يكفي معرفة أن موقع إنترنت واحد كيوتيوب مثلاً يقوم بتحميل 300 ساعة من الفيديو كل دقيقة، لندرك التغييرات المذهلة التي نعيشها في أيامنا هذه. يحلو للبعض أن يسمي ما نمر به بالثورة الرابعة، ويطلق البعض الآخر عليها مسميات نابعة من التأثّر بالتقنيات الجديدة كعصر الذكاء الاصطناعي، أو تعلم الآلات، أو غيرها.
وفي خضم هذا التسارع، يحق لنا زيارة الوظائف الأساسية للإدارة، ونقف على ما اعتراها من تغيير. هل ينمو العشب في زواياها؟ هل يا ترى ما زالت رصينة بالقدر الذي كانت عليه؟ أم أنها اهتزت وأصبحت تنتظر من يعيد تشكيلها؟
منذ أن أصدر هنري فايول كتابه "الإدارة العامة والصناعية" عام 1916، بدأ رأي عام بالتشكل حول وظائف الإدارة، واستقر معظم الممارسين على وظائف أساسية هي التخطيط، التنظيم، التوجيه، والرقابة.
من التخطيط إلى الاستكشاف
اعتبر التخطيط ولمدة طويلة أهم وظيفة من وظائف الإدارة، فهو محاولة لتوقع المستقبل والاستعداد له، ويتطلب منهجيات واستراتيجيات واضحة، كما يُعتبر بحاجة للحصول على معلومات تتسم بالدقة والموضوعية. وبغض النظر عن خصائص المؤسسة، وفي إطار عملية التخطيط الاستراتيجي، تقوم بوضع أهداف والسعي إليها خلال فترة زمنية محددة الاستعانةً بالموارد المتاحة.
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: مفهوم الرقابة الإدارية وأنواعها
يمكننا القبول بهذا التوجه لوضع خطط تنتمي إلى القرن الماضي، حيث كانت الأحداث الماضية قادرة على توقع المستقبل بدقة جيدة، كما كانت المعلومات قليلة وهناك صعوبة كبيرة في الحصول عليها فكانت المؤسسات مضطرة إلى استخدام أدوات تحليل محددة وبذل كثير من الجهد للتنقيب واكتشاف المعلومات في البيئة المحيطة. كذلك، لم يكن التواصل على المستوى والفعالية المطلوبين، حيث لم تكن وسائل الاتصال منتشرة بشكل كبير ومتاحة بسهولة للجميع.
غيرت التطورات التكنولوجية المذهلة التي شهدناها في السنوات الأخيرة جميع الموازين، إذ أصبحنا في عالم متصل، حتى أنّ البعض أصبح يحاجج بمدى صواب الاستمرار باستخدام مصطلحات مثل "أون لاين" و"أوف لاين"، ففي المجتمعات المعاصرة أصبح من الصعوبة بمكان التفريق بين الحالتين. لقد فرضت هذه التغيرات التفكير في حلة جديدة لعملية التخطيط المؤسسي، وضمن مقالة نشرت في (Stanford Social Innovation Review)، تم اقتراح تغيير الطريقة التقليدية في التخطيط الاستراتيجي من خلال الاستعاضة عن وضع السيناريوهات والتوقعات بالاعتماد على التجارب العملية والنماذج، وكذلك التحول من عملية تجميع البيانات والمعلومات إلى تحليلها واستكشاف الأنماط التي تتطلب الاهتمام والتركيز. بالإضافة إلى ضرورة الانتقال من منهجية إسقاط الخطط الموضوعة على المستويات الإدارية الأدنى، إلى تمكين جميع الموظفين ليقوموا باتخاذ إجراءات آنية بناء على المستجدات على أرض الواقع.
من التنظيم إلى المرونة
يقوم الفكر الإداري التقليدي على تجميع المكونات المختلفة للمؤسسة بالشكل الذي يمكّنها من تأدية رسالتها بالشكل الأمثل، وعادة ما يتم ذلك بوضع هيكل تنظيمي يتضمن التشكيلات المختلفة لوحدات العمل، وعلاقاتها ببعضها البعض، وكذلك نطاق الاختصاصات لكل منها. وعادة ما ينتج عن ذلك مجموعة أشكال مختلفة للهياكل التنظيمية يناسب كل منها المؤسسة التي أُنشأ لأجلها، إذ يوجد الهياكل البسيطة، والهياكل الوظيفية، والهياكل القطاعية، وغيرها.
يُعتبر التحدي الرئيس الذي يواجه الهياكل التنظيمية في أيامنا هذه هو أنّ الموظف لا يعمل بتخصص واحد أو مجموعة مهام محددة، وغالباً ما نرى الموظف يقوم بأعمال مستجدة يكلف بها خارجة عن المهام الرسمية الموكلة إليه، أو يؤدي دوراً في عدة فرق عمل تنتهي ليظهر غيرها، وتتطلب منه هذه الأعمال في بعض الأحيان أن يتعامل مع مدراء آخرين غير مديره المباشر، وهذا ما تعجز الهياكل التنظيمية التقليدية عن مواكبته بالشكل المطلوب.
من جهة أُخرى، تتطلب الهياكل التنظيمية أن يتم اعتمادها وبالتالي إتاحتها للموظفين بشكل مطبوع أو بشكل إلكتروني، ونظراً إلى التغيّرات المستمرة في خرائط العلاقات ضمن بيئة العمل، أصبح من العسير أن يتم تعديلها باستمرار واعتمادها ونشرها. فكما يقول آرون ديكنان في مقال نشره بعنوان "الهيكل التنظيمي قد مات": "في الخمس سنوات القادمة، سيدخل الموظف الجديد في يومه الأول إلى المؤسسة، ويطلب من شاشة خاصة أن تريه كيف تغيّر الهيكل التنظيمي في الشهور الستة الأخيرة وما كان أثر هذه التغييرات، وأين هي الأعمال التي يمكنه أن يساعد بها".
من التوجيه إلى التشبيك والاندماج
لا شك أنّ ما تم إنجازه عند قيام الإدارة بمهامها في التخطيط والتنظيم، بحاجة إلى أن يكون موضع التنفيذ، لضمان الحراك للموظفين بالاتجاه الصحيح. ولتحقيق هذه الغاية، على المدراء وفق وظيفة التوجيه القيام بتحسين التواصل مع الموظفين بمختلف درجاتهم، وممارسة الدور القيادي بشكل فعّال.
اعتمد المدراء سابقاً في التواصل مع الموظفين على المذكرات الرسمية والاجتماعات والزيارات المنظمة، وانتقلوا بعد ذلك إلى التواصل إلكترونياً من خلال البريد الإلكتروني، والمواقع الإلكترونية الداخلية، والاجتماعات الفيديوية وغيرها، ما سهّل من عملية التواصل وجعلها أقل رسمية. هذا وتعتمد معظم المؤسسات على استبيانات رضا الموظفين السنوية للوقوف على أحوال الموظفين وانطباعاتهم حول العديد من مكونات بيئة العمل، وذلك بهدف تحسين رضاهم، لكن هذا التوجه آخذ بالانكماش، فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة أجرتها شركة (PWC) أنّ غالبية جيل الألفية الذي سيكون عماد القوة العاملة في السنوات القليلة القادمة يفضّل أن يتم الحصول على التقييم خلال فترات متقاربة وفي بعض المهن بشكل آني. ما يتطلب إعادة النظر في كيفية ممارسة التوجيه كوظيفة إدارية.
على مدار سنوات تم دراسة ونشر الكثير من البحوث في أنماط القيادة وسمات القادة الناجحين، ويمكننا بسهولة أن نحصي أكثر من 11 نظرية مختلفة في القدرات القيادية، حيث نرى على سبيل المثال أنّ القائد الديمقراطي هو المطلوب في بعض المؤسسات، بينما التحويلي فعّال أكثر في مؤسسات أُخرى. ولكن يبدوا أنّ المستقبل لا يشي ببقاء الحال على ما هو عليه، حيث أنه مع صعود الموجة الجديدة من التكنولوجيا، لاسيما الذكاء الاصطناعي، طُرحت وبكثرة قضية الاستغناء عن بعض المهن البسيطة، ولكن ذهب البعض أبعد من ذلك ليناقش إمكانية الاستغناء عن الوظائف الإدارية المتوسطة والعليا أو ما يعرفون بأصحاب الياقات البيضاء، ففي كتابها الأخير "مستقبل القيادة" تناقش بريجيت هايجنث هذا الموضوع، كذلك طرحه راي ويليامز في مقال مطوّل تحت عنوان "لماذا سيستبدل الذكاء الاصطناعي المدراء" وإذا أردنا الإيجاز يمكننا القول أنّ الذكاء الاصطناعي مؤهل لاستبدال وظائف في القيادة الوسطى وبعض مهام وظائف القيادة العليا، وعلى القادة التنفيذيين التركيز على المهارات الابتكارية والاجتماعية عوضاً عن المهام الحالية التي سيهتم الذكاء الاصطناعي بشأنها قريباً.
من الرقابة إلى المتابعة
يمكن القول أنّ المهمة الأساسية للرقابة كأحد وظائف الإدارة هي التحقق من أنّ المؤسسة تقوم بتطبيق خططها الموضوعة بشكل صحيح، من خلال مقارنة الأعمال المنجزة بالمخطط لها، ومن ثم اتخاذ الإجراءات الضرورية لتصحيح أي تقصير أو انحراف. وفي بعض الأحيان يتم اتخاذ إجراءات وقائية لعدم الوصول إلى مرحلة التقصير في تحقيق المستهدفات. ويمكن أن تكون الرقابة على عدة مستويات كالرقابة على وحدات العمل أو الأفراد، وكذلك رقابة داخلية أو خارجية، ورقابة مفاجئة أو دورية أو مستمرة. وجميع أنواع الرقابة المؤسسية التقليدية هي عرضة للتغيير والتحديث، فقد أصبح التقييم السنوي للموظفين لدى الكثير من الشركات أمراً غير مقبول لأن المسببات التي ساعدت على إنشائه لم تعد قائمة، فكانت المؤسسات تلجأ إلى التقييم السنوي لتقرير من يبقى من الموظفين ومن يرحل، ومن يستحق مكافأة. ولكن مع النقص المتزايد في الكفاءات والعمالة الماهرة، وزيادة الطلب عالمياً على تلك الفئة، أصبح التقييم السنوي أداة غير عملية، وأصبحت الحاجة إلى تقييم مستمر وعلى فترات قصيرة، فكثير من المؤسسات بعضها تم ذكره ضمن مقالة نشرت في هارفارد بزنس ريفيو بعنوان "ثورة إدارة الأداء" مثل "أدوبي" و"مايكروسوفت" و"ديل" لجأت إلى المتابعة غير الرسمية بين المدير والموظف على فترات متقاربة عوضاً عن التقييم السنوي أو نصف السنوي.
يشمل هذا التغيير أيضاً الطريقة التي يُدار بها الأداء المؤسسي، ولا شك أنّ مؤشرات وتقارير الأداء ودورية القياس الشهرية والربع سنوية والسنوية ساعدت الكثير من المؤسسات في إدارة أدائها، ولكن التوجه الآن هو نحو التحليل الآني لكميات كبيرة من البيانات والتعامل معها، وأفردت مؤخراً مقالاً لذلك في هارفارد بزنس ريفيو العربية بعنوان "تعرّف على الوجه الآخر للبيانات الكبيرة"، فالقادة أصحاب الرؤية والطموح لا يهتمون حقاً بالانتظار حتى آخر العام ليروا ما إذا كان أداء مؤسساتهم جيداً أم لا، حيث أنه مع السرعة العالية لعجلة الأعمال في بعض القطاعات، أصبح هذا يُعتبر انتحاراً، أو قراراً إرادياً بالخروج من دائرة المنافسة.
وأخيراً، يتضح أنه من المشروع طرح السؤال عن مدى توافق وظائف الإدارة مع ما نعيشه اليوم، وإذا كان السؤال مشروعاً، فإنّ تحديث مفاهيم كل من تلك الوظائف على الأقل أصبح حاجة ملحة لإبقاء علوم الإدارة محرك فاعل في حل مشاكل الأعمال وتعظيم نجاحاتها، والأخذ بيدها إلى مناطق أرحب.