كانت هناك فترة ابتعدت فيها الشركات الكبيرة والصغيرة عن السياسة. وكان الرأي السائد أن تأييد قضية ما مشروع فاشل. والأفضل الابتعاد عن المناصرة والتركيز على المبيعات والنأي عن المشاعر وتجنب إثارة حفيظة جانب أو آخر. وعندما أسهمت الشركات في الحملات السياسية، غالباً ما كانت إسهاماتها تُوزع على نحو متكافئ بين الأحزاب كلها. وموازنة الرهانات كان الأسلوب السائد آنذاك.
ولكن الأمور تغيرت.
وبدأ هذا التغير بالتزامن مع نشأة حركة المسؤولية الاجتماعية للشركات في ثمانينيات القرن العشرين، إذ شرعت شركات كثيرة في النظر إلى أثر ممارساتها في المجتمع والبيئة. لقد كانت هناك مناصرة، لكنها كانت قاصرة على المنتجات والعمليات، لا السياسة. ولم يكن بوسع أحد الاستياء من شركة تصنع منتجات خالية من الهرمونات أو خالية من مركّب "بيسفينول أ" (BPA)، أو الامتعاض من شركة تحظر سلسلة توريدها الشركات التي تطبق إجراءات تعسفية بحق الموظفين. فقد كانت هذه الأمور تضرب بجذورها بعمق في الأخلاق لا الأيديولوجيات السياسية.
وبينما أمسى المجتمع مستقطباً من الناحية السياسية، أصبحت الشركات ناشطة سياسياً بشكل أكبر. وفي ظل البث الإخباري المستمر على مدار الساعة، وتأجيج وسائل التواصل الاجتماعي للاستقطاب، تفاقمت إشكالية استمرار المؤسسات ورؤسائها التنفيذيين في الحفاظ على الحيادية. لننظر إلى ما حدث في العقد الماضي: رفعت "هوبي لوبي" (Hobby Lobby) - وهي سلسلة محلات للحرف اليدوية طعنت على تفويض اتحادي ينص على إلزام الشركات بدفع تغطية تأمينية لمنع الحمل - دعواها في المحاكم وصولاً إلى المحكمة العليا وكسبتها. واستعانت شركة "نايكي" بالنجم الرياضي المثير للجدل والمشارك في الحملات الاجتماعية كولين كابرنيك في إحدى حملاتها الإعلانية. وشركات البيع بالتجزئة أمثال "وول مارت" و"ديكس سبورتنغ جودز" (Dick’s Sporting Goods) أعرضت عن بيع أسلحة بعينها استجابة لحوادث إطلاق النار العشوائي في شتى أنحاء الولايات المتحدة.
يقول البعض إن هذا هو الدرب السليم الذي يتعين على الشركات أن تسلكه، حيث يمكن أن توثّق الروابط مع أصحاب المصلحة المهمين. ويقول آخرون إنه ينبغي تجنب المناصرة بالكلية بأي ثمن للسبب المعاكس تماماً، حيث أنه من الممكن أن تنفّر الموظفين والزبائن.
وهناك الكثير من المؤلّفَات التي تناولت الجانبين. ولكن، أيهما صواب؟ هل تتمتع المناصرة السياسية بالقدرة على تغيير آراء المستهلكين؟ وهل تؤثر فعلاً في سلوك أصحاب المصلحة؟ وهل الناس على استعداد للتقدم إلى وظائف في مؤسسات تتعارض معتقداتها مع معتقداتهم؟ وهل يزداد الناس استهزاء بالنحو الذي تفشت به السياسة في حياتهم اليومية؟ وهل تؤثر انتماءاتهم السياسية في الطريقة التي ينظرون بها إلى المناصرة المؤسسية؟
يمكن أن يكون للإجابة عن هذه الأسئلة الأثر الحقيقي في الشركات. ولهذا السبب شرعنا في دراستها.
استقصينا 168 مديراً عبر قطاعات مختلفة، وكذلك استقصينا طلاب ماجستير إدارة أعمال متفوقين. وإجمالاً، كان 52% منهم نساء، و40% من الرجال (8% منهم لم يستجيبوا). وتراوحت أعمار 41% منهم بين 20 و29 عاماً، و39% بين 30 و39 عاماً، وبلغت أعمار 20% منهم 40 أو أكثر. وطلبنا أيضاً إلى المشاركين مشاركة انتماءاتهم السياسية (انظر القائمتين الواردتين أدناه).
المعتقدات السياسية التي يتعرف عليها المرء ذاتياً
- ليبرالي للغاية: 19%
- ليبرالي: 23%
- معتدل: 30%
- محافظ: 18%
- محافظ للغاية: 9%
الانتماء الحزبي الذي يتعرف عليه المرء ذاتياً
- ديموقراطي: 34%
- مستقل: 50%
- جمهوري: 16%
عرضنا على جميع المشاركين أولاً وصفاً بسيطاً وواقعياً لشركة مُختلقة لخدمات الأغذية متوسطة الحجم أطلقنا عليها اسم "جونز كوربس". وأوردنا معلومات أساسية عن الشركة: منتجاتها وبيان رؤيتها وأرقام إيراداتها والمزايا التي يحصل عليها موظفوها (التأمين وخطة التقاعد 401 (k) ووجبات الإفطار المجانية). وبيّنا أيضاً الجهود الخيرية غير السياسية للشركة، بما في ذلك دعم "نادي الصبية والفتيات" ومبادرة "اسلك طريقاً سريعة"، وتقديم تبرعات تضاهي تبرعات موظفيها.
وبعد ذلك، طُلب إلى المشاركين الإجابة عن سلسلة من الأسئلة للتعرف على آرائهم المبدئية حيال المؤسسة، بما في ذلك تفضيلات الزبائن وتفضيلات التوظيف والنحو الذي أثرت به الأنشطة غير التجارية للمؤسسة في تصور الناس لها ككل. وشملت الأسئلة ما يلي: هل ستبادر إلى شراء منتج من هذه الشركة؟ هل تفضل العمل لدى هذه الشركة؟ إلى أي مدى تعتقد أن هذه الشركة ملتزمة تجاه قيمها؟
ثم فاجأناهم بمعطيات غير متوقعة. وحصل جميع المشاركين على معلومات إضافية، غير أن نصفهم قيل له إن شركة "جونز كوربس" تتحلى بقيم غاية في التحفظ، بينما قيل للنصف الآخر إن الشركة تتمتع بقيم ليبرالية جداً. وذكرنا للمشاركين قضايا إما ناصرتها الشركة أو لم تناصرها، بما في ذلك حقوق الإجهاض وحقوق حيازة الأسلحة وحقوق أصحاب الميول والتوجهات الأخرى المختلفة، وكذلك تبرعاتها السياسية. ووصفنا أيضاً القيم الشخصية للرئيس التنفيذي للشركة. وطُرحت على المشاركين بعد ذلك الأسئلة الواردة أعلاه، وكذلك أسئلة إضافية بخصوص ما إذا كانوا يعتقدون أن أنشطة المناصرة غير التجارية لشركة "جونز كوربس" حقيقية أم مجرد حيل تسويقية لاستقطاب الزبائن.
وكانت النتائج مفاجئة.
فقد نظر المشاركون الذين قيل لهم إن الشركة تتبنى قيماً محافِظة نظرة أسوأ بكثير. وتراجع رأيهم في شركة "جونز كوربس" بنسبة 33%. لم يُنظر للشركة فقط على أنها أقل التزاماً نحو المسؤولية الاجتماعية ومجتمعها، وإنما اعتُبرت أيضاً أقل ربحية. وكانت احتمالية قيام المشاركين بشراء منتجاتها أقل بنسبة 25.9%، وأرجح بنسبة 25.3% لشراء منتجات شركة منافسة لها. علاوة على ذلك، فقد أبدى ما نسبته 43.9% من الباحثين عن وظائف عدم رغبتهم في التقدم إلى منصب فيها.
ولأن النشاط المحافظ كان يُنظر إليه نظرة سيئة للغاية، فقد بدا النقيض مرجحاً للنشاط الليبرالي. لكن هذا لم يكن واقع الحال. فالمشاركون الذين قيل لهم إن الشركة تتبنى قيماً ليبرالية لم ينظروا إليها نظرة طيبة ولا سيئة. ولم يكن هناك أي تغير كبير في أي آراء أو سلوكيات مُتعمدّة.
توقعنا أن نرى بعض الفروق في النحو الذي يستجيب به الديموقراطيون والجمهوريون للنشاط السياسي. أكان لأحد الفريقين رد فعل أقوى من الفريق الآخر؟ إن انخراط شركة ما في نشاط سياسي محافظ أو ليبرالي لم يؤثر في آراء الجمهوريين في تلك الشركة، لكنه أثر في آراء الديموقراطيين فيها. (كما ذكرنا آنفاً، لم يعبأ الديموقراطيون بطريقة أو بأخرى بما إذا كانت شركة "جونز كوربوريشن" تنخرط في أنشطة ليبرالية). وهذا يعني أن التراجع بنسبة 33% في الآراء عندما انخرطت شركة "جونز كوربس" في جدول أعمال محافظ كان مدفوعاً بالكامل بمشاركين انتسبوا إلى الديموقراطيين.
وظننا أيضاً أن العمر ربما أثر في ردود أفعال المشاركين. ولكن، عندما قسمنا المشاركين إلى أبناء العقد الثالث والرابع والخامس أو الأكبر عمراً، كان الفارق الوحيد أن أبناء العقد الخامس أو الأكبر سناً من الأقل رجحاناً أن يشتروا منتجات الشركة بعد إحاطتهم علماً بمناصرتها السياسية.
وتتجلى المزيد من الفروقات عند عقد مقارنة بين الرجال والنساء. إجمالاً، تراجع الرأي المتعلق بشركة "جونز كوربس" لدى الرجال (بنسبة 19.5%) والنساء (بنسبة 19.4%) عندما قيل لهم إن الشركة شاركت في نشاط سياسي. بالإضافة إلى ذلك، اعتبرت النساء الشركة أقل التزاماً نحو المسؤولية الاجتماعية. والفارق في رد الفعل بين الجنسين أيضاً تسبب في خسائر مادية. فقد كانت النساء الراغبات في شراء منتجات من الشركة بعد أن علمنّ بالنشاط السياسي على وجه العموم أقل بنسبة 10%.
وكانت النتيجة الأخيرة التي خلصنا لها الأقل توقعاً إلى حد كبير. فقد سألنا المشاركين ما إذا كانت الشركات تعتنق المناصرة السياسية بحق - وأعني شركتنا المُتخيلة وكذلك أمثلة لبضع شركات أخرى حقيقية - أم ما إذا كانت مصمَّمة على كسب ولاء الزبائن أصحاب الميول والأفكار الشبيهة. وحسبنا أن الأجوبة ستكون حصرية بصورة متبادلة - بمعني أن يُنظر إلى المناصرة إما على أنها معتنقة اعتناقاً صادقاً وإما مصممة لكسب الولاء لا أكثر. ولكن، إجمالاً اعتبر السواد الأعظم من المشاركين أن المعتقدات السياسية للشركات مُعتنقة اعتناقاً صادقاً ومُصممة لكسب الولاء في الوقت ذاته.
وإجمالاً، تكشف هذه النتائج عن تحول مجتمعي بشأن المقبول والمرفوض فيما تؤيده الشركات.
وحقيقة أن المشاركين لم يعتبروا الانخراط في المناصرة الليبرالية مستحسناً أو مستقبحاً توحي أنهم ظنوا أن ذلك الانخراط كان شكلاً من أشكال مزاولة الأعمال الطبيعية لا أكثر ولا أقل. والصراحة أن هذه اللامبالاة أربكتنا. إننا نعيش في عصر نرى فيه الثقة بالمؤسسات التقليدية تضعف بانتظام، خاصة بين أبناء جيل الألفية (الذي شكّل 75% من العينة). وربما قد يفسر هذا افتراض أن المناصرة السياسية قد تم استيعابها لدرجة أنه يُنظر إليها بوصفها الامتداد الطبيعي لنموذج العمل. علاوة على ذلك، أقر المشاركون عموماً بأن المناصرة السياسية وسيلة للشركات للتواصل مع زبائنها والترويج لعلامتها التجارية في آن واحد. واستغلال المناصرة للترويج للجماهير المستهدفة لا يُعدّ لوناً من التلاعب المخادع. وإنما يعتبر ممارسة شائعة.
ومبدأ التداخل المحرّم في السابق ما بين النزعة التجارية والسياسة ربما ولّى زمانه.
ولكن، هناك استثناء وحيد. فقد استجابت النساء بشكل سلبي أكثر للنشاط السياسي للشركات مقارنة بالرجال. ويمكن أن ينتج ذلك عن عدد من العوامل. ربما كانت النساء أكثر انسجاماً مع تلك القضايا لأنها تعكس منظومة قِيميّة تقدميّة تستثمر فيها النساء. في ظل شراء النساء لغالبية المنتجات الاستهلاكية وزيادة إسهامهن الاقتصادي، ينبغي للشركات أن تكون على دراية بالنحو الذي يمكن أن تؤثر به المناصرة في صافي مبيعاتها.
بيت القصيد أن الأشخاص المشمولين في عينتنا كانوا أقل تأثراً بالمناصرة المؤسسية مما شاع على نطاق واسع. ولم يثبت بعد ما إذا كان ذلك يوجِّه سلوك المستهلك بطريقة جدية من عدمه، ولكن ثمة حكاية ربما كانت مفيدة هنا في هذا السياق.
في جامعة "جورج واشنطن" (George Washington University)، ثمة قاعة لتناول الطعام تحوي خمسة مطاعم. أربعة منها إما مملوكة لأفراد وإما سلاسل صغيرة. والخامس مطعم "تشيك فيل أيه" (Chick-fil-A) المشهور بقيمه المحافِظة، يتابعه المستهلكون بسلوك واضح وبتبرعات. في المطاعم الأربعة الأولى، نادراً ما نجد صفاً من الزبائن يصطف أمامها. وأمام مطعم "تشيك فيل أيه"، دائماً ما نجد صفاً من الزبائن يمتد ليشمل 30 شخصاً. وحدوث هذه الظاهرة في واحدة من أكثر الجامعات نشاطاً سياسياً في البلاد أمر محير للغاية. هل يعني هذا أن الشطيرة الشهية تتفوق على القيم؟
ربما، وربما لا.
إلا أن هناك أمراً واحداً واضحاً: إن هذه بيئة عمل جديدة. وإذ نقترب من موسم انتخابات آخر، على الشركات أن تبحث كيفية مشاركتها وانخراطها. قد لا يكون للنشاط السياسي أثر محسوس على مستوى العالم، غير أن أثره هنا باق.
اقرأ أيضاً: كيف تتعامل مع الشخص المخادع؟