لقد حدّدت معدلات النمو ملامح النجاح بالنسبة لمعظم الشركات التكنولوجية على مدار السنوات العشر الماضية. وسمح قانون مور بقدرة حاسوبية غير مسبوقة فتحت الباب للمنافسة في أسواق يستأثر فيها الفائز بكل شيء، مع تزايد في معدلات العائد على حجم الإنتاج (returns to scale). أصبح استسراع النمو (Growth hacking) بمثابة الشعار الريادي في بدايات القرن الحادي والعشرين، ما أدى إلى ظهور شركات تكنولوجية عملاقة جديدة، وقطاعات جديدة كلياً، وعصر أعاد فيه المجتمع الرقمي والمحتوى والتجارة تعريف الطريقة التي نعيش من خلالها ونتعلم ونعمل.
تكتسي السرعة والمثابرة أهمية قصوى في سباق الجري. وقد تحلّت بعض الشركات، من فترة ازدهار التكنولوجيا منتصف الألفية الثانية، بالحكمة لتخفف من سرعتها ترقباً لرحلة طويلة تنتظرها في المستقبل. قادنا هوسنا الجماعي بالزعزعة للنظر إلى شركات يبلغ عمرها عشرات السنوات، كأشياء يتعين علينا تدميرها بدلاً من الاعتراف بإعجابنا بها. وسيطر احتمال تحقيق مكاسب تحدد المسار الوظيفي على الكثير من المستثمرين والمستشارين، وفشلنا في تدريب المؤسِّسين على أساسيات الاستدامة. نحن نعترف الآن فقط بالوضع غير المقبول الذي كان سيؤول إليه الأمر وهو "التحرك بوتيرة سريعة وتخريب الأمور".
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: ما معنى تعويم العملة؟
يُعتبر عنصر طول العمر من المسلمات في عملية إنشاء العمل، ولا يسعى أحد إلى تأسيس شركة لها تاريخ انتهاء. وبالتالي، يُمعن عدد قليل جداً من الشركات في التفكير بالمبادئ الاستراتيجية المطلوبة للبقاء. ونعتقد أنّ هذا الأمر بالغ الأهمية للمضي قدماً.
من خلال الاطلاع على الشركات القائمة منذ فترة طويلة في قطاعات مختلفة، استطعنا التعرف على عناصر أساسية عديدة ساهمت في تثبيت هذه الشركات. وتتضمن هذه العناصر مبادئ "المجتمع أولاً"، واستراتيجيات متكيفة طويلة الأمد، وقيادة قابلة للتوسع. وبالاعتماد على مثل هذه المعايير، تستطيع الشركات الناشئة زيادة احتمالات الاستدامة على المدى البعيد دون التأثير سلباً على النمو قصير المدى أو المجتمع بشكل عام.
قم ببلورة إطار عمل للقيم يهدف إلى تحقيق أثر مجتمعي، وليس إنجازات مالية فحسب.
في البحث الذي أجراه جيمس كولينز وجيري بوراس عن "الشركات ذات الرؤية الثاقبة" التي بقيت قائمة لأكثر من 50 عاماً، لم يجد الباحثان شركة واحدة اعتبرت "زيادة ثروة المساهمين" أو "تعظيم الأرباح" أو حتى "زيادة النمو إلى الحد الأقصى" قوة دافعة لنشاطها. وقبلت جميع الشركات الربحية كعامل مهم للاستدامة، ولكنّ هذا العامل لم يُحفز الشركات أو يوجهها. ولكن ما شكّل هوية الشركات التي وصفها الباحثان في كتابهما "بُنيت لتبقى" (Built to Last) كان التزامها القوي بمجموعة أساسية من القيم التي أعطت الشركة إحساساً بالهدف وفهماً للدور الذي تؤديه الشركة في المجتمع، وكيفية خلق هذه الشركات لقيمة للآخرين. كانت هذه القيم الأساسية بمثابة الضمير لدى هذه الشركات، فوفرت لها التوجيه، ليس بخصوص الغايات التي يتعين عليها السعي وراء تحقيقها فحسب، إنما بالوسائل التي يتعين استخدامها لتحقيق أهدافها.
ويأتي أحد الأمثلة على تقديم المهمة على الربح من شركة "إنترماونتين هيلث كير" (Intermountain Healthcare)، وقرارها الذي اتخذته عام 2016، بخصوص استقطاع 700 مليون دولار من عائدات المرضى للبدء في تحويل الشركة من عملية رعاية صحية قائمة على الكمية، وبرسوم، مقابل الخدمات إلى نموذج قائم على القيمة. تأسست الشركة عام 1975 مع رسالة تتمثل في مساعدة "الأشخاص في العيش بأفضل حياة صحية ممكنة". ومع تطور نظام الرعاية الصحية وازدياد تعقيداته، اعترفت الشركة بحاجتها إلى قيادة تغيير كبير بهدف الانسجام مع رسالتها، وتوجيه نفسها نحو مستقبل مستدام. وأشارت رئيسة العمليات في الشركة، لورا كايسر، إلى أنّ قراراتهم لم تكن أعمالاً خيرية، ولكنها كانت أعمالاً على مستوى الاستراتيجية.
سيتطلب الأمر وقتاً لقياس نجاح شركة "إنترماونتين هيلث" كأولى الشركات المعتمدة على هذا النموذج التشغيلي، ولكن التزام المؤسسة الشجاع تجاه معتقداتها الأساسية يمكِن أن تكون له أهمية كبيرة في الحفاظ على مكانتها كأكبر مزود لخدمات الرعاية الصحية في سوقها الإقليمية.
تواجه الشركات التكنولوجية الحديثة مشاكل كبيرة ومعقدة، تتمحور حول المخاوف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والخصوصية والتلاعب في السلوك، إذ لا تستطيع إحداث زعزعة وتجاهل آثار منتجاتها وعملياتها على بيئة العمل العامة. تُعتبر أكثر الأسس استقراراً هي تلك التي بُنيت على الاحترام المتبادل بين العمل والمجتمع. وبالتالي، فإنّ من المهم الوضوح في إظهار الفوائد الاجتماعية و الاقتصادية لتحديد المبادئ الأولى عندما يتعلق الأمر بقيم الشركة.
أظهر القدرة على تنفيذ الأعمال الثانية والثالثة.
الشركات القائمة ليست شركات محدودة المواهب والقدرات. سيدرك القادة، الذين يمتلكون رؤية طويلة الأمد، أنهم يحتاجون تنفيذ انتقالات تتجاوز العمل الأول الناجح للغاية. تتغير تفضيلات الأسواق والقدرات التكنولوجية واللوائح التنظيمية. وما كان ذات مرة حديثاً يُصبح مع مرور الوقت سلعة. تتوقع الأعمال الناجحة أنها ستمر بدورات نضوج تتطلب منها انتقالات منظمة.
ويأتي مثال جيد هنا من شركة "أميركان إكسبرس" (American Express)، التي قادها أحدنا وهو (كين) كرئيس تنفيذي لفترة تقارب عقدين من الزمان. بدأت الشركة أعمالها عام 1850 كشركة شحن إقليمية سريعة، ولكن تحويل الموجودات إلى نقد عام 1892، حوّل الشركة إلى مركز خدمات مالية. واجه رئيس الشركة، جيمس فارغو، صعوبات جمّة في تحويل خطابات اعتماده المالي إلى نقود. وفكّر "إذا كان رئيس شركة "أميركان إكسبرس" يواجه هذا النوع من المشاكل، فكّر فقط فيما سيواجه المسافرين العاديين بالتأكيد".
وكان الحل في "شيكات أميركان إكسبرس السياحية" الموجودة في كل مكان. كما وفرت آليات العمل، وحقيقة أنهم باعوا طلبات أكثر من تلك التي استردوا قيمتها، فرصة أخرى للشركة: التعويم.
لم ترغب أميركان إكسبرس صراحة بأن تُصبح شركة خدمات مالية، وقد كانوا ممتازين كمتعهدي شحن. ولكن قدرتهم على اغتنام فرصة جديدة وتحويلها إلى عملياتهم الحالية تثبت قدرتهم الفريدة على التطور وتنفيذ أعمال جديدة. وهم يتركون لالتزامهم تجاه توفير "خدمة لا مثيل لها" لزبائنهم أن يقود تفكيرهم الاستراتيجي، ما يسمح لهم بمعرفة الفرص الجديدة في السوق، والقوى التي قد تهدد أعمالهم القائمة. وقد سمح هذا الموقف لشركة "أميركان إكسبرس" بتنفيذ أعمال ثالثة ورابعة وخامسة على مدار 150 عاماً من العمليات.
وفي قطاع التكنولوجيا، تُعتبر مايكروسوفت مثالاً جيداً في القدرة على تنفيذ أكثر من عمل واحد. يتفهم الرئيس التنفيذي للشركة ساتيا ناديلا ضرورة امتلاك "عقلية نمو" بدلاً من عقلية جامدة. واعترف أنه كان على "مايكروسوفت" تجاوز التفكير بشأن نظام تشغيل ويندوز، بصفته عملها الجوهري، لذا دفع الشركة إلى بناء خدمة الحوسبة السحابية أزور (Azure) التي تشكل أكثر من 34 مليار دولار من الإيرادات السنوية.
توجد الكثير من الشركات الهالكة التي لم تكن قادرة على القيام بهذه التحولات، مثل "داتا جينرال" (Data General)، و"ديجيتال إكويبمنت كوربوريشن" (Digital Equipment Corporation)، و"وانغ لابوراتوريز" (Wang Laboratories)، و"بوروس كوربوريشن" (Burroughs Corporation)، و"سبيري كوربوريشن" (Sperry Corporation). وتشير دراسات أجريت مؤخراً إلى أنّ نحو 50% من الشركات المدرجة تحت قائمة "إس آند بي 500" (S&P 500) ستُستبدل على مدار السنوات العشر المقبلة، إن لم تكن قادرة على إعادة ابتكار نفسها. وإن استمرت "مايكروسوفت" بالتركيز على مجال واحد، فلربما كان مصيرها الانضمام إلى تلك القائمة. ولكنها بدلاً من ذلك احتضنت التغيير المستمر (والجذري) لتصبح واحدة من أعلى الشركات قيمة في العالم.
تجاوز القرارات التي تعتمد على المؤسسين إلى نظام قيادة قابلة للتوسع.
في أحوال كثيرة تسير الشركات الناشئة الناجحة وفقاً لرؤية مؤسسيها وفريقها الأساسي. تتولى مجموعة صغيرة من الأفراد الذين يمتلكون الإرادة والدافعية لتوجيه الشركة في مراحلها الأولى، اتخاذ معظم القرارات الرئيسة. وعند دعم أي شركة، نكون على علم بعقليات المؤسسين ونلتف حول تلك العقليات التي تبني موقفاً من المسؤولية.
يستطيع فريق مؤسسين يلتزم بمبادئ محددة إنشاء شركة رائعة، لكن إنشاء شركة قادرة على البقاء يتطلب نظاماً من القيادة يتم تنفيذه في المراحل الأولى للشركة. يسمح إطار العمل بالتفويض وتوزيع عملية اتخاذ القرارات على أقسام المؤسسة. ويكون هذا الإطار متجذراً في ممارسات الموظفين التي تساعد الشركة دائماً على توظيف المواهب القيادية وتطويرها والاحتفاظ بها على جميع المستويات، ويجعل القرارات منسجمة مع رؤية الشركة وقيمها.
تُعتبر شركة "والت ديزني" مثالاً لعمل أتى فيه الالتزام بقيم جوهرية محددة وموقف تحولي معاً في ظل نظام قيادة سمح للشركة بالتأكيد على نفسها وترسيخ نفسها كقائدة في المحتوى والتجارة والخبرات، على مدار نصف القرن الماضي.
في الخمسينات من القرن الماضي، كان المؤسس و"الت ديزني" رائد نهج متعدد الاستراتيجيات لشركته، والتي مثلت قالباً "للنمو المستدام" ، ليس لديزني فحسب، بل لمؤسسات أخرى لا حصر لها. كل موظف في شركة "ديزني" يمر بعملية التطوير الدقيقة نفسها، والتي تؤكد على الرؤية والقيم، وأنّ السلوكيات مقدَّمة على النوايا، وأنّ الهدف مقدَّم على المهمة. ومن خلال الالتزام بمثل هذا التدريب، تثق الشركة في موظفيها كلهم كمسؤولين عن العلامة، إذ يمتلكون القدرة على اتخاذ القرارات دون رقابة مشددة.
مكّن الرئيس التنفيذي لشركة "ديزني" بوب آيغر الشركة من البقاء كمركز ابتكاري من خلال فتح الباب أمام القادة الآخرين للمشاركة في عملية اتخاذ القرارات الإبداعية. وعند استحواذ الشركة على علامات شهيرة، من لوكاس فيلم (Lucasfilm) إلى مارفل (Marvel) وفوكس (Fox)، قدّم إيغر لهذه الفرق القيادية استقلالية تُمكّنهم من الازدهار داخل بيئة عمل "ديزني". يعتبر ُالنجاح المستمر لشركة "ديزني" بعد وفاة مؤسسها البارز بمثابة شهادة على قوة نظام قيادة يبقى على مر الزمن.
تمثلت إحدى نقاط التحول الرئيسة بالنسبة للمؤسسين في امتلاك القدرة على بناء فريق قوي جداً وقادر على إدارة نفسه، ما أعطى المؤسسين وقتاً للتركيز على غرس الثقافة والرسالة والقيم عميقاً في روح المؤسسة النامية. كلما أسرع المؤسسون بتطبيق نظام قيادة، يكون بوسعهم تمكين جميع الموظفين الآخرين داخل جميع مستويات الشركة في غضون وقت أقل.
البقاء
نركز على البقاء كأحد مبادئ التصميم الأساسية، لأننا نعتقد أنّ أفضل الأعمال تنسجم في جوهرها مع مصالح المجتمع على المدى البعيد. تعتمد المكاسب الاقتصادية على الاحترام، ولا تستطيع الشركات اليوم كسب الاحترام إلا إذا كانت مُلتزمة بدراسة تبعات أعمالها بشكل موضوعي، إلى جانب التزامها بالتطور لامتلاك أثر إيجابي شامل على المجتمع أيضاً.
نحن متفائلون هنا، لأنه رغم دورات الأخبار الحالية/ ثمة شركات حديثة نعمل معها مثل "جستو" (Gusto) و"سترايب" (Stripe) والتي تمتعت بنظرة بعيدة الأمد منذ إنشائها. أمضت الشركتان سنواتهما الأولى في التركيز على تحقيق نمو مستدام ومدروس، وكيفية معالجة التحديات المجتمعية مباشرة خلال عملهما.
ونرى هذا واضحاً في الفلسفة التوجيهية لدى شركة "جستو"، التي تُقدم خدمات إلكترونية متعلقة بجدول الرواتب، إذ تقول "لا تبرر المكاسب قصيرة الأمد التضحيات طويلة الأمد أبداً. استثمر في المستقبل". وفي الآونة الأخيرة، أظهرت الشركة بُعد نظرها في الدخول إلى سوق تنافسية، إلى جانب الالتزام بخدمة جهات التوظيف والموظفين على حد سواء، مع إطلاقها لمنتج يتميز بالمرونة في الرواتب. وبالنسبة لشركة "سترايب" المختصة في معالجة الدفع الإلكتروني، فهذا موجود بشكل واضح في انضباط الشركة في العمل بما يتعارض مع رسالتها التي تدعو إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي للإنترنت. وبدلاً من التهجم على تلك الرسالة من جميع الجهات، كبرت الشركة بثبات وبشكل مدروس من منتج لمعالجة الدفعات مخصص للأعمال الصغيرة في الولايات المتحدة إلى منصة تجارية عالمية متكاملة تخدم جميع الأعمال.
يستطيع الجيل الحالي من الشركات عالية النمو بناء إمكانات تساعده على بناء منتجات وخدمات ممتازة، مع تجنب المعضلات الأخلاقية، من خلال التفكير في البقاء على أنه عنصر أساسي في الحمض النووي لهذه الشركات. وبإضافة الوضوح إلى القيم الأساسية التي تمتلكها الشركات في المجتمع، فإنّ القدرة على التأقلم ستمكّن الشركات من التحول في الوقت التي تتطور فيه الأسواق، وسيزيد نظام القيادة من احتمالات قدرتها على البقاء إلى مراحل تتجاوز جيل التأسيس.