"أقوى شخص في العالم هو الشخص الذي يتقن السرد القصصي، فهو يصوغ رؤية جيل قادم بأكمله ويؤسس لهم القِيم ويضع لهم خطة العمل"؛ هكذا وصف ستيف جوبز مهارة السرد القصصي عندما كان يشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة بيكسار عام 1994.
تُولي الشركات الكبيرة أهمية خاصة للسرد القصصي، حتى أنها ابتكرت مسمى وظيفي لذلك "مدير السرد القصصي" (Chief Storyteller)، إذ يُطلق على المدير المسؤول عن إعادة صياغة رؤية الشركة في قالب قصص ذات مغزى عميق ومفهوم من طرف جميع العمال والموظفين، بحيث يُسهم في تعزيز انتماء الموظفين والتزامهم، كما يتولى مهمة تعزيز الحوار بين مختلف الأقسام، وتدريب الرؤساء التنفيذيين ورؤساء الأقسام على السرد القصصي بما ينسجم مع أهداف الشركة. من أشهر أمثلة الشركات التي استحدثت هذا المنصب مايكروسوفت التي عيّنت ستيف كلايتون فيه، ومن أشهر قصصه عن كيفية إسهام مايكروسوفت في "تغيير العالم" التجربة الهندية عندما عزّزت تكنولوجيا مايكروسوفت إنتاج المزارعين بنسبة 30%، وتجربة مترجم سكايب الذي أتاح لكلايتون نفسه التحدث إلى أم زوجته الصينية (سكايب تابعة لمايكروسوفت). شركة بيكسار تعدّ مثالاً آخراً جيداً، إذ وفي سبيل تعزيز هذه المهارة لدى موظفيها، استحدثت قائمة مكوّنة من 22 مبدأ يساعدهم على تطويرها أصبحت معروفة لاحقاً باسم "مبادئ بيكسار الـ 22 للسرد القصصي".
يوجد مصطلح آخر يُستمد من مهارة السرد القصصي، وهو "القصة الاستراتيجية"، ويُقصد به القصة التي تُبنى عليها رؤية الشركة بحيث تكون مختلفة عن غيرها ومتجذرة في تاريخ المؤسسة وتحمل في طياتها جوهر العرض المميّز الذي يحصل عليه العميل. الرئيس التنفيذي السابق لشركة ستاربكس ذكر في كتابه "تقدَّم" (Onward) أنّ الشركة فقدت معالم "قصتها الاستراتيجية" عندما غادرها حيث قال: "القهوة التي تقدمها ستاربكس استثنائية بالتأكيد، إلا أنّ الارتباط العاطفي هو عرضُنا الحقيقي ذو القيمة العالية. ستاربكس ليست شركة قهوة تخدم الأشخاص، بل هي شركة أشخاص تقدم القهوة".
من زاوية علم النفس، فالقصة تخلق لدى مستمعها ما يُسمى "فجوة المعلومات" (Information Gap)، وهو الاسم العلمي للفضول، أي إنّ راوي القصة يخلق في عقل المستمع "فجوة المعلومات"، وهذا الأخير يبذل كل ما في وسعه لسد هذه الفجوة، فتجده مشدوداً لنهاية القصة لإشباع "فضوله المعلوماتي".
اشتُهر ستيف جوبز بإتقان السرد القصصي للتأثير، فهو في كل مرة يعرض منتجاً جديداً يقضي بعض الوقت في استعراض تاريخ شركة آبل، من خلال سرد بعض القصص المؤثرة التي من شأنها أن تعزز ارتباط العملاء بالعلامة التجارية والمنتج. حدّد المستشار والمؤلف جيف غوتهيلف في مقاله المنشور في هارفارد بزنس ريفيو بعنوان "طريقتك في رواية القصص يمكن أن تبني قدراتك القيادية أو تدمرها" مجموعة من العناصر التي تجعل السرد القصصي مُجدياً، وفيما يلي نتطرق لأمثلة من المواقف التي أتقن فيها ستيف جوبز استخدام هذه العناصر:
1. مراعاة الاحتياجات الخاصة للجمهور وجعل القصة ذات توجّه عملي
في عام 2001، وفي أثناء تقديمه لأوّل جهاز "آيبود"، أخبر الجمهور أن جهاز تشغيل الموسيقى قادر على تخزين ألف أغنية. وعلى الرغم من أن أجهزة تشغيل الموسيقى الأخرى في السوق كانت لها نفس القدرة، فقد وضّح جوبز أن أياً من الأجهزة المنافسة يمكن وضعه في جيب المستخدم. وبأسلوب الساحر الذي يخرج الأرنب من قبعته، مدَّ جوبز يده إلى جيب بنطاله وأخرج جهاز "إم بي ثري" لتشغيل الموسيقى الأصغر في السوق. وأصبحت عبارة "ألف أغنية في جيبك" إحدى أبرز العبارات الترويجية المبدعة في تاريخ المنتج.
2. اختيار الوقت والسياق الملائمين للقصة
في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2006، أطلقت مايكروسوفت مشغّل الوسائط المتعددة "زيون" (Zune) لينافس منتج آبل الرئيسي آنذاك "آي بود" مع حملة ترويجية ضخمة، متوقعة أن آبل ستدافع عن الحصة السوقية لأهم منتج لديها، لكن المفاجأة أن ستيف جوبز، وبعد نحو شهر واحد من إطلاق "زيون"، أعلن في مؤتمر صحفي أنهم كانوا يعملون منذ عامين ونصف على مشروع تنويع استراتيجي أفضى لابتكار هاتف "الآيفون" الذي يتمتع بمجموعة من المزايا المبتكرة، بما فيها مشغّل وسائط مدمج، ما جعل من اقتناء منتج مثل "زيون" غير مُجدٍ، والنتيجة أنه بعد نحو 5 سنوات أي في عام 2011، وفي الوقت الذي وصلت فيه نجاحات الآيفون إلى شتى أنحاء المعمورة، قررت مايكروسوفت توقيف خط إنتاج "زيون" بسبب الفشل الذي مُني به. كُتب الكثير عن العرض التقديمي الذي أداه ستيف خلال عرضه لمنتج الآيفون، خاصة وأنه تضمن العناصر الأساسية الثلاثة لقصص المنتجات الناجحة: مخاطبة الجوانب العقلانية والعاطفية لدى المستهلكين على حدّ سواء، وجعل المفاهيم التي تبدو معقّدة بسيطة وسهلة، وأخيراً التركيز على المشكلة التي سيحلها هذا المنتج. لكن ستيف استخدم أيضاً ما أسماه رائد الأعمال والمهندس اللبناني الأميكري طوني فاضل أسلوب "فيروس الشك" (The Virus of Doubt)، إذ بيّن للحضور صعوبة استخدام الهواتف الذكية المتاحة آنذاك بأسلوب فكاهي جذاب من قبيل "الهواتف الذكية ليس ذكية كفاية"، ثم عرض مجموعة من الأمثلة عن هواتف المنافسين و"المعاناة اليومية" لمستخدميها (أسلوب المقارنة)، وعزّز الفضول لدى الحضور بعرض بعض الحلول المعتادة أو المتوقعة مثل استخدام "القلم الإلكتروني" (Stylus) ثم نفيها مباشرة وإظهار عدم فعاليتها مقارنة بحلول الآيفون الجديد، وإثارة الشك والتساؤلات حول ما هو متعارف عليه، طبعاً كل هذا باستخدام عبارات منتقاة بعنية مثل "منتج ثوري" و"يعمل كما يعمل السحر" و"متقدم تكنولوجياً على أي منتج آخر بـ 5 سنوات على الأقل".
3. إضفاء الطابع الإنساني على القصة
في عام 2005، ألقى ستيف جوبز خطاباً أمام خريجي جامعة ستانفورد، كان أشبه بملخص قصة حياته، إذ تطرق لنشأته في عائلة من الطبقة العاملة، وظروف تركه للكلّية، وتغيّر نظرته للحياة منذ تشخيصه بمرض السرطان حيث أصبح يولي أهمية خاصة لكل يوم يعيشه، ثم تطرق لشغفه بفنّ الخط اليدوي (Calligraphy) وانعكاس ذلك على حبّه للتصميمات المبتكرة لاحقاً في آبل. كان الخطاب أشبه بقصة حياة جوبز، ما جعله واحداً من أفضل خطاباته وأكثرها صدقاً وجاذبية.
يمكن لمهارة السرد القصصي الهادفة أن تغيّر سلوك العميل وتحفزّه لاتخاذ قرار الشراء، كما يمكنها أن تغير الطريقة التي يتصرف بها في السوق، ويمكن أيضاً أن تؤثر في سلوك الموظف في مكان العمل وتشكّل الأسس الرئيسية لثقافة الشركة، إذ أنها تساعد على تصحيح السلوكيات السيئة التي يمارسها بعض أفراد الفريق، وهي مهارة أتقنها الراحل ستيف جوبز أيما إتقان.