على مدى عقود، أثبتت البحوث حول المعاناة مع ضغوط العمل كيف أن إرشاد وتوجيه الموظفين المبتدئين يعود عليهم بالفائدة. وتبين أن التوجيه من كبار الموظفين يرتقي بمستوى الأداء الوظيفي والرضا لدى الحاصلين عليه. ولكننا لا نعلم الكثير عن فائدة هذا الأمر للمرشدين أنفسهم.
كنا مهتمين بفهم الطريقة التي يمكن للتوجيه من خلالها أن يساعد المرشدين الذين يعملون في وظائف مرهقة. أشارت أبحاث سابقة إلى أن الإرشاد يمكن أن يعزز من مستوى الصحة العاطفية لدى الحاصلين على التوجيه عند بناء علاقة تتسم بالقرب والثقة المشتركة. وتساءلنا فيما إذا كان المرشدون سيحصلون على القدر نفسه من الفوائد على مستوى الصحة العقلية جراء اضطلاعهم بالتوجيه.
المعاناة مع ضغوط العمل
نظراً لأن الصحة العقلية تشكل موضع قلق متزايد في الوظائف التي تؤدي أدواراً اجتماعية مهمة، مثل مزاولي المهن الطبية ورجال الإطفاء وأفراد الشرطة. ولأن عملية حفظ الأمن هي إحدى أكثر المهن المسببة لضغوط العمل، بالإضافة إلى أنها تواجه مستويات مرتفعة من الصعوبة التي تطال الصحة العقلية والرفاهية، فقد أجرينا دراسة موسعة على أحد برامج الإرشاد الرسمية لدى أحد أقسام الشرطة الإنجليزية.
بدأ تنفيذ البرنامج الإرشادي في عام 2013 داخل أحد المقرات الشرطية في كل من إنجلترا وويلز. وصُمّم هذا البرنامج لدعم تطور أفراد الشرطة المبتدئين من خلال إعطائهم طريقة لمناقشة تطلعاتهم واهتماماتهم وتلقي التوجيهات. وقد تضمنت دراستنا جزأين. الأول: هو أننا أجرينا تجربة ميدانية، عقدنا فيها مقارنة للصحة العقلية لدى مجموعة معالجة مكونة من 17 زوجاً من المرشدين والحاصلين على التوجيه الخاضعين لبرنامج إرشادي، مع مجموعة مرجعية تضم 18 زوجاً من أفراد الشرطة الكبار والمبتدئين ممن لم يشتركوا في البرنامج. والجزء الثاني: هو أننا أجرينا مقابلة مع كل من الحاصلين على التوجيه ومرشديهم بشكل مستقل، وفي المجمل أجرى 18 زوجاً مشاركاً 35 مقابلة رسمية. سألنا المرشدين والحاصلين على التوجيه حول مستويات الضغوط لديهم، والجوانب التي أحبوها في عملهم، وكيفية تعاملهم مع التوتر، وفيما إذا ساعدتهم علاقتهم التوجيهية في هذا الأمر.
وأظهرت نتائج تجربتنا أن الأشخاص الذين عملوا مرشدين عانوا من مستويات قلق أقل، ووصفوا وظيفتهم بأنها أكثر أهمية مقارنة بأولئك الذين لم يضطلعوا بإرشاد أحد. كما تَبين لنا من خلال مقابلاتنا أن الإرشاد أتاح لكبار أفراد الشرطة، والمبتدئين منهم، مكاناً للنقاش والتعبير عن مخاوفهم. ذلك أن المرشدين استمعوا إلى شهادات الحاصلين على التوجيه حول القلق، ووجدوا أن هذه المشاعر، التي كانت لديهم أيضاً، هي أمور عادية. ومن خلال الاعتراف بأن مشاعر القلق هذه مشتركة، تزايدت نسبة الشعور بالراحة لدى كل من المرشدين والحاصلين على التوجيه أثناء نقاشهم لها والتشارك في آليات التعامل المختلفة. وقد تَبين للمرشدين في أحوال كثيرة أن تفاعلهم مع زملائهم المبتدئين له فوائد علاجية بالنسبة لهم.
فقد قال الكثير من الذين قابلناهم إنهم وجدوا أن الإرشاد عزز أهمية عملهم. كما عبّر بعض كبار أفراد الشرطة عن شعورهم بأنهم منفصلون عن أعمال حفظ الأمن اليومية التي يضطلع بها زملاؤهم المبتدئون. وتحدثوا عن الطريقة التي منعتهم بها الاجتماعات وإدارة المشاريع طويلة الأمد عن أداء ما وصفوه بـ "حفظ الأمن الحقيقي". والمقصود هنا هو أنهم كانوا أقل قدرة على رؤية أثر عملهم في حياة الناس. ولكن المساعدة في تدريب أفراد الشرطة المبتدئين مكنتهم من مشاهدة نتائج مباشرة وفورية. على سبيل المثال، قال أحد كبار أفراد الشرطة: "يجعلك توجيه المبتدئين قادراً على فعل شيء مهم لشخص ما ورؤية النتائج بسرعة كبيرة. فأنت تساعد هؤلاء الأشخاص. وهم لا يصغون إليك دائماً، ولكن هذا مُرضٍ في حد ذاته. هذا أكثر بكثير مما يجب عليّ فعله في هذه الأيام". وأشار مرشد آخر إلى قدرته على مساعدة متلقي التوجيه في التماس طريقه أثناء تولي منصب جديد، وإلى أنه كان قادراً على رؤية تقدمه. وقد ساعده هذا الإنجاز في إدراك مدى أهمية مهماته اليومية وكيف يمكن لهذه المهمات أن تُحدث تأثيراً إيجابياً.
لماذا يترك الإرشاد هذا الأثر في المرشدين؟ نعتقد أن الإرشاد يوفر فرصة للحصول على الدعم الذي نفتقر إليه في أغلب الأحيان. يميل أفراد الشرطة إلى عدم طلب الدعم من أفراد الشرطة الآخرين، بمن فيهم زملاؤهم الأعلى مرتبة، وذلك على الرغم من الضغوط التي تصاحب عملهم، التي تشمل إساءة استخدام السلطة وصعوبة اتخاذ القرارات ومخاطر الوفاة. ويفعلون ذلك لتفادي وصمة سلبية مرتبطة باضطرابات الصحة العقلية. ومن أجل ذلك، أتاح الإرشاد إمكانية بناء الثقة في إطار علاقة تمثل ركيزة لتواصل مفتوح وصادق حول موضوعات حرجة.
وبينما اعتمدت دراستنا على عينة صغيرة، ومع وجود حاجة لإنجاز المزيد من العمل حول هذا الموضوع، فإننا نعتقد أن الإرشاد لديه القدرة على دعم الصحة العقلية للمرشدين في حالات أخرى. وعلى الرغم من أن تجربة أن يكون الشخص شرطياً مختلفة عن الكثير من الحالات، فإن الوصمة المحيطة بموضوع السلامة العقلية منتشرة في كثير من أماكن العمل. وثمة دليل ملموس أيضاً على أن الإرشاد الفاعل يبني الثقة بين المرشدين والحاصلين على التوجيه، ما يدعم الإفصاح عن المعلومات الشخصية. وبهذه الطريقة، توفر برامج الإرشاد الرسمية فرصة لتشجيع النقاش حول موضوعات صعبة وحرجة، تبقى في أغلب الأحيان طي الكتمان، ومن ثم الانتقال من تجارب التوتر والقلق الصعبة إلى حالة طبيعية.
بكل تأكيد، يعتبر الإرشاد شكلاً من أشكال الاستثمار، ولا يكون ربح الفوائد فورياً دائماً. إذ يمكن أن تقف التزامات العمل عقبة في الطريق وتمنع عقد اجتماعات منتظمة، ما يجعل بعض المرشدين والحاصلين على التوجيه غير قادرين على بناء رابطة شخصية، ومن ثم يقل تأثير الإرشاد في الصحة العقلية. وقد ذكر المرشدون في دراستنا أن الآثار الإيجابية في مستوى القلق وأهمية عملهم تعززت مع استمرار الإرشاد بمرور الوقت، وذلك من خلال الاجتماعات المنتظمة مع متلقي التوجيه منهم. كما ازدادت الثقة بينهم، وكذلك فرص مشاركة الطموحات. وأصبحت التفاعلات بين المرشدين ومتلقي التوجيه ذات قيمة أكبر، من خلال وضع الخطط المهنية والشخصية معاً ومراجعة كيفية سيرها.
فإذا كان من شأن التوجيه أن يساعد المرشدين على تجنب المعاناة مع ضغوط العمل، فيجب على المؤسسات مراعاة الموارد المخصصة للإرشاد وتوخي المرونة للسماح بنمو هذه العلاقات التوجيهية. ربما يندهش الملتزمون بالإرشاد من تلك الفوائد متعددة الأبعاد التي تترتب على ممارسة التوجيه.
اقرأ أيضاً: