يلي أجزاء مختارة من مقابلة هارفارد بزنس ريفيو مع الدكتور رابيل في بيته في توكسيدو بارك في نيويورك. وقد أوضح لنا رابيل في هذا الحوار الموسع بعض نظرياته عن الثقافة وعلم نفس المبيعات. فهو يعتقد أن مندوبي المبيعات يحملون الصفات ذاتها أياً كانت ثقافتهم، مع وجود بعض الاختلافات بين بيئة وأخرى. فمندوبو المبيعات هم كما يصفهم رابيل “الخاسرون السعداء” أي الأشخاص الذين يستمتعون برفض الآخرين لهم، بل يبحثون عن عمل يمنحهم فرصة يتعرضون فيها للرفض. ولهذا الأمر بالتأكيد انعكاسات على الطريقة التي يجب اتباعها في تحفيز هؤلاء الموظفين والتعاطي معهم.

ما هي طبيعة العمل الذي تقوم به بالتحديد؟

أنا أدرس النماذج الأولية (archetypes) وهي الأنماط الضمنية في علم النفس والتي تمكننا من فهم الظروف البشرية. وكان كارل يونغ أول طبيب نفسي يهتم باستكشاف هذه الجوانب. وعلى الرغم من أن استخدامي لها مختلف، إلا أنني أشترك مع يونغ في إيمانه بإمكانية تحليل النماذج الأولية.

كيف تؤثر بنا هذه النماذج الأولية، وعن ماذا تكشف؟

يعمل النموذج الأولى على تهيئة ردود فعلنا على أمور تتعلق بتكويننا البيولوجي: كالولادة والوفاة والجنس وغير ذلك. وهنالك اختلافات من ثقافة إلى أخرى أيضاً. فالنماذج الأولية الثقافية تظهر في الأديان والأحلام والفنون، وهي التي تحرك الخرافات والأساطير بالإضافة إلى بعض عاداتنا الأساسية كالتنظيف وتناول الطعام.

وليس غريباً أنّ العديد من النماذج الأولية الثقافية تكون حاضرة في المجتمعات المختلفة، فنموذج البطل هو من أكثرها شيوعاً وكذلك نموذج المرأة المغوية و الساحرات. وعادةً ما تكون النماذج الأولية عميقة الغور في ثقافة الناس بشكل لا يكون الناس واعين لوجودها. وكما نتحدث اللغة دون أن نعرف القواعد فإننا كذلك نعيش ضمن ثقافة معينة دون أن ندرك النماذج الأولية السائدة فيها.

فكل ثقافة من الثقافات لها مجموعة من النماذج الأولية المشتركة التي توجه سلوكيات المنتمين إليها، أي ما يعرف باللاوعي الجمعيّ إذا كنت تفضّل هذا التعبير. ولهذا تستشيرني الشركات التي أتعامل معها كي أساعدهم على فك رموز هذا اللاوعي الجمعيّ الموجود لدى زبائنهم وموظفيهم وأصحاب المصالح لديهم. وأنا أمتلك من الخبرة ما يساعدني على القيام بذلك. فحين كنت أعمل في التحليل النفسي عملت مع أطفال يعانون من التوحّد، وكنت مضطراً لأن أفك رموز كل ما أسمعه منهم لأنهم كانوا يعانون من صعوبة التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم.

ما علاقة النماذج الأولية بالمبيعات؟

هي أساس المبيعات. إن فن البيع معقد في كل البلدان ولكنه يتأثر دوماً بالتجربة الجمعية.

أذكر أنني عملت قبل عدة سنوات مع وحدة أعمال في شركة أيه تي آند تي (AT&T) قبل أن تنقسم الشركة. وكانت تلك الوحدة تنتج الكوابل، وكان أحد عملائها هو شركة “نيبون تيليغراف أند تيليفون” (NTT) في اليابان. وقد طلبت هذه الشركة الكوابل وقدمت قائمة بالمواصفات المطلوبة. وتأكدت شركة أيه تي آند تي قبل شحن الطلبية من أن المنتجات تلبي كافة المواصفات المطلوبة. لكن حين وصلت الكوابل ألقى اليابانيون نظرة عليها ورفضوها، وكان السبب الذي ذكروه هو أن الكوابل كانت قبيحة. فشعر الأميركيون بصدمة عقدت ألسنتهم، فقد التزموا بكافة التفاصيل المطلوبة، ولكن القائمة التي لديهم لم تذكر شيئاً عن الجمال، وكان مما زاد ارتباكهم أن الكوابل عادة تدفن تحت الأرض ولا يراها أحد. ولكن بالنسبة لليابانيين فإن الجماليات هي أحد النماذج الأولية للجودة، وأيضاً للروح. انظروا مثلاً إلى الكتابة اليابانية، والتقاليد البديعة التي يتبعونها في ممارسة مثل صب الشاي من الإبريق، والعناية الفائقة التي يولونها لفن تقديم الطعام. لذا كان الشكل القبيح للكوابل مؤشراً بالنسبة للشركة اليابانية بأن شركة أيه تي آند تي لم تضع في هذا العمل القدر الكافي من روحها.

حين انتقلت للإقامة في اليابان، وكنت حينها مبتعثاً من منظمة اليونيسكو، ذهبت إلى معلم لأتعلم منه فن الرسم. فحين ذهبت إليه ارتديت ملابس خاصة، وبذلت جهداً خاصاً في تحضير الحبر والفرشاة والورق. وقد سألني المعلم إن كنت مستعداً، فأخبرته بأنني كذلك، فقال لي: “إذن أغلق عينيك وانتظر حتى ترى الصورة المثالية. وقد تحتاج للانتظار خمس أو ست سنوات، لكن حين ترى الصورة المثالية في داخلك فإنك سترسم بالشكل الصحيح”. تخيل لو طلبت من زبون أميركي أن ينتظر خمس أو ست سنوات حتى تأتي الصورة المثالية. هذا أمر لن يحدث قطعاً. فالأميركيون لا يفكرون بهذه الطريقة. لقد كانت شركة نايكي أفضل من حدد النموذج الأولي للجودة لدى الأميركيين حين ابتكرت شعارها “Just Do It” والذي يعني “افعلها وحسب”، ولك أن تنظر إلى النجاح الذي حققته الشركة.

لن يصبح مندوبو المبيعات يوماً مهددين بالانقراض، وسنجد على الدوام أشخاصاً يستمتعون بهذا العمل ويرغبون في ممارسته، تماماً كما سنجد دوماً أشخاصاً مدمنين على القمار، مع فارق التشبيه بالطبع.

يبدو أن النماذج الأولية ثقافية وليست أمراً بيولوجياً.

إنها تجمع بين الأمرين، تماماً مثل اللغة، والتي ترتبط هي الأخرى بشكل وثيق بالنماذج الأولية. فاللغة أمر فطري وأدمغتنا مجهزة بأداة لاكتساب اللغة، فالإنسان أصلاً هو كائن ناطق. لكن تخيل مثلاً أن اللغة اليابانية لا تشتمل على كلمة تعني “الحميمية”. هنا يصبح الأمر ثقافياً، وليس بيولوجياً، فتفسير غياب هذه الكلمة في اليابانية أمر يعود لقرون عديدة. فاليابان دولة صغيرة ذات كثافة سكانية عالية، والناس مضطرون للعيش قرب بعضهم البعض، ونظراً إلى أن الخصوصية أمرٌ نادر، صارت الحميمية كذلك نادرة، وانعكست هذه الحقيقة في اللغة.

حين تتعلم لغة جديدة فإنك لا تتعلم كلمات وحسب، وإنما تتعلم طريقة جديدة للنظر إلى العالم. ومن هذه الناحية فإن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل ولكنها طريقة لتعريف الحقائق من حولك. وأعتقد أنه من المهم أن نعرف أن في اللغة اليابانية عدة طرق لقول “أنا” حسب الشخص الذي تخاطبه، إن كان زوجاً أو طفلاً أو مديرك في العمل. ففي الثقافة التراتبية التي تكون فيها المساحات محدودة نجد أن اللغة تعكس الحاجة إلى أن يعرف كل شخص موقعه، وهذا أمر يدركه الجميع في الثقافة اليابانية. والإسكيمو مثلاً لديهم في لغتهم ما لا يقل عن 20 كلمة للتعبير عن مدلول “الثلج”، وهذا ليس بالأمر الغريب نظراً إلى البيئة التي يعيشون فيها. وهنالك ثقافات تعتبر الدلفين سمكة، بينما تعتبر عند آخرين من الثدييات. فإن كانت سمكة، فربما يكون اهتمامنا الرئيسي منصباً على كيفية طبخها، أما لو اعتبرناها من الثدييات، فربما نفكر كيف نعلمها التواصل ومهارات اللغة. وهكذا تقوم اللغة بترتيب عالمنا وفق تصنيفات مختلفة، ولكن هذه العملية تتأثر إلى حد بعيد بالطبيعة وبظروف التنشئة إلى درجة أننا لا نعي بشكل فعلي كيف تؤثر على نظرتنا إلى العالم الذي نعيش فيه.

هل هنالك نموذج أولي مشترك بين مندوبي المبيعات؟

النماذج الأولية عموماً تختلف باختلاف الثقافات، إلا أن ثمة جوانب من النموذج الأولي تبقى مشتركة. انظر مثلاً إلى نموذج المحارب، فهذا النموذج الأولي قد يظهر في اليابان في شخصية محارب الساموراي، أما في الولايات المتحدة فربما يكون من رعاة البقر، ومع ذلك فإن المحارب في كلتا الثقافتين هو شخص يتحدى المجتمع وينتصر.

وبنفس الطريقة، ورغم أن تجليّات النموذج الأولي لمهارات مندوب المبيعات تختلف من ثقافة إلى أخرى، إلا أن هنالك ما يمكن أن ندعوه بالنموذج الأولي “الأصلي” إن صح التعبير. فمندوبو المبيعات هم “الخاسرون السعداء”. وسواء أدركوا ذلك أم لا، فهم كالمدمنين على القمار يسعون دوماً نحو الإثارة. ولا بد أن المدمن على القمار يعرف أنه سيخسر في معظم الأحيان، ولكنه يشعر بالإثارة حين يفكر بتلك الفرصة النادرة للفوز. وهذا هو الشعور الذي يتولد لدى مندوبي المبيعات، فهم متمرسون في الخسارة، ويتعرضون للرفض في 90% من الأحيان على الأقل. فلماذا يا ترى يختار هذا الشخص أن يكون مندوب مبيعات؟ إنه يحب المطاردة والغنيمة. وأنا أؤكد لكم أن مندوبي المبيعات لن يصبحوا يوماً مهددين بالانقراض، وأننا سنجد على الدوام أشخاصاً يستمتعون بهذا العمل ويرغبون في ممارسته، تماماً كما سنجد دوماً أشخاصاً مدمنين على القمار، مع فارق التشبيه بالطبع.

إن الطريقة الأمثل للتعامل مع مندوبي المبيعات تكون بأن تخبرهم أنك تدرك صعوبة الشعور بالخسارة.

هل هنالك أي استثناءات؟

لا! فأياً كانت الثقافة التي أنت منها، فإنك لا تستطيع أن تكون مندوب مبيعات دون أن تخسر معظم الأحيان، ولذلك فإن الناجحين من العاملين في هذا الميدان هم الذين يشعرون بالسعادة عند خسارتهم. وهؤلاء لا يعانون من ضعف الثقة بالنفس ولا يفقدون الأمل ولا ينهارون أمام الخسارات المتتالية. انظر مثلاً إلى دونالد ترامب. ففي ذروة نجاح ترامب كان شخصية تظهر على أغلفة العشرات من المجلات ، ثم سقط سقوطاً مدويّاً، ولكنه نهض مجدداً وحقق نجاحاً باهراً. إن ترامب هو خير مثال على رجل المبيعات الناجح، مع أنه يمثل حالة فريدة فالمنتج الذي يسوق له ترامب هو ترامب نفسه. ويمكن القول إن ترامب خاسر سعيد (المقال يعود إلى عام 2006).

كيف يتعامل المدير مع هؤلاء الخاسرين السعداء؟

الأمر يتعلق أساساً بتلك الحماسة للتعرض للخسارة معظم الوقت. فالمدير لا يستطيع كسب مندوب المبيعات بإخباره بأنه سينجح دوماً. وذلك لسببين، الأول هو أن مندوب المبيعات لن يصدقه، والثاني هو أن الوظيفة ستصبح أقل إغراءً بالنسبة له.

إن الطريقة الأمثل للتعامل مع مندوبي المبيعات تكون بأن تخبرهم أنك تدرك صعوبة الشعور بالخسارة. فأنت تريدهم أن يكونوا سعيدين، وإلا فإنهم سيكونون خاسرين تعساء، وهذا ما لا تريده أبداً. ولا شك كذلك أن المال ليس من العوامل المهمة في إدارة موظفي المبيعات. ففي القطاع المناسب قد يتمكن مندوب المبيعات من جني مليون دولار في عام واحد. لكن الأبحاث التي أجريتها تظهر أن المال ليس هو ما يشجعهم على العودة إلى السوق و المحاولة من جديد. بل إن ما يعيدهم هو القيمة التي يرونها في المحاولة والإصرار على تحقيق النجاح. إن العمل الجيد في المبيعات يشبه صيد الثعالب في بريطانيا. فمن يكترث بالثعلب أصلاً؟ وقد تجد أحياناً 100 فارس يمتطون صهوة 100 حصان ومعهم 200 كلب. وهم يمضون وقتهم طوال اليوم في الجري، وقد يسقط أحدهم عن ظهر حصانه وربما يكسر ساقه، وبعد ذلك قد لا يتمكنون من اصطياد الثعلب، ولكنه متعة الصيد كانت عظيمة.

ومن أجل تحفيز مندوبي المبيعات لديك عليك أن تجد طرقاً أفضل وأكثر ليضطروا لبذل الجهد. كلفهم بمشاريع أكبر قد يتعرضون فيها لخسائر أكبر. رتب اجتماعات ضخمة على مستوى الشركة وامنح أحد موظفي المبيعات وسام الرفض الذهبي: فلانٌ باع 500 ألف جهاز حاسوب الشهر الماضي ولكنه تعرض للرفض 5 ملايين مرة! قد يبدو هذا الأمر سخيفاً لكنه الطريقة الأمثل لإشعال نار الحماس لدى موظفي المبيعات لديك، خاصة في أميركا، حيث تجد تقديراً كبيراً لفكرة التغلب على العقبات المستحيلة.

هل لك أن تعطينا مثالاً عن أثر التفسيرات الثقافية للنموذج الأولي على مجال المبيعات؟

فلننظر مثلاً إلى اختلاف التوجهات بين الفرنسيين والأميركيين حين يتعلق الأمر بالمبيعات. ففي أميركا ستجد أن العمل في المبيعات هو لعبة ومتعة، وله احترامه الخاص. أما في فرنسا فالعمل في المبيعات ليس بالعمل الراقي ولا يحظى بالاحترام. وربما علينا أن نذكر أن فكرة العمل إجمالاً لا تحتل مكانة رفيعة عند الفرنسيين. فقد تتعجب مثلاً حين تعرف أن أحد أشهر الكتب في فرنسا هو “أهلاً بالكسل” (Bonjour paresse) لكورين ماير. ويتحدث هذا الكتاب عن كيفية التظاهر بالعمل وأنت لا تفعل شيئاً. ويبدو أن الفرنسيين وحدهم القادرون على تأليف كتاب مثل هذا. أما في الولايات المتحدة فأنت نكرة إن لم تكن تعمل. لكن في فرنسا، فعليك أن ترجو الباعة ليأخذوا منك المال، وربما قد لا يبيعونك لو لم يرغبوا بذلك.

دعني أعطيك مثالاً من تجربتي الخاصة. كنت في نيكاراغوا في بعثة دبلوماسية قبل سنوات عديدة، وكانت الخطوط الجوية النيكاراغوية تعتزم شراء طائرات كارافيل من فرنسا. وقد كنت وسيطاً بين الجهتين، وكانت العملية مذهلة حقاً. أولاً، لم تتم ترجمة أي من الإرشادات إلى اللغة الإسبانية، أي أنك إن لم تكن تعرف الفرنسية فلن تعرف تشغيل تلك الآلات. وثانياً، افترض الفرنسيون أن النيكاراغويين يعرفون كل شيء عن الطريقة الفرنسية في أداء الأعمال. وقد تناولت الغداء مع أشخاص يمثلون الطرفين، وفجأة قال الممثل عن الطرف الفرنسي: “إن كنت تريد محركات فعليك أن تذهب إلى رولز–رويس”. وما زلت أذكر الدهشة التي بدت على وجه المسؤول النيكاراغوي حين قال: “هل تقصد أنك تبيع طائرات دون محركات؟”، فقال الفرنسي بكل ضجر ولامبالاة: “العالم كله يعرف أننا لا نصنع محركات، أين تعيش أنت؟”. وبالتأكيد لم تتم عملية الشراء.

هذا النمط من السلوك هو الذي يدفع الآخرين للاعتقاد بأن الفرنسيين وقحون. لكنهم ليسوا كذلك، كل ما في الأمر هو أنهم يعملون وفق نماذج ثقافية أولية مختلفة. ففي فرنسا، المال أمر غير محترم لأن الثقافة هناك ترى أن عليك أن تعطي الأشياء للآخرين وليس المال. فلا بيع، ولا شراء. وهنالك العديد من التعابير في اللغة الفرنسية ترى أن القيمة الحقيقية لا تكمن في المال. فهم يقولون مثلاً “L’argent ne fait pas le bonheur” “المال لا يشتري السعادة”، فأنت لا تبيع ما لديك من أجل الشهرة أو للمال، ولكنك تبقيه لديك لذاته لا لشيء خارج عن ذلك. وهذا أمر فرنسي للغاية وهو أمر جميل. لكنه يعني أيضاً أن هنالك مساحة محدودة للمبيعات أو التفاوض.

هل تختلف النماذج الأولية من قطاع إلى آخر؟

نعم، تختلف. ففي قطاع منتجات التجميل مثلاً سيكون من المهم أن نفهم نموذج “الأم العظيمة”، التي تغذي أطفالها. وهكذا فإن شركة بي آند جي تبيع أحد أكثر منتجاتها نجاحاً، وهو شامبو “بانتين” عبر التركيز على جانب التغذية. فالمرأة يجب أن تغذي شعرها وتعتني به، وهذا الشامبو يستثير غريزة الأمومة عند المرأة. لكن حين يتعلق الأمر بالعطور، فلا بد من فهم نموذج المرأة “المغوية”، وكيف أن لدى المرأة دافعاً فطرياً للاهتمام بجاذبيتها، كي تشعر بأنها مرغوبة، وأن لديها خوفاً من التقدم في السن. فمندوب المبيعات الذي يفهم هذه النماذج الأولية يستطيع أن يقنع المرأة بدفع 3,000 دولار ثمن ثلاث زجاجات عطر لا تكلف 3 دولارات. أما مندوب المبيعات الذي لا يولي هذه النماذج اهتماماً فقد ينجح ربما في بيع زجاجة عطر شانيل نمبر فايف (Chanel No. 5) بسعر 30 سنتاً إن كان محظوظاً.

أما في عالم المنتجات الصيدلية، فسنجد أن لدينا نموذجاً أولياً مختلفاً أيضاً. فهنا يكون على مندوب المبيعات أن يقنع الأطباء بوصف أدوية معينة. لكن الإنترنت قد جعلت هذه المهمة أكثر تعقيداً وذلك لأن المرضى هذه الأيام باتوا يعرفون معلومات قد تفوق ما يعرفه الطبيب. والأطباء يكرهون ذلك، وهذا ما يعتمد عليه المندوب الجيد ليكسب الطبيب إلى جانبه وينجح في إقناعه. في هذه الحالة يكون على المندوب أن يقدم المزيد من المعلومات حول الدواء للطبيب، وذلك كي يتمكن من استعراض ذكائه أمام المريض. ومع ذلك فإن التحدي الحقيقي يكمن في فهم الأمر الذي يؤلم الأطباء اليوم. فهؤلاء الأطباء باتوا يشعرون بأنهم لا يستطيعون الاستمرار بما يقومون به، والأمر ليس متعلقاً بالإنترنت وحسب، ولكنه متعلق بالحكومة أيضاً. فالطب قد أصبح عالماً معقداً من البيروقراطية والروتين، وهذا أمر لا يروق للأطباء إطلاقاً. وعليه فإن المندوب الجيد يتعامل مع الطبيب باعتباره الرجل الكبير الحكيم الذي ينقذ حياة الناس، وليس باعتباره جزءاً من هذا النظام البيروقراطي، رغم أنه قد بات كذلك.

رتب اجتماعات ضخمة على مستوى الشركة وامنح أحد موظفي المبيعات وسام الرفض الذهبي. قد يبدو هذا الأمر سخيفاً لكنه الطريقة الأمثل لإشعال نار الحماس لدى موظفي المبيعات.

كيف تفك رموز النماذج الأولية؟

لقد عكفت طيلة 25 سنة على دراسة القوى الثقافية حول العالم لصالح عدد من كبرى الشركات التي تهدف بشكل أساسي إلى بيع المنتجات أو الخدمات. وقد ساعدتني هذه الخبرة على تطوير عملية أتاحت لي أن أكتشف النماذج الأولية الثقافية المتعلقة مثلاً ببيع الشامبو في اليابان، والمناديل الورقية في الولايات المتحدة، والمنتجات المالية في كندا، والجبن في فرنسا. وأنا أستخدم العملية ذاتها عندما يتعلق الأمر بفهم عقلية مندوبي المبيعات في شركات مثل متلايف (MetLife) وشركة ديمليركريسلر (DaimlerChrysler). فأقوم بجمع مقطع عرضي من المستهلكين من ثقافات وخلفيات متنوعة لإجراء تجربة غير تقليدية على الإطلاق. حيث تبدأ التجربة بسلسلة من الحوارات المفتوحة التي تستمر لحوالي ثلاث ساعات. أشرع بداية بطرح سؤال على المستهلكين حول رأيهم بمندوبي المبيعات. وتكون الساعة الأولى مجرد “تفريغ” للآراء، فهي جلسة أستمع فيها إلى كافة الإجابات الذكية والعبارات المكرورة من قبيل: “لا يمكنك أن تثق بمندوب مبيعات، كل ما يريد أن يفعله هو خداعك”. فهنا يتحدث القسم العقلاني في الذهن، وهذا لا يهمني كثيراً. ثم يأتي بعد ذلك الجزء العاطفي من التجربة، وذلك حين أطلب من الناس أن يخبروني بقصص عن تجاربهم مع مندوبي المبيعات. وهذا يتيح لهم الفرصة لاستكشاف المشاعر التي لديهم بما يجهزهم للساعة الثالثة، وهي القسم الأكثر فعالية في التجربة. فأقوم في هذه المرحلة بخفض الإضاءة، وأشغل موسيقى هادئة، وأطلب من الناس أن يكتبوا بعض تجاربهم مع مندوبي المبيعات بالتفاعل مع الموسيقى التي يسمعونها. وهذه عادة يمارسها المؤلفن كنوع من التدريب. فيبدأ المشاركون بكتابة أفكارهم لمدة نصف ساعة في الصباح، بعد أن يستيقظوا مباشرة في محاولة للتواصل بعالم الخيال والأحلام. وفي ورش العمل هذه يكون هنالك التزام كامل بالسرية، ولا يمكن الضغط على المشاركين بأي شكل كان. وبعضهم ينام أثناء التجرية، إلا أن الغالبية ينجحون في تسجيل انطباعاتهم الذهنية عن مندوب المبيعات.

ما هو الانطباع الذهني، وما ارتباطه بالنموذج الأولي؟

الانطباع الذهني هو نتيجة عملية تَعَلُّم حصلت في مرحلة مبكرة من الحياة وهو يرسخ لنمط سلوكي لا واعٍ. فعلى سبيل المثال، الانطباع الذهني الذي أملكه عن الجبن يرتبط بمنظر أمي وهي تشتري جبناً من نوعية “كامامبير”، فكانت تمسكه وتشمه كي تعرف القطعة الأفضل ذات اللب الجيد. وحتى الآن أجد أن الجبن الجيد ليس الجبن المبستر، وإنما الجبن الدافئ التي تعرف أنه ناضج من رائحته. أما علمياً فتظهر التجارب أننا لو وضعنا صندوقاً خشبياً بعجلات في اللحظة المناسبة أمام فرخ بط ولد للتو، فإنه سيولد ارتباطاً بذلك الصندوق ويظنه أمه البيولوجية.

ويصعب تشكيل الانطباعات الذهنية بعد عمر محدد. فالتجارب الأولى عادة ما تكون قوية للغاية، فكل واحدة من هذه التجارب تشق طريقاً أساسياً في الجهاز العصبي، وبعدها سنقوم باستخدام هذا الطريق أو شبكة الخلايا العصبية التي تشكلت لدينا في الدماغ. وكلما تعلمنا أكثر عن الصدمات (trauma) على سبيل المثال، ستزداد قدرتنا على تحديد هذا النمط. فالناس لا يتمكنون عادة من نسيان تجربة فظيعة مروا بها، وهنالك ضغط ما لتكرارها. والأمر كذلك يسري على التجارب المبكرة عموماً. ويمكن على مستوى ما أن نقول إن ما نتعلمه في الصغر يكون كما يقال كالنقش في الحجر.

وأحاول خلال عملي أن أعيد الناس إلى تجربتهم الأولى مع مندوب المبيعات لأن الانطباع الذهني الذي لديهم يمثل إشارة للنموذج الأولي. يمكنك أن تشبّه النموذج الأولي بالشمس، والتي لا يمكنك أن تنظر إليها مباشرة لأن أشعتها قوية للغاية. أما الانطباعات الذهنية فهي بمثابة النظارات الشمسية التي يمكنك ارتدائها لتنظر إلى الشمس دون أن تضر ببصرك. وهذه الانطباعات الذهنية هي التي قادتني إلى تحديد النموذج الأولي لمندوب المبيعات باعتباره “الخاسر السعيد”.

كيف يمكنك أن تتأكد من صحة النماذج الأولية التي تتوصل إليها؟

لا أعتمد في إثبات ما أصل إليه على العدد الكبير من العملاء الذين أتواصل معهم، ولكن هذه الأبحاث ليست ذات طبيعة بيولوجية في الوقت ذاته. وحين تكون ردة الفعل على كلامي بالضحك، فإنني أعرف أنني قد أصبت الحقيقة. وعندما أصف مندوبي المبيعات بأنهم “الخاسرون السعيدون”، أرى أن كل من الغرفة يضحكون عفوياً مستجيبين لشعور كامن لديهم. أو حين أتكلم عن أميركا مثلاً، فإنني أشير إلى أنها دولة يتنقل الناس بها بشكل كبير ومع ذلك فإن مفهوم “البيت” فيها له حضور بارز بشكل كبير. فهنالك مثلاً فيلم (Wizard of Oz)، وهو من أشهر الأفلام الأميركية على الإطلاق، وفيه نسمع دوروثي إحدى الشخصيات الرئيسية تقول باستمرار “ليس هناك أفضل للإنسان من بيته”. ومن منا لا يعرف الجملة الشهيرة من فيلم إي تي (E.T): “اتصل ببيتك يا إي تي؟” كما أنني أشير إلى أميركا هي الدولة الوحيدة ربما التي يشتري بها الناس بيوتاً ذات عجلات إلا أنها لا تتحرك إطلاقاً. ويضحك الناس حين يسمعون مني هذه الملاحظات. وحين يتكرر ذلك مع عدد متزايد من الناس، فإن هذا بحد ذاته يعد نوعاً من أنواع الاثبات لأفكاري.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .