كم مرة قضيت يوماً لا يجعلك تشعر بالإرهاق فحسب، بل يُشعرك بأنك لم تنجز شيئاً بالفعل؟ إذا كانت إجابتك "دائماً" أو "كثيراً"، فأنت لست الوحيد. أصبح أداء مهام متعددة استراتيجية للتأقلم في معظم الوظائف المهنية حالياً. ونحن نحوّل انتباهنا باستمرار عن محاولة إنجاز المهام والمشاريع وتتبع الاتصالات التي لا تنتهي والاستجابة لها وتدبر أمر الانقطاع عن العمل من جانب الزملاء وصخب الحياة اليومية في المكتب.
يُخلف الإلهاء المستمر وراءه مجموعة من الأفكار المبعثرة والمهام المنجزة بصورة جزئية. ويتركنا نشعر بالإرهاق والتعب. وعندما لا تترافق أيامنا المزدحمة والمرهقة مع شعور بالإنجاز، يبدو العمل الذي نقوم به غير مرض في أحسن الأحوال - ومثبطاً للهمم في أسوئها. ويمثل هذا وصفة للإنهاك الشديد لأن إحراز التقدم هو ما يحفزنا.
أثناء عملي كمدربة للإنتاجية ومتحدثة في حوالي 2,000 مؤسسة، اكتشفت أن تشتيت الانتباه هو أكبر عائق يحول دون العمل الهادف والباعث على الرضا. وتشير الدراسات التي أجرتها غلوريا مارك وزملاؤها إلى أننا نغير غالباً ما نقوم به كل بضع دقائق وأن هذه الانقطاعات المتكررة "تجعلنا نعمل بوتيرة أسرع، مما يسبب زيادة التوتر والإحباط وضغوطاً ناتجة عن عامل الوقت والجهد". ولا يقوض هذا أداءنا وحده بل طريقة "ظهورنا" في العالم.
في المقابل، يُعرف كال نيوبورت، الأستاذ في جامعة جورجتاون "العمل العميق" بأنه "القدرة على التركيز دون إلهاء على مهمة تتطلب حذاقة". ويقول إن الفائدة هي أنه "يتيح لك إتقان المعلومات المعقدة بسرعة وتحقيق نتائج أفضل في وقت أقل".
وأنا أفكر بالعمل العميق باعتباره يتطلب "زخماً من القدرات العقلية". إذ إن الشروع بالعمل والتركيز عليه وحشد مواردنا بالكامل لصالح أهم أعمالنا وأكثرها جدوى يستغرق وقتاً طويلاً. ولا أعني بكلمة "موارد" معرفتنا وحكمتنا وتجربتنا فقط، بل تعاطفنا وشغفنا ولطفنا ومثابرتنا أيضاً وجميع الصفات الأخرى التي نضيفها إلى حياتنا اليومية لنجعلها فريدة من نوعها وأكثر غنى وأقوى أثراً. والعبارة التي أستخدمها لأصِف تعزيز هذا الزخم لصالح مهمة أو تجربة أو صلة هي "إطلاق العنان لعبقريتنا".
فكّر في هذا التشبيه: تخيّل أن مهمتك هي ركوب دراجة لمسافة 10 أميال. فأنت تبدأ بتحريك الدواسة وبمجرد أن تبدأ بزيادة السرعة وإحراز تقدم، يدفعك أمر غير متوقع إلى الضغط على الفرامل. ولأنك اضطررت إلى التوقف، فقد فقدت زخمك وعليك أن تبذل المزيد من الجهد لتنطلق من جديد. تخيّل أنك مجبر على الضغط على الفرامل في كل مرة تبدأ فيها بالانطلاق بسرعة أكبر. لن تستطيع أن تنطلق بانسيابية مطلقاً. وعليك أن تحرك الدواسة بقوة طوال الوقت. ما هي المدة الإضافية التي تعتقد أنك ستستغرقها للوصول إلى وجهتك؟ إلى أي مدى سيكون الأمر أصعب وأكثر إحباطاً؟ يشبه هذا طاقتك الذهنية أثناء التشتت وينتج عنها أيام عمل غير مرضية وخالية من الإنجاز.
ولا يمكنك إطلاق العنان لعبقريتك بالكامل أثناء الزيادات البسيطة في سرعتك التي مدتها ثلاث دقائق المتاحة لك بين حالات التشتت. لسوء الحظ، أصبح التشتت بالنسبة للكثيرين منا عادة معززة غالباً وبشكل روتيني بحيث أصبح التخلي عنها صعباً للغاية. تؤدي التكنولوجيا المقنعة - أي التكنولوجيا التي تستخدم تقنيات متطورة مستوحاة من علم النفس السلوكي "لتقنعنا" بمواصلة التفاعل من خلالها - إلى تفاقم المشكلة. هكذا مع مرور الوقت، ومع تزايد قوة عادتنا ننطلق باحثين عن وسيلة إلهاء. وعندما يصبح الوضع هادئاً أو تصبح المهمة مملة أو محبطة، فإننا نمسك بهواتفنا.
وسيجد أولئك منا الذين اعتادوا على التشتت أن لدينا فترات انتباه أقصر وصبر أقل لاستخدام قدراتنا العقلية بطريقة مجدية. نحن نرى الآن أنها مهمة بغيضة ومستعصية، مما يعني أننا أقل عرضة لبناء الزخم من القدرات العقلية اللازم لإطلاق العنان لعبقريتنا. وبذلك فقد تفاقمت المشكلات المرتبطة بالتشتت: إذ انخفضت قدرتنا على المشاركة في عمل مدروس فضلاً عن رغبتنا في القيام بذلك بالفعل.
اقرأ أيضاً: لا تدع البريد الإلكتروني يتحكم بيوم عملك بعد الآن.
ولهذا السبب فقد أصبحت مقتنعة بأن السبيل المفضي إلى تحسين الإنتاجية لا يكمن في "إدارةالوقت"، بل في إدارة الاهتمام والتخلص من عادة التشتت. وتتمثل الأشياء الثلاثة السهلة التي يمكن لأي شخص القيام بها للبدء بهذه العملية في إدراك هذه العادة ووضع خطط للتغلب عليها والاستفادة من مبدأ طاقة التنشيط.
والخطوة الأولى هي الوعي لأنه من الصعب تغيير عادة لا تدرك أنك تمارسها. تنتج العادات عن الإشارات، لذلك حاول أن تلاحظ عدد المرات التي تسمح فيها لانتباهك أن يتشتت والسبب وراء ذلك. وفي كل مرة تجد نفسك تنصرف عن مهمة دون نقطة توقف متعمدة، دوّن ذلك في ورقة. ثم فكّر في السبب الذي أدى إلى تشتت انتباهك ودونه أيضاً.
حالما تصبح مدركاً للإشارات، يمكنك إيجاد أساليب للتغلب عليها. على سبيل المثال، اسأل نفسك والآخرين عما قد تفعله بالضبط لتمنع الأشخاص من مقاطعتك عندما تحاول التركيز أو عما قد تقوله بالضبط إذا قاطعوك على أي حال. أو اسأل عما قد تقوم به لتمنع نفسك من إمساك هاتفك. سجل هذه الأفكار وحدد الفرص المتاحة لك لتجربها، ثم سجل ما إذا كانت ناجحة أم لا. مع مرور الوقت، ستبدأ بفهم ما يُجدي وما لا يصلح في الحالة التي تتفرد بها.
اقرأ أيضاً: نصائح طبية للتعامل مع البريد الإلكتروني.
الطريقة الثالثة للتخلص من عادة التشتت هي مبدأ "طاقة التنشيط". يَسر المشاركة في عادات إدارة اهتمام أكثر إنتاجية. مثلاً، لتبدأ العمل على هذه المهام المدروسة والهامة التي قد تبدو صعبة خلافاً لذلك، قسمها وكُن أكثر دقة. وبدلاً من إضافة بند "كتابة مقالة" إلى قائمة مهامك، ضع "أدرج أربع نقاط رئيسة لكتابة مقالة". وبدلاً من أن تكتب "حلل التقرير"، أكتب "حدد الفكرة الرئيسة في القسم الأول من التقرير". ستزيد فرص قيامك بذلك إذا بدا الأمر سريعاً وسهلاً. لذا اجعل كل شيء يبدو سريعاً وسهلاً.
يتمثل الجزء الأصعب في الشروع في العمل. النتيجة الطبيعية لطاقة التنشيط هي ما أسميه "الاحتكاك". (يُلقب شون آكور، الباحث في مجال السعادة هذين المبدأين بقاعدة الـ 20 ثانية). وهذه أداة يمكنك استخدامها أيضاً. على سبيل المثال، إذا وجدت نفسك معتاداً على تفقد بريدك الإلكتروني باستمرار على هاتفك الذكي في المنزل ليلاً، فقد لا يكون ذلك لأنك ترغب حقاً في قراءة رسائل البريد الإلكتروني. وربما يحدث ذلك لأنك "معتاد على" تفقد بريدك الإلكتروني في المكتب طوال اليوم ببساطة - وهذه عادة. لذلك عندما تغادر المكتب، اعتزم على التخلي عنها واخلق بعض الاحتكاك ليدعمك. أُدخل إلى إعدادات حسابك على جهازك وغير وضع حساب البريد من "تشغيل" إلى "إيقاف". ثم حتى إذا وجدت نفسك تنقر على تطبيق البريد الإلكتروني الخاص بك بطريقة لا إرادية، فسوف تجد أمامك شاشة فارغة. وسيستغرق الأمر بضع ثوان إضافية لتعود إلى الإعدادات وتعيد تشغيل البريد الإلكتروني، الأمر الذي قد يكون كافياً لتذكيرك بخطتك والعدول عن رغبتك العارمة.
يجعلنا التشتت نشعر بالإرهاق ويشبه عدم إنجازنا لأي شيء على الرغم من أننا مشغولون دائماً. ولأنه يتحول إلى عادة، فنحن غالباً ما نلهي أنفسنا عندما لا يشتت شخص آخر انتباهنا. ولتجنب الإرهاق، نحن بحاجة إلى ابتكار خطة وإقرارها بحيث نتمكن من إنجاز أهم أعمالنا ونحن مستغرقون في التفكير فيها وإطلاق العنان لعبقريتنا في العالم.
اقرأ أيضاً: تعرف على نظام شديد الفعالية للتعامل مع البريد الإلكتروني.