بينما يتراوح موقف الكثيرين بين القلق من التأثيرات المحتملة للروبوتات واستبدالها للبشر في العديد من الوظائف والحماس لإمكانات الثورة الصناعية الرابعة في تسريع الإنتاجية في القطاع الخاص، فإن قلة فقط تفكر في التأثيرات المحتملة للتكنولوجيا الرقمية على الحكومات.
ولتسليط الضوء على هذا الأمر، وفي إطار تغطية موضوع التحول الرقمي الحكومي، أقامت "هارفارد بزنس ريفيو العربية" بالتعاون مع "إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية" ندوة حوارية عبر الإنترنت بعنوان "إعادة تصور النموذج التشغيلي للدول في العصر الرقمي". استضاف فيها حمود المحمود، رئيس تحرير "هارفارد بزنس ريفيو العربية"، محمد سير وهو شريك مساعد، واستشاري الحكومة الرقمية والقطاع العام في إفريقيا والهند والشرق الأوسط لشركة "إرنست آند يونغ".
ما أهمية دفع الحكومات اليوم نحو إنشاء نموذج تشغيلي جديد؟
رأى محمد سير أن وباء "كوفيد-19" شكل نداء استيقاظ للمؤسسات الحكومية في جميع أنحاء العالم، وأظهر بعض نقاط الضعف في نماذج تشغيل الدول. وبدا جلياً أن الحكومة بمفردها لن تتمكن من المواجهة. عندها حدث أمر مذهل في العديد من الدول؛ حيث تبلورت "قوة المجموع" عندما عمل الجميع سواء كانوا في القطاع الخاص أو الحكومي أو المشترك بالإضافة إلى المواطنين نفسهم وتعاونوا معاً على تجاوز الأزمة. وتساءل سير: طالما نجحنا في القيام بذلك ضمن ظروف أزمة "كوفيد-19"، ألا يمكننا إذن تطوير جهد تعاوني تنخرط فيه جميع هذه الأطراف للعب دورها في إدارة البلاد؟
خلق مرض "كوفيد-19" تسارعاً في "الهوس الرقمي"؛ أي السعي الحثيث نحو رقمنة كل شيء. وعلى الرغم من أن الرقمنة وتوظيف التكنولوجيا حققا فوائد جمّة في نواحي عديدة، إلا أن ذلك أدى إلى توسيع الفجوة الرقمية عبر إقصاء بعض الأجزاء من العالم وبعض الشرائح ضمن المجتمعات، حيث كشف مرض "كوفيد-19" أن نصف سكان العالم لا يستطيعون الوصول إلى الخدمات الرقمية. لذا فإنه الوقت المناسب -حسب سير- لانتهاز هذه الفرصة والتفكير في نموذج تشغيل مختلف يتماشى مع حاجات اليوم والغد.
وعلى الرغم من أن العديد من الحكومات تمتلك قفزات كبرى في مجال الرقمنة والتحول الرقمي، فإن بعضها ما زال ينتظر العودة إلى الوضع الطبيعي السابق دون اتخاذ أي خطوات. فما هي الأسباب التي تفرض علينا التفكير وإعادة تصور نموذج تشغيلي جديد للحكومات؟
ثلاثة أسباب تحثنا على إعادة تصور نموذج تشغيلي جديد للحكومات
رأى سير أن هناك ثلاثة أسباب تحثنا على إعادة تصور نموذج تشغيلي جديد للحكومات وهي:
1- العالم حولنا تغير بشكل كبير؛ فالتكنولوجيا تطورت بوتيرة عالية لدرجة أن أي هاتف ذكي يمتلك قدرة حاسوبية تفوق الحواسيب التي استخدمها "وكالة ناسا" في السابق للهبوط على سطح القمر. كما دخل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي إلى جوانب كثيرة من حياتنا وأصبحا جزءاً أساسياً فيها. وهناك الكثير من المهام اليوم التي تتولى الآلات القيام بها نيابة عنا سواء على مستوى الحكومات أو على المستوى الشخصي. وبمعنى آخر، هناك قدرات تكنولوجيا غير مسبوقة متاحة بين أيدينا اليوم ولم تكن متوفرة سابقاً.
2- هناك حالات نجاح وفشل في التحول الرقمي تدفعنا للتساؤل حول حاجتنا إلى بعض العمليات المجزأة والمعزولة القائمة اليوم. وعلى سبيل المثال، يهدف التعليم في الأساس إلى تمكين الناس من تطوير أنفسهم ومهاراتهم. لكن يتمحور نظام التعليم في جوهره حول تمكين الناس من الإنتاج لصالح بلدهم حتى يساهموا في بناء المجتمع والاقتصاد بشكل ما. فهل ما زال هذا النموذج صالحاً اليوم لبناء قدرات الناس في هذا الاتجاه؟ وفي مجال النقل، نصب الكثير من التركيز على بناء نقل ذاتي التحكم أو ذكي، لكن لنتساءل: لماذا ينبغي على الناس الانتقال بين الأماكن؟
3- إن نموذج التشغيل القائم اليوم لإدارة الحكومات لم يشهد تغيرات حقيقية منذ قرون. لقد حدثت بعض التغييرات التدريجية وتم إدخال التكنولوجيا في بعض الجوانب، لكن هل أعدنا التفكير في كيفية العمل في سياق مختلف تماماً نعيش فيه اليوم؟ الجواب هو كلا في معظم الحالات. وعلى سبيل المثال، تسمح التكنولوجيا اليوم بجعل الناس أكثر اتصالاً وانخراطاً في إدارة البلاد. يجب علينا التفكير في نموذج مختلف للتشغيل فيما يتعلق بصنع السياسات وصياغة القوانين وحل المشاكل وغيرها.
"الدولة الذكية": تصور جديد لنموذج إدارة الدول في العصر الرقمي
دعا حمود المحمود إلى تخيل حكومة تتسم بالكفاءة التي تتمتع بها شركة "أمازون" والابتكار الذي تتصف به شركة "جوجل" والتصميم الجيد لجهاز آيفون. وأشار إلى الإمكانيات التي توفِّرها التكنولوجيا الرقمية لقيام نوع جديد من الحكومات أو منظومات إدارة الدولة، نوع يطلق عليه محمد سير مصطلح "الدولة الذكية". فماذا يعني هذا المصطلح وما الفرق بينه وبين مفاهيم "الحكومة الرقمية" و"الحكومة الإلكترونية"؟
رأى سير أن توظيف مصطلحات التكنولوجيا لوصف الحكومات- مثل "الإلكترونية" و"الرقمية"- هو استخدام مضلل نوعاً ما. وأوضح أن صفة "الذكية" للحكومة تعني امتلاكها لذكاء حاذق وفطنة. وبعبارة أخرى، صفة "الذكاء" تعني التمتع بالقدرة على اكتساب وتطبيق المهارات المعرفية والقدرة على التفكير والاستجابة بسرعة وكفاءة. وهذا بالضبط ما نرغب أن تتمتع به الحكومات.
وعلاوة على ذلك، تبقى صفة "الذكاء" صالحة دوماً بغض النظر عن التكنولوجيا المستخدمة. وبهذا المعنى، تتميز "الدولة الذكية" بقدرتها على تحديد احتياجات أصحاب المصلحة، أي الجميع، وتوقعها وفهمها باستمرار حتى قبل أن يكتشفوها بأنفسهم، وقدرتها على تحويل هذه المعلومات إلى إجراءات ملموسة تمكِّن المواطنين من تأمين حياة آمنة وصحية ورغيدة ومُرضية.
تركِّز "الدولة الذكية" على تجربة المواطنين في المقام الأول، وتتسم بأنها استباقية وتنبؤية وتمكينية وتسهيلية، ومستندة إلى التكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لتحقيق هذه الأهداف، وقادرة على التطور الدائم وتقديم قيمة إلى مواطنيها. ورأى محمد سير أن تشكيل لجنة عليا في الإمارات العربية المتحدة مكلفة بإعادة هيكلة وتطوير طريقة عمل الحكومة يمثل إحدى الخطوات الكثيرة التي تتخذها دولة الإمارات والتي ستجعل منها "دولة ذكية".
وأوضح سير أن هناك اختلافين جوهريين بين "الدولة الذكية" من جهة و"الحكومة الرقمية" و"الحكومة الإلكترونية" من جهة أخرى: أولهما، تركز الحكومة الرقمية والإلكترونية على التكنولوجيا في المقام الأول، بينما مصطلح "الدولة الذكية" يشمل جوانب عديدة بالإضافة إلى التكنولوجيا. وثانيهما، كلمة "حكومة" في حد ذاتها تمثل ركناً واحداً فقط من الأركان الثلاثة لإدارة الدولة، بالإضافة إلى السلطة القضائية والسلطة التشريعية. وبينما ينحصر مفهوم الحكومة الرقمية بواحد فقط من هذه الأركان، فإن مصطلح "الدولة الذكية" يركِّز على الأركان الثلاثة جميعها ويشمل أيضاً ركنين آخرين هما المواطن الذكي والإعلام الذكي (السلطة الرابعة).
فإذا لم يكن المواطنون مساهمين و"أذكياء" في التعامل مع التكنولوجيا المتاحة اليوم والتفاعل مع العالم الرقمي، سيتم إقصاؤهم عن العملية وستتأخر الدولة ككل. وإذا كان المواطنون "أذكياء" ستتاح لهم فرصة للعب دور كبير في إدارة البلاد وصناعة السياسات وحل المشاكل. كما أن الإعلام الذكي مكون مهم في هذه العملية؛ ففي الوقت الحاضر أصبح كل مواطن صحفياً ويشارك المعلومات بشكل أكبر وأسرع من أي وقت سابق. وهذا ما يفرض تحديات التعامل مع الأخبار المزيفة والتحقق من صحة المحتوى وغيرها.
كيف سيكون شكل علاقة المواطنين مع الحكومة في عصر "الدولة الذكية"؟ وكيف ستكون الخدمات الحكومية؟
عبّر سير عن اعتقاده بأن المواطنين في "الدولة الذكية" سيتمتعون بمشاركة أكبر وسيكونون أكثر اتصالاً ومساهمة في إدارة البلاد من السابق. إذ سيتمتعون بمهارة أكبر في استخدام التكنولوجيا مقارنة بالأجيال السابقة، وسيكونون قادرين على توظيفها واستثمارها في التواصل مع الحكومة والمساهمة فيها. وبذلك، ستتحول العلاقة بين الدولة والمواطنين من علاقة "واحد إلى عدة" لتصبح علاقة "واحد إلى واحد حصراً". بعبارة أخرى، ستصبح هذه العلاقة ذات طابع فردي إلى درجة نشعر فيها أن الحكومة تقدِّم ما في وسعها لصالح كل مواطن.
وعلى سبيل المثال، في البلدان التي يتم فيها اختيار ممثلين عن الشعب في البرلمان، تنحصر العلاقة اليوم بعملية التصويت. حالما يتم انتخاب الشخص ويدخل البرلمان تنقطع هذه العلاقة حتى الانتخابات المقبلة. لكن اليوم، تسمح لنا التكنولوجيا بالاطلاع على وجهات نظر الناخبين كل يوم، بل كل ساعة. ويمكن أن يساعد التعلم الآلي أو الذكاء الاصطناعي في تصنيف آراء ومشاكل الناخبين في فئات مختلفة وإرسالها إلى العضو الذي يمثلهم في البرلمان. وبذلك تصبح العلاقة مباشرة أكثر. وينطبق الأمر نفسه في أشكال الحكومات الأخرى، حيث يتيح الاتصال المستمر في الزمن الحقيقي إمكانية قياس نبض الشارع وفهم مشاكل المواطنين والتحديات التي يواجهونها.
وأضاف سير أن الخدمات الحكومية في "الدولة الذكية" ستكون تنبؤية واستباقية ومستقبلية. وأورد سير مثالاً عن تجديد جواز السفر؛ فعندما تنتهي صلاحية جواز السفر أو تمتلئ صفحاته، لماذا يجب على المواطن القيام بإجراءات تجديده؟ تستطيع الحكومة أن تضطلع بهذا الإجراء من خلال إرسال إشعار إلى هاتف المواطن يخبره بأن صلاحية جواز سفره على وشك الانتهاء أو أنها بالاعتماد على البيانات تنبأت أن صفحات الجواز قد امتلأت، ويسأله إن كان يرغب بتلقي جواز سفر جديد. وبمجرد الموافقة يحصل على جواز سفره بالبريد.
وفي ختام الندوة، أشار حمود المحمود إلى تجارب بعض الدول مثل رواندا وإستونيا ونجاحها في إحراز تقدم سريع نحو "الذكاء" في تحولها الرقمي على الرغم من عدم امتلاكها لموارد غنية. ودعا محمد سير أن تتخذ الحكومات نهجاً محدد الغرض للاستثمار في التحول الرقمي، وأن تسلك نهجاً يتمحور حول الإنسان في تصميم خريطة التحول الذكي بدلاً من اتباع نهج يتمحور حول التكنولوجيا نفسها. ونوّه إلى أن إنشاء نموذج التشغيل الجديد لا يمكن أن يحدث بين ليلة وضحاها، بل يحتاج إلى عمل لسنوات طويلة تستهدف الدولة خلاله توفير البيئة المناسبة للمواطنين لعيش حياة آمنة صحية سعيدة.