تستضيف المملكة العربيّة السعودية اثنتين من رحلات الحج الديني الأكبر على الإطلاق عالمياً، وهما الحج والعمرة. فمنذ عقودٍ من الزمن، وهاتان الرحلتان توفّران للمسلمين من حول العالم تجربة روحانية فريدة، بينما ما زال التخطيط والدعم اللوجستي لهاتين المناسبتين يتخذ غالباً أشكالاً تقليدية.
وفي ظل التحولات التي تشهدها الساحة العالمية، وتوجه العالم نحو مستقبل رقمي متكامل، تُعتبر المملكة العربية السعودية أمام فرص تاريخية لتطوير قطاع الحج والعمرة، وتعزيز التجربة الروحانيّة لـ 1.6 مليار مسلم منتشرين في مختلف أصقاع العالم. وانطلاقاً من هنا، وتماشياً مع الأهداف التي تنص عليها رؤية المملكة 2030، ينبغي أن تستفيد السعودية من التحولات الرقمية، لتكرس الابتكارات الرقمية في خدمة تجربتي الحج والعمرة وتحسينها بشكل جذري. ويمكن أن يندرج ذلك ضمن برنامج "خدمة ضيوف الرحمن" والذي هو كناية عن مبادرة اتخذتها الحكومة السعودية بقيادة وزارة الحج والعمرة بهدف تحسين تجربة الحجاج وتطوير القطاع ككل.
كانت وزارة الحج والعمرة السعودية أول من أطلق مصطلح "الحج والعمرة الذكيّة"، لتعريف العالم بالمبادرات الحكومية القائمة على التقنية التي تخدم قطاعي الحج والعمرة. ولدراسة التحول الرقمي لهذا القطاع بشكل أفضل ورسم استراتيجية له، أصدرت "كروم أدفايزوري"، بصفتها شركة استشارات سعودية والتي نعتبر نحن كاتبا المقال شريكان مؤسسان فيها، تقريراً يحمل عنوان "الحجّ الإلكتروني: رحلة تعززها التقنيّة". ففي هذا التقرير، تستعرض كروم أدفايزوري ما أسميناه تقنيات الحج الإلكتروني (e-Hajj) المرتبطة بالتقنيات السائدة التي تبسّط أو تدعم أو تغيّر قطاع الحج والعمرة التقليدي. وتُعد البيانات الضخمة (Big Data)، والذكاء الاصطناعي (AI)، وسلسلة الكتل أو بلوك تشين (Blockchain) بعض نماذج التقنيات المتاحة لتطوير حلول مجدية تجارياً لخدمة السياحة الدينية السعودية وتعزيزها بالطريقة الفضلى. وتشمل هذه الحلول تذليلاً للتحديات التي تفرضها إدارة الحشود والضيافة والسياحة والاتصالات والنقل والخدمات اللوجتسية والأمن والرعاية الصحية، فضلاً عن السلع الاستهلاكية. وفي سياق أوسع، يمكن تطبيق تقنيات الحج والعمرة للارتقاء بمعايير العيش الحضري حول العالم أو لإدارة فعاليات حدث عالمي من هذا القبيل.
قدرة السوق
تشكّل مكة المكرمة والمدينة المنورة مكوناً رئيساً من مكونات اقتصاد المملكة العربية السعوديّة غير النفطي، إذ تسهمان معاً بـ 20% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي و7% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد خلصت بحوث أجرتها الغرفة التجارية الصناعيّة بمكة المكرمة إلى أنّ 25 إلى 30% من واردات القطاع الخاص الناجمة عن المناطق المحيطة بالحرم هي ذات صلة بالحج والعمرة. كذلك، قدّر مجلس الغرف السعوديّة توليد الإنفاق ذي الصلة بالحج والعمرة بـ 150 مليار دولار من الدخل، فضلاً عن توليد 100 ألف وظيفة دائمة متعلقة بالحج خلال الفترة الممتدّة بين 2018 و2022. وقد تمكّنت كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة من تجنب التباطؤ الاقتصادي الناجم عن انخفاض أسعار النفط لمدة خمس سنوات، وذلك بدفع من الطلب المتزايد من وفود الحجاج والمعتمرين. من هنا، فإنّ برنامج "خدمة ضيوف الرحمن" هو أحد برامج تحقيق الرؤية الثالثة عشر لرؤية المملكة العربية السعودية 2030 والداعم لأحد الأهداف الشاملة ألا وهو تعزيز الهوية الوطنية والإسلامية.
وقد قدرت دراسة اقتصادية من إعداد الدكتور عابد العبدلي، نشرتها جامعة الإسكندرية عام 2012، متوسط إنفاق المعتمرين بـ 1,207 دولارات أميركية (أي ما يعادل 4,527 ريال سعودي) لكل معتمر؛ في حين وجدت دراسة أجراها معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة عام 2014 أن متوسط إنفاق الحاج يساوي حوالي 5,600 دولار أميركي (أي ما يعادل 20,995 ريال سعودي). بالاعتماد على هذه البيانات ذات الدلالة، يمكن تقدير الحجم الراهن لإجمالي السوق المتاحة بحوالي 30 مليار دولار (أي ما يعادل 112,5 مليار ريال سعودي) سنوياً، ومن المقدر أن تبلغ 35 مليار دولار (أي ما يعادل 240 مليار ريال سعودي) بحلول عام 2030.
تعتمد السوق المتاحة للخدمة على مدى رقمنة قطاعات الإنفاق الأربعة التي تشمل الإسكان والنقل والهدايا وتزويد الطعام. على الرغم من ذلك، يختلف سلوك المستهلك في سوق الحج والعمرة عنه لدى عامة سكان المملكة. فعلى سبيل المثال، تعتبر رقمنة حجز الإقامة عالية جداً بالنسبة لقطاع الحج والعمرة، لاسيما وأنّ الحجز بواسطة وكلاء السفر المختصين هو شرط قانوني، في حين أن الطلب على توصيل الطعام والهدايا في المشاعر المقدسة أمر قد تَحُدّ منه تحديات لوجستيّة والحزم المدفوعة مسبقاً. من هذا المنطلق، وبحسب تقرير كروم أدفايزوري، تُقدر السوق المتاحة للخدمة والتي ما زالت بانتظار المشاريع الابتكارية بـ 20% من الخدمات لعام 2018، وهو تقدير تقريبي متحفظ، وهو ما يعادل 6 مليار دولار (أو 22.5 مليار ريال سعودي). وإذا افترضنا أنّ نسبة 10-15% من الإنفاق من هذا التقدير المتحفظ يمكن أن تذهب كعمولات للمعاملات عبر منصات التجارة الإلكترونيّة، فإنّ السوق المستهدفة المقدرة لمنتجات وخدمات الحج الإلكتروني تتراوح بين 600 مليون دولار و906 مليون دولار (أي 2.25 - 3.4 مليار ريال سعودي).
ثمّة مجالات متعددة يجب العمل عليها لتحقيق إمكانية الحج الإلكتروني. ففي حين يتوفّر عدد كبير من تطبيقات الهاتف الجوال في مجال الحج الإلكتروني، على غرار مبادرة "إياب" التي تشكل نقلة نوعية وتاريخية في خدمة ضيوف الرحمن، وتهدف إلى تسهيل إنهاء إجراءات سفر الحجاج آلياً من مقر إقامتهم وقبل الوصول إلى المطار، تُبيّن الأبحاث أن مزايا ووظائف متعددة ما تزال ناقصة أو تدعو الحاجة إلى تحسينها. ويمكن أيضاً تحسين تجربة مستخدمي التطبيقات الإجمالية، والتي حدت حتّى الآن من نسبة الاختراق والاستخدام. وقد أبدى الحجاج تردداً في استخدام التطبيقات المتاحة ما لم تكن هذه التطبيقات مطابقة لمعايير معينة ومرخص لها من قبل سلطة دينية معتبرة في العالم الإسلامي.
تشمل الركائز التي يمكن العمل عليها لتعزيز قطاع الحج الإلكتروني ما يلي:
- الركيزة الأولى: هي تسهيل وصول الحجاج لتأدية الشعائر الدينية، بما في ذلك عدد الزوار الذين يحملون تأشيرة دخول جديدة، بالإضافة إلى العمل على الوقت اللازم لمعالجة تأشيرات الدخول. وبناء على ذلك، وبفضل التقنيات التي تُمكّن الحج الإلكتروني، يمكن تعقب رضا الحجاج والمعتمرين، وسيتم تحديد مجالات التحسين المطلوب. يرتبط هذا الأمر بفترات الانتظار، والنقل، وخدمات الإقامة، وغير ذلك.
- أما الركيزة الثانية: فتتمثل في زيادة نسبة الحجاج الدوليين العائدين، من مختلف الخلفيات والبلدان. يمكن استخدام التكنولوجيا لتحقيق هذه الركيزة، وتقييم مستوى الامتثال لمعايير السلامة في الحرمين المقدسين والمواقع الأخرى، بالإضافة إلى إمكانية وصول الحجاج جميعهم إلى الرعاية الصحية. وبالتالي، يمكن تطوير تطبيقات الرعاية الصحية لمساعدة الحجاج على تحديد مواقع المستشفيات أو العيادات الأقرب، ولتنظيم هذه التجربة. ويمكن كذلك تطوير مجال الاستضافة لضمان أن الفنادق أو المساكن المتوفرة للحجاج هي ملائمة وذات مستوى جيد، وذلك من خلال تعقب المعايير وتبسيط الحجوزات على الإنترنت.
فرص واسعة متاحة في السوق
ثمة فرصة حقيقيّة لإيجاد أو توطين الحلول التقنية العالية المتطورة لتحسين تجربة الحج والعمرة من خلال خدمات سريعة ومناسبة وميسورة، والسوق لا تزال غير مستغلة إلى حد بعيد. فتسخير التقنية كمحرك رئيس للنمو الاقتصادي ضرورة لتحقيق رؤية 2030، سواء كان على صعيد تسهيل الدخول والخروج من المشاعر المقدسة، أو التنقل والحركة خلال موسم الحج، أو مكافحة الأمراض والوقاية منها، أو إسكان وإقامة الحجاج، أو دعم البنية التحتية "للمدن الذكية".
تتطلب رحلة الحج أنواعاً عديدة ومختلفة من الخدمات والدعم في مختلف مراحل هذه الرحلة، بدءاً بالاستعدادات في بلد المنشأ (مثل البرامج التوجيهية للحجاج والحصول على تأشيرة الدخول المناسبة وحجز الرحلات والإقامة)، ومن ثم الحركة أثناء أداء الحج (مثل، النقل والاتصالات والطعام والصحة)، وحتى المغادرة أو الأنشطة اللاحقة للحج (مثل السياحة الدينية والثقافية). تقتضي هذه المنظومة الموسعة موارد متعددة، لاسيما الموارد التقنية التي من شأنها مساعدة حكومة المملكة العربية السعودية المستضيفة وحكومات الدول التي يوفدون منها على إدارة هذه المنظومة على نحو يتّسم بالفعالية من حيث التكلفة، ومن ثم الارتقاء في نهاية المطاف بتجرية ضيوف الرحمن من البداية حتى النهاية.
الطريق للمضي قدماً بالنسبة إلى الحج والعمرة
إنّ تركيز الحكومة السعودية على قطاع الحج والعمرة وطموحها بزيادة عدد الحجاج إلى 30 مليون معتمر و5 مليون حاج بحلول 2030 هو أعظم فرصة لتحويل التقنية إلى محرك رئيس من محركات تحقيق أهداف رؤية 2030، الأمر الذي يجعل من قطاع الحج الإلكتروني والعمرة أحد أسرع قطاعات الاقتصاد السعودي نمواً.
بالرغم من توفّر مئات التطبيقات على الهواتف المحمولة ذات الأغراض الدينية، ما زال هناك مجال كبير للابتكار، حيث أن الخدمات التي توفرها هذه التطبيقات والمكرسة لتحسين تجربة الحج والعمرة محدودة النطاق وقابلة للتحسين. وبالتالي، تدعو الحاجة لتطوير المزيد من الابتكارات من قبل روّاد الأعمال والمستثمرين، بغية التوصل إلى حلول تقنية فعالة جديدة، مع الحفاظ على طبيعة هذه التجربة الروحانية الاستثنائيّة التي ينطوي عليها الحج والعمرة.