شركة عقارية كبرى في الرياض تتبع استراتيجية ذكية وملهمة، إذ وفي الوقت الذي يتركز الاتجاه العام لاستثمارات شركات التطوير العقاري في شمال العاصمة الرياض بالمملكة العربية السعودية، اتجهت هي عكس التيار واختارت التطوير العقاري في جنوب الرياض وغربها، فالسوق شمالاً تدور فيه معركة حامية الوطيس تتصارع فيها الشركات لزيادة الحصة السوقية، وهي بهذا ينطبق عليها وصف الباحثين الشهيرين تشان كيم ورينيه موبورن "المحيط الأحمر"، بينما تنعم هذه الشركة بسوق بِكر لم تلوثه المنافسة الحادّة بعد، أو كما أسماه نفس الباحثين استراتيجية "المحيط الأزرق"، لكن غياب المنافسة الحقيقيّة لا يقلل من أهمية تلبية متطلبات العميل واحتياجاته، لا سيما إن كان عميلاً حسّاساً تجاه الجودة مثل عملاء سوق العقار، الذين يولون أهمية قصوى لسلامة الوحدة السكنية بأدق تفاصيلها، وهو أمر "عادي" في هذا المجال نظراً لأن اقتناء وحدة سكنية يكون في غالب الأحيان مشروع العمر، وهنا يبرز إِشكال لا يقل أهمية عن كيفية مواجهة المنافسة، ألا وهو كيفية التوفيق بين فريقي التسويق والمبيعات علماً أن كلا الوظيفتين مختلفتين اختلافاً كلياً في طبيعة المهمات والتفاصيل والحيثيات. بما أن الخلاف وارد نظرياً، فقد يرى فريق المبيعات أن الاستثمار في منطقة لا يوجد فيها طلب أو منافسة قد يكون هدراً للاستثمار، بينما قد يرى فريق التسويق الذكي أنه سيسهم في خلق الحاجة وابتكار الأسواق.
تكلفة عدم التوافق
تقدّر التكاليف الناجمة عن عدم التوافق بين قسمي المبيعات والتسويق عالمياً بما يزيد على تريليون دولار سنوياً، وفقاً لمقال للخبيرة كيلسي ريموند، هذه القيمة الضخمة تعود للتكاليف التي تتحملها المؤسسات نتيجة لممارسات مثل عدم مشاركة فريق المبيعات معلومات مهمة مع فريق التسويق في الوقت المناسب، ما يؤدي إلى تصميم حملات تسويقية لا تلبي الاحتياجات المستجدة والحديثة للزبائن، أو بسبب العكس، عندما يلاحظ مثلاً فريق التسويق أن المواد المنشورة على الموقع الإلكتروني عن مشكلات محددة يعاني منها المشترون تشهد ارتفاعاً في حركة الزوار الذين يبحثون عن حلول، لكن لا يبادرون بإعلام فريق المبيعات بهذه التوجهات، فيغيب عنهم ذكرها في أثناء مقابلة فريق المبيعات للعميل النهائي، ما قد يؤدي إلى خسارة المشتري.
في دراسة استقصائية أخرى قادتها مؤسسة لينكد إن ونُشرت بعنوان "لحظات الثقة"، أكدّ نحو 90% من خبراء المبيعات والتسويق أن عدم التوافق بين قسميْ المبيعات والتسويق يضرّ بالشركة وعملائها. أضف إلى ذلك أن 97% من هؤلاء المشاركين أبلغوا عن مواجهة صعوبات في التواصل على وجه الخصوص، وتعلقت أبرز شكاوى خبراء المبيعات في هذه الدراسة بالمحتوى الذي أنشأه قسم التسويق من دون أخذ رأيهم، أي المحتوى الذي يركز على حلّ مشكلات العميل المحتمل عوضاً عن حثه على الشراء، وفي المقابل، اشتكى خبراء التسويق من المحتوى الذي يركز عليه قسم المبيعات ولا يؤدي إلى تقدُم العميل المحتمل في رحلة المشتري.
بحكم القرب من السوق كمستشار تسويقي لشركات في قطاعات مختلفة، يكتسب الإنسان القدرة على تمييز أوجه التشابه التسويقي بين مختلف القطاعات، وهي في حدود 80% تقريباً فيما يخص أساسيات التسويق، أما الـ 20% المتبقية فتكمن في اختلاف تفاصيل التنفيذ. واحدة من أبرز نقاط التشابه بين كل تلك القطاعات (المطاعم والتجزئة والعقار وغيرها) هي وضعية اللاانسجام بين إدارة التسويق وإدارة المبيعات إذا خففنا العبارة ولطفناها، أو "الحرب" إذا أردنا أن نلامس الواقع الحقيقي كما هو بلا رتوش. في معظم الأحيان، تعود جذور الاختلاف لرغبة كل قسم في البروز أمام الإدارة العليا وقطف الثمرة أمام متخذ القرار، ولهذا عندما تطلق الشركة حملات تسويقية مميّزة على نطاق واسع، يستغرق قسم المبيعات نحو 4 إلى 6 أشهر للاعتراف بالدور الكبير الذي يقوم به قسم التسويق.
متلازمة البطل
لا تقتصر أسباب عدم الوفاق بين قسمي المبيعات والتسويق على "حب الظهور" أو ما يُسمى في علم النفس بـ "متلازمة البطل"، بل تمتد إلى مجموعة متشعبة من الدوافع منها ما هو ثقافي ومنها ما هو هيكلي ومنها ما له علاقة بعملية اتخاذ القرار في الشركة، لخّصها أبو التسويق فيليب كوتلر وباحثين آخرين في مقال "إنهاء الحرب بين قسم المبيعات وقسم التسويق" بهذه الفقرة بقولهم: "يحتدم النزاع بين مسؤولي المبيعات والتسويق تماماً كما احتدمت الحرب بين عائلتي روميو وجولييت. فموظفو المبيعات يتّهمون موظفي التسويق بأنهم لا يعون بالضبط ما يريده الزبائن حقاً، أو أنهم يفرضون أسعاراً باهظة. أمّا المسوّقون فيصرّون على أنّ موظفي المبيعات يركّزون وبمنتهى قصر النظر على الزبائن الأفراد والمبيعات على المدى القصير على حساب الأرباح على المدى البعيد".
التسويع
هذا ما يقودنا لمصطلح "التسويع"، وهو مصطلح مركب من لفظي التسويق والمبيعات، ويقابله باللغة الإنجليزية "SMarketing"، (أول حرف من كلمة مبيعات "Sales" مع تسويق "Marketing")، وهو مصطلح يعبّر عن عمل فريقي التسويق والمبيعات معاً ضمن تناغم كامل، أي أنهما وجهان لعملة واحدة، لتحقيق أهداف المؤسسة. يعود أصل المصطلح الإنجليزي إلى منصة هوبسبوت (HubSpot)، لا سيما وأن مدير المبيعات فيها دان تاير (Dan Tyre) هو من كان وراء شيوع المصطلح.
أن يكون قسما التسويق والمبيعات على تناغم وتنسيق مستمر، هو هدف يبدو سهلاً نظرياً، لكنه في الواقع مليء بالتحديات، ويتطلب من الإدارة العليا تغييراً في ثقافة الشركة، حتى يؤدي ذلك ثماره المرجوة. جربته مع شركات في قطاع العقار، وفي قطاع التجزئة، وفي قطاع المطاعم، ووجدت له أثراً فوق ما توقع الفريق، لأن المعلومات التي يمتلكها كل طرف مهمة جداً لنجاح الطرف الآخر وإبداعه.
هنا نموذج يظهر الفرق بين النموذج القديم، وهو الفصل بين التسويق والمبيعات، ونموذج التسويع الذي يجعلهما في تنسيق مستمر وتناغم دائم، من أجل هدف واحد فقط: تقديم تجربة عميل استثنائية، ومختلفة عن المنافسين.
من الصعب الحديث عن لغة الأرقام، لسرية المعلومات، لكن الذي يمكن قوله: كل الشركات التي طبقت "التسويع" وآمنت به، ارتفعت كثيراً في بند المبيعات، وفي قصة الشركة العقارية أعلاه، كان دفع العربون يتم والوحدة السكنية في مرحلة العظم! وينتهي بيع غالب المشروع قبل بدء مرحلة البيع أساساً!