على مدى سنوات عديدة، ظل الاقتصاد الرقمي بمثابة ملحق إضافي "للأعمال الأساسية المعتادة". لكن مؤخراً بلغ التحول الرقمي ذروته، حيث أصبح جزءاً لا يتجزأ من "الأعمال المعتادة"، أي أن الملحق الإضافي للأعمال صار من صميمها. فالتحول الرقمي ليس فقط جزءاً من الاقتصاد بل هو الاقتصاد نفسه، وهو اقتصاد حافل بفرص لا حصر لها بالنسبة للبعض، ومحمل بالزعزعة والتغيير للآخرين. إذ فشلت شركات عديدة مثل "كوداك" (Kodak)، و"بلوك باستر" (Blockbuster)، و"سيرز" (Sears)، و"بلاك بيري" (Blackberry) في التأقلم، بينما تظفر شركات أخرى بنجاح باهر. ووفقاً لبحث أُجري في كلية "سلون" (Sloan) للإدارة التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)، فإن الشركات التي تتأقلم مع العالم الرقمي تجني أرباحاً أكبر بمقدار 26% مقارنة بأقرانها من نفس القطاع.
إذن فالسؤال هنا، كيف تعيد هذه الشركات الناجحة اكتشاف نفسها، وتعيد تجديد سلاسل توريدها، وأسواقها؟ في ندوة عقدها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي) بخصوص هذا الشأن، ركزت في الحديث على 4 موضوعات رئيسية للإجابة عن هذا السؤال، وهي: توقعات الزبائن وتحسين المنتجات والابتكارات التآزرية والأشكال المؤسسية.
توقعات الزبائن
لا يوجد تحول أكثر تحدياً من تلبية توقعات الخدمة التي ينتظرها زبائن مدعومون بتقنيات رقمية. فالتقنيات الرقمية تُمكِّن الشركات من تحسين تفاعلها مع الزبائن وتقديم تجارب أفضل لهم بأسعار ميسورة. لكن النجاح في تقديم تجارب استثنائية لزبائن يزدادون دهاءً وتقلباً في الآراء، لا ينفك يزداد صعوبة.
فتوقعات الزبائن تتخطى مجرد سهولة الاستخدام، فهم الآن يتوقعون تجارب استباقية. ويقدم د. ديتير هابان، الرئيس التنفيذي للمعلومات بشركة "دايملر تركس نورث أميركا" (Daimler Trucks North America)، النظام المُشخص للأعطال "ديترويت فيرتشوال تيكنيشان" أو "نظام ديترويت لتشخيص الأعطال الافتراضي" (Detroit Virtual Technician) التابع للشركة كمثال جيد. تخيل مثلاً أنك تقود مقطورة ذات 18 عجلة على الطريق وجدولك الزمني ضيق، ثم أضاء مصباح تفقد المحرك، بينما ما زال يفصل بينك وبين أقرب محطة صيانة 170 كيلو متراً. ما الذي يجب عليك فعله؟ هل تستمر في القيادة وتخاطر بتوقف المحرك عن العمل الذي قد يكلفك وقتاً طويلاً، أم تتصل بمركبة خدمية لتشخيص العطل، وهو ما يتسبب في وقت ضائع طويل أيضاً؟
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: أهمية الاقتصاد الجزئي
إن "نظام ديترويت لتشخيص الأعطال الافتراضي" هو حل قائم على الاتصال عن بعد ويعمل على تسجيل مقاييس الأداء المهمة للمركبة قبل أن يحدث خطأ ما مباشرة، وفي أثناء حدوثه، وبعد حدوثه أيضاً. ثم يرسل النظام البيانات إلى مركز قيادة المهمات التابع لشركة "دايملر" لكي يتولى فنيو الشركة تحليل أكواد الخطأ على وجه السرعة. ويستطيع الفنيون أن يقدموا تقييماً فورياً للسائق ومالك المركبة، يتضمن معرفة ما إذا كانت الشاحنة بحاجة إلى صيانة فورية، أم يمكنها استئناف الرحلة. وهذا النوع من التجارب هو ما سينتظره الزبائن في المستقبل.
لا شك في أن البيانات الضخمة هي أحد عوامل تمكين تجارب العملاء الاستباقية. فالشركات المزدهرة سوف تستمر في تعظيم الاستفادة من البيانات، من خلال استخدامها لمعالجة الثغرات الموجودة في أمن الشركة، ومواجهة المخاوف بشأن خصوصية البيانات، وتعويض أوجه القصور التي شابت عمليات التحليل المحوسبة التي أصبحت بينة في الموجة الأولى من البيانات الضخمة.
تحسين المنتجات
تعمل الشركات المزدهرة أيضاً على دمج المنتجات والخدمات ذات الصلة في صورة حلول متطورة تخدم قطاعها، بينما تعمل على توسيع نطاقات قطاعها وإعادة هيكلتها، مكونة بشكل رئيسي قطاعات جديدة بأكملها. ويضرب لنا مايكل نيليز، الذي حصل على ترقية ليصبح الرئيس التنفيذي للتحول الرقمي لشركة "شيندلر" (Schindler)، مثالاً رائعاً. فقد وسّعت شركة "شيندلر" من نطاق أعمالها إلى ما هو أبعد من المصاعد والسلالم المتحركة، لتقدم الشركة حلولاً في مجال النقل والحركة، وتعرض تقنيتها في مجموعة واسعة من القطاعات، بما في ذلك الرعاية الصحية والفنادق والمكاتب والمجمعات التجارية ومتاجر البيع بالتجزئة والساحات والمرافق الرياضية. أحد العوامل الرئيسية التي مكنت الشركة من تحقيق هذا التطور والتوسع كان ابتكار مصاعد وسلالم متحركة ذكية تجمع باستمرار بيانات من مستشعر وترسلها عبر الإنترنت إلى الأنظمة الخدمية الخلفية لشركة "شيندلر"، حيث تخضع البيانات للتحليل، وينتج عنها إشعارات صيانة قبل وقت طويل من حدوث عطل فعلي. ثم تُرسل هذه الإشعارات، معززة بمشورة من خبراء الإصلاح والصيانة، بشكل آني إلى تطبيقات الخدمات التابعة للشركة، حيث تُحدد مواعيد للفنيين ليقوموا بأعمال الصيانة بحسب الضرورة.
وبخلاف المنتجات المقدمة للأفراد، أخذت الشركات تسخر قوة المنصات بهدف إنشاء حلقة وصل بين المشترين والبائعين (مثل موقع "إتسي" (Etsy)، و"برايس لاين" (Priceline)، ومتجر تطبيقات شركة "آبل")، وبين المضيفين والزائرين (مثل شركة "إير بي إن بي" Airbnb، و"هوم أواي" HomeAway)، وبين السائقين والركاب (مثل "أوبر"، و"لينكس" Lynx، و"رايد سكاوت" RideScout). تمهد بعض المنصات، مثل "أوبر"، لنشأة اقتصاد جديد حسب الطلب يعيد تعريف طبيعة العمل.
الابتكارات التآزرية
لا بد أن تصبح الشركات أكثر ابتكاراً لكي يتسنى لها الاستجابة بشكل أفضل لبيئة العمل العالمية ذات المنافسة المحتدمة. فالتعاون هو عامل لا غنى عنه للابتكار بين النطاقات الداخلية للشركة والخارجية على حد سواء مع العملاء والشركاء والشركات الناشئة والجامعات والمجتمعات البحثية.
تعمل الشركات المزدهرة على تسخير الشبكات الرقمية التآزرية من أجل بناء بيئات عمل متكاملة، مثل "أمازون"، و"باي بال" (PayPal)، و"فيديليتي" (Fidelity)، و"أتنا" (Aetna)، و"آبل"، و"مايكروسوفت". فبيئات العمل المتكاملة مثل هذه تشق طريقها نحو تحقيق ما هو أكثر من سلال التوريد الخطية التقليدية، وترمي إلى عقد شراكات مع مزودي خدمات يقدمون منتجات وخدمات تكميلية (أو حتى مع شركات منافسة في بعض الأحيان). فوفقاً لأحد أبحاث معهد (إم آي تي)، فإن الشركات التي تجني 50% أو أكثر من إيراداتها من بيئات العمل المتكاملة الرقمية، تجني أرباحاً إجمالية أكبر وهوامش أرباح أعلى مقارنة بمتوسط أرباح نظيرتها من نفس القطاع.
فعقد مبادرات التعاون، وتأسيس بيئات العمل المتكاملة يلعبان دوراً بالغ الأهمية في نشأة إنترنت الأشياء، حيث يحرص العديد من الشركات عبر مختلف القطاعات على أن تكون منتجاتها متوافقة معاً في عدد من المجالات شديدة التعقيد، بما في ذلك الرعاية الصحية وأتمتة المنازل والمدن الذكية.
تكتسب شركات مثل "أودي" (AUDI)، و"كلوب ميد" (Club Med)، و"إم بانك" (mBank)، قدرتها التنافسية بالابتكارات الرقمية عن طريق تمكين الفرق المحلية من تصميم حلول سريعة، وفي الوقت ذاته مساعدتهم على استغلال أوجه التعاون وتعظيمها. كما تخلق هذه الشركات أيضاً عناصر يسهل الوصول إليها وقابلة لإعادة الاستخدام تشكل منصة عالمية شاملة وتمنح بدورها الحلول المحلية مزايا تنافسية، وفي الوقت ذاته تشرف على الفرق المحلية في عملية تصميم الاختبارات والتجارب والتعلم منها.
القيادة المؤسسية
ينبغي للشركات أن تعيد النظر في هياكلها وثقافتها لتحسن التعامل مع بيئات الأسواق الجديدة ونماذج الأعمال الحديثة. فالمؤسسات ذات التسلسل الهرمي التي تسيّدت المشهد في حقبة الاقتصاد الصناعي الموجه نحو الإنتاج في القرن العشرين، لن تظفر بالنجاح في الاقتصاد الرقمي الحالي الأكثر عالمية والأكثر سرعة في التغيير. أما الشركات التي تنجح نجاحاً باهراً في التأقلم مع التغيير، فهي التي تنفذ تحولاً ثقافياً من استراتيجية "القرارات المتسرعة" إلى "القرارات الحكيمة"، حيث تصبح عملية اتخاذ القرار قائمة أكثر على البيانات، بدلاً من آراء كبار الرؤساء التنفيذيين التي عادة ما تكون خاطئة. وتعين هذه الشركات علماء بيانات داخل صفوفها بغرض تحسين التعلم المؤسسي. واتخذت هذه الشركات قرارات أسرع من خلال الاعتماد على الخوارزميات، كما أنها تستحدث الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وغيرهما من التقنيات الحديثة في الأعمال حسب الضرورة.
من الجدير بالذكر أيضاً أن الشركات المزدهرة تقر بالجانب السيئ من الاقتصاد الرقمي، وتدرك أن هناك حاجة إلى المزيد من الموارد، وقدر أكبر من التركيز الاستراتيجي على الأمن السيبراني؛ من أجل التصدي للعدد المتزايد من الهجمات الإلكترونية، والخبرة المتزايدة للمخترقين، والسوق السوداء الآخذة في التوسع الزاخرة بالبيانات المسروقة والبرمجيات الضارة. وسبق أن حذر لويس أجيلار، المفوض السابق في "هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية" (SEC)، من أن مجالس الإدارة التي تختار تجاهل أهمية رقابة الأمن السيبراني أو تقلل من شأنها، تعرض مستقبل شركاتها للخطر.
نحن نعلم يقيناً أن رقمنة الاقتصاد أحد أكبر القضايا المهمة في زمننا الحالي. فالتقنيات الرقمية تحول ممارسات الأعمال والمجتمعات على حد سواء بخطوات سريعة، وهي جزء لا يتجزأ من الاقتصادات المستقبلية المدفوعة بالابتكار. لكن يوجد جانب آخر مظلم: فالثورات التقنية تُحدث زعزعة كبيرة في الاقتصادات والمجتمعات. وكان هذا هو الحال في أثناء الثورة الصناعية، وهو الحال الآن أيضاً!
لا شك في أن الفجوة بين التقنيات الآخذة في التطور السريع والخُطى البطيئة للتطور البشري سوف تتسع سريعاً خلال العقود القادمة، لأنه بينما تتقدم التقنيات بوتيرة سريعة، تتقدم المؤسسات والمهارات البشرية ببطء، خاصة مع زيادة تأثر الاقتصاد والمجتمع بالقفزات التطورية الهائلة في الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والشبكات، والتحليلات المحوسبة، والرقمنة. إن ابتكار مؤسسات فاعلة في الاقتصاد الرقمي هو التحدي الأكبر في وقتنا الحالي، والشركات التي تنجح في التأقلم بالفعل تتقدم في هذه المسيرة.