يختبر الجيران في ولاية نيويورك قدرتهم على بيع الطاقة الشمسية بعضهم لبعض باستخدام تقنية سلسلة الكتل أو "البلوك تشين" (وهي قاعدة بيانات موزّعة تمتاز بقدرتها على إدارة قائمة متزايدة باستمرار من السجلات). وفي النمسا، تشارك مؤسسة كهرباء فيينا "فينا إنيرجي" (Wien Energie) أكبر مجموعة مؤسسات لتقديم الخدمات العامة في الدولة، في تجربة لتوظيف تقنية "بلوك تشين" في مجال تبادل الطاقة، وذلك مع مؤسستين أُخريين. وفي الوقت نفسه، تعمل شركة "إنوجي" (Innogy) للطاقة في ألمانيا على تجربة لمعرفة مدى إمكانية تقنية "بلوك تشين" في مصادقة عملية إعداد الفواتير لمحطات شحن المركبات الكهربائية وإدارتها، فماذا عن موضوع البلوك تشين في تحديث الشبكة الكهربائية تحديداً؟
لقد لفتت تقنية "بلوك تشين" الانتباه في مجال صناعة الطاقة المقيد بالأنظمة الصارمة، في وقت يستعد فيه هذا المجال لثورة، ذلك أن كلاً من المؤسسات العامة والمستهلكين سينتجان الكهرباء ويبيعانها. ويمكن لتقنية "بلوك تشين" توفير طريقة موثوقة ومنخفضة التكلفة لمعالجة العمليات المالية أو التشغيلية، حيث سيتم تسجيل هذه العمليات والتحقق من صحتها عبر شبكة توزيع دون الحاجة إلى وجود نقطة تحكم مركزية. دفعت هذه الخصائص بعض الناس للتحري عما إذا كان ممكناً لتقنية "بلوك تشين" أن تحل يوماً ما محل جزء من أعمال المؤسسات العامة، من خلال إلغاء الحاجة إلى الوسطاء تماماً، كما هو الحال في قطاع الخدمات المالية. لكن يعد هذا الرأي متطرفاً وسطحياً جداً.
البلوك تشين في تحديث الشبكة الكهربائية
على الأرجح قد تصبح تقنية "بلوك تشين" جزءاً من عملية تحديث النظم المركزية القديمة وتحسينها، باستخدام نظام مُوَزّع مختلط يضم مزيجاً من محطات الطاقة الكبيرة والشبكات الصغرى التي تعمل بواسطة موارد الطاقة الموزّعة مثل الطاقة الشمسية. وستكون هذه الأنظمة اللامركزية قادرة على توفير الطاقة الفاعلة والموثوقة والمتجددة في كثير من الحالات.
يدفعنا هذا التحول القادم في صناعة الطاقة للتركيز على الإمكانات المتاحة لتقنية "بلوك تشين" في جعل تبادل الطاقة بين الأطراف أمراً حقيقياً، على الرغم من عدم وضوح إمكانية تطوير هذه التكنولوجيا الحديثة. فعلى سبيل المثال، في مشروع الشبكات الصغرى لتقنية "بلوك تشين" في بروكلين، بنيويورك، كان على كل مشارك في سلسلة تبادل الكهرباء الاستثمار في جهاز كمبيوتر مزود بـ "عقدة" تتفرّع لتقنية "بلوك تشين" لتمكين منازلهم المزودة بالألواح الشمسية من بيع الطاقة للجوار. تدير شبكة "بلوك تشين" المعاملات اللازمة وتسجّلها، وذلك بتدخل بشري محدود. مهمة هذه "العقد" هي التحقق من صحة المعلومات ومشاركتها للتقليل من احتمال توقف أو تضارب البيانات. وكلما زادت البيانات التي يجب تجميعها في "كتل" وتمريرها، زادت الدقة اللازمة لأجهزة الكمبيوتر.
قد تُمكننا تقنية "بلوك تشين" مستقبلاً من تطوير نظام تبادل متكامل، ذلك الذي من شأنه السماح للشركات بتداول حق اختيار استخدام الكهرباء خلال فترة زمنية محددة. على سبيل المثال، يمكن لأي مصنع أن يبيع 5 دقائق من الطاقة غير المستخدمة خلال فترة الاستراحة إلى مصنع مختلف يحتاج إلى طاقة إضافية. وبذلك توفر مرونة شبكة التداول لمشغلي الشبكات فوائد كبيرة في مجال كفاءة الاستخدام.
كيف تعمل تقنية البلوك تشين؟
إليك خمسة مبادئ أساسية تتضمنها هذه التقنية:
1- قاعدة بيانات موزعة
يمتلك كل طرف في البلوك تشين إمكانية الوصول إلى كامل قاعدة البيانات وتاريخها بأكمله، وهو أمر غير موجود بالبنوك. إذ لا يمكن لأي طرف وحده التحكم بالبيانات أو المعلومات. وإنما يمكن لكل طرف أن يتحقق من سجلات معاملات شركائه مباشرة دون الحاجة إلى وسيط.
2- التحويل من النظير لنظيره
يحدث التواصل مباشرة بين النظراء (Peer-to-Peer) بدلاً من أن يتم عبر عقدة مركزية. إذ تخزّن كل عقدة المعلومات، وتعيد توجيهها إلى كل العقد الأخرى.
3- الشفافية والتسمية المستعارة
تكون كل المعاملات والقيم المرتبطة بها مرئيةً لأي شخص لديه إمكانية الوصول إلى النظام. وتتميز كل عقدة أو مستخدم في تقنية البلوك تشين بعنوان فريد مؤلف من أكثر من 30 حرفاً. ويمكن للمستخدم أن يختار إما البقاء مجهولاً للآخرين أو الإفصاح عن هويته. وتجري المعاملات في البلوك تشين بين هذه العناوين.
4- عدم قابلية التغيير في السجلات
بمجرد إدخال الصفقة إلى قاعدة البيانات وتحديث الحسابات، يصبح من غير الممكن تغيير السجلات، لأن كل سجل منها مربوط بكل سجلات العمليات السابقة (ومن هنا أتت التسمية بالسلسلة "chain"). وتُنشر خوارزميات ومناهج حسابية مختلفة لضمان أن التسجيل على قاعدة البيانات دائمٌ ومرتب زمنياً ومتوفر للجميع على الشبكة.
5- المنطق الحسابي
تعني الطبيعة الرقمية لدفتر الحسابات أن المعاملات في البلوك تشين يمكن ربطها بالمنطق الحسابي، وأنها أساساً مبرمجة، وبالتالي يستطيع المستخدمون إعداد الخوارزميات والقواعد التي تؤدي، تلقائياً، المعاملات بين العقد.
هناك مجال آخر يمكن لتقنية "بلوك تشين" الاستحواذ عليه؛ هو تمكين العملاء من التبديل بين موارد الطاقة بمزيد من السرعة. تُجري الشركات تجارب لمعرفة إمكانات تقنية "بلوك تشين" في تنفيذ العمليات الحالية، مثل تسجيل العدادات بكفاءة أكبر وتكلفة أقل. كما تطوّر شركة "إلكترون" (Electron) البريطانية الناشئة إحدى منصات تقنية "بلوك تشين"، التي من شأنها تمكين العملاء في المملكة المتحدة من تبديل موارد الطاقة بشكل موثوق خلال يوم واحد، حيث تعمل الشركة مع شركة "داتا كوميونيكيشنز كومباني" (Data Communications Company)، وهي وكالة جديدة لبيانات العدادات المركزية بالمملكة المتحدة في هذا المشروع. فقد كان التبديل بين موارد الطاقة يستغرق وقتاً أطول بكثير في السابق.
أخيراً، قد تجعل تقنية "بلوك تشين" عمليات الصناعة الكهربائية الحالية أكثر فاعلية من خلال دعم أنظمة إدارة "الشبكة الذكية" للمؤسسات العامة، تلك التي تشخّص تلقائياً حالات الطوارئ ومشكلات الشبكة، كما تعيد التهيئة لهذه الأنظمة بما يتوافق مع هذا التشخيص. وتستخدم شركة "غريد سينغيولاريتي" (Grid Singularity) النمساوية الناشئة، تقنية "بلوك تشين" لتطوير منصة غير مركزية لتبادل الطاقة، حيث تعمل هذه المنصة على استضافة التطبيقات التي تتنوع بين تطبيقات التحقق من عملية تبادل الكهرباء وتطبيقات مراقبة تجهيزات الشبكات. ومثل هذه المنصات لديها القدرة، جزئياً، على إطالة أمَد المعدّات، ما سينعكس بشكل إيجابي على أرباح مشغلي أنظمة توليد الطاقة الكبيرة والصغيرة.
حتماً، كما هو الحال مع ظهور أي تقنيات جديدة، ستبقى تقنية "بلوك تشين" غير مؤكدة بشكل عام، ذلك أنه لا تزال هناك عوائق كبيرة، كما يجب أن تكون حالات استخدام تقنية "بلوك تشين" أكثر تطوراً لإقناع المُشرّعين والبرامج المدعومة حكومياً بأنه لن يحدث أي تأخير على البرنامج، ولن يكون هناك تجاوزات محتملة على التكاليف، إذا وافقوا على اعتماد هذه التكنولوجيا الجديدة. كما سنحتاج أيضاً إلى وضع معايير مشتركة لاستخدام هذه التقنية الجديدة.
ومع ذلك، إذا حدث إثبات موثوقية هذه التقنية وقابليتها للتطوير، قد نتمكن في نهاية المطاف من تسريع عملية الانتقال إلى ما يسمى في مجال صناعة الطاقة بـ "العالم المُوَزّع" الذي يتكون من أنظمة توليد الطاقة الكبيرة والصغيرة للمنازل والشركات والتجمعات. ويجب أن تصبح البنية التحتية الخاصة بهذه الصناعة أكثر مرونة وأقل مركزية، وذلك لتحقيق النجاح في تعظيم إمكانات التوليد المُوَزّع والتمكن من إدارة مصادر الطاقة المتجددة، التي تتميز بالتقلب وصعوبة التنبؤ.
وفي نهاية الحديث عن البلوك تشين في تحديث الشبكة الكهربائية تحديداً، للوهلة الأولى قد تبدو تقنية "بلوك تشين" شكلاً من أشكال الاضطراب التكنولوجي الذي يجب تجنبه في مجال صناعة الطاقة، ولكن قد نتمكن من إثبات أن هذه التقنية هي التقنية المطلوبة لمواكبة الطلب المتنامي على الكهرباء في كتل أصغر وتكلفة أقل وبتواتر أعلى. وعلى الرغم من أن هناك دائماً إمكانية بأن تتدخّل الشركات الناشئة وتعرقل هذه الصناعة، فإن المؤسسات العامة المعترف بها تُعد أفضل مكان لتقييم تقنية "بلوك تشين" ووضع الرهانات الاستراتيجية على التطبيقات المحتملة لهذه التكنولوجيا. وإذا تمكنت من اغتنام هذه الفرصة، فقد يتحول القائمون على التقنيات المركزية السابقة من معطلين حقيقيين، إلى مبشرين بحقبة جديدة من القوة اللامركزية.
ملاحظة المحرر: لقد حرصنا على تحديث هذه المقالة للدلالة على أن شركة "إلكترون" البريطانية تطوّر منصة لتقنية "بلوك تشين" التي من شأنها تمكين العملاء من تبديل موارد الطاقة بالتعاون مع شركة "داتا كوميونيكيشنز كومباني".
اقرأ أيضاً: