ملخص: ظل مستقبل مراجعة الأداء لسنوات طوال مادة خصبة للكتابات والأبحاث والنقاشات، لكنه لا يزال غير واضح المعالم، بل بات ساحة للمعارك السياسية والبيروقراطية. وقد حان الوقت لأن تعمل المؤسسات على تطوير نماذج جديدة، خاصة مع ظهور الفرق المرنة وفرق الإدارة الذاتية. وتبدو فرصة إرساء نظام للتقييم القائم على المنظومة الاجتماعية أكثر إلحاحاً خلال أزمة "كوفيد-19" لأن الظروف اضطرت الكثيرين إلى العمل عن بُعد دون أن يحظوا بالمستوى نفسه من التفاعلات اليومية مع مدرائهم، حيث يوفر نظام التقييم الاجتماعي للموظف كماً أكبر من التقييم (غالباً 50 تقييماً أو أكثر على مدار السنة) من أقرانهم وغيرهم. وهذا يحد من التركيز على تلقي التقييم من مدير الموظف وحده.
أمعن النظر في أي مؤسسة عام 2021 وسترى على الأرجح بعض الأمثلة على كوكبة متلألئة من تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين. قد ترى فرق عمل أكثر مرونة ورشاقة وأشخاصاً يعملون بسلاسة في مختلف المناطق الزمنية والقارات. لا يزال هناك تسلسل هرمي، لكنه لم يعد خانقاً كما كان في الماضي.
ولكن القرن الماضي أورثنا أيضاً تركة ثقيلة لمنظومة عفا عليها الزمن، ومع ذلك ظلت على حالها دون مساس في أغلب المؤسسات، ألا وهي عملية مراجعة الأداء. ظلت مراجعة الأداء مادة خصبة للكتابات والأبحاث والنقاشات لسنوات طوال، لكنها لا تزال غير واضحة المعالم، بل باتت ساحة للمعارك السياسية والبيروقراطية. ونرى أن إخفاقها يُعزى جزئياً إلى إمساك المدير وحده بكل مقاليد السلطة. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تتحول عملية مراجعة الأداء في نهاية العام إلى عملية تفاوضية حول التعويضات والترقيات بدلاً من اعتبارها مناقشة بنّاءة حول تطوير الأداء.
مستقبل مراجعة الأداء
وأضحى مستقبل مراجعة الأداء ذا أهمية خاصة مع إقبال الشركات على اعتماد طرق جديدة للعمل، حيث تستخدم شريحة عريضة من الشركات، بداية من "سبوتيفاي" و"أمازون" وصولاً إلى مصرف "آي إن جي بنك" (ING Bank) وشركة "هاير" (Haier)، هياكل ذاتية التنظيم تتصف بالمرونة وتقوم على الفريق. تتمتع الفرق والوحدات التنظيمية الصغيرة في هذه النماذج بالاستقلالية، ولكنها تتحمّل في الوقت ذاته مسؤولية النتائج. كما لا يوجد في هذه المنظمة مدير رسمي، لذا فإن النظام التقليدي لإدارة الأداء بين الرئيس والموظف لم يعد قابلاً للتطبيق.
وسواء كانت شركتك تدرس إمكانية تطبيق نظام الهياكل القائمة على الفريق من عدمه، فإننا نعتقد أن هناك طرقاً لإعادة اختراع إدارة الأداء وجعلها أكثر قيمة وأقل تمحوراً حول المدير. وتبدو فرصة إرساء نظام للتقييم القائم على المنظومة الاجتماعية أكثر إلحاحاً خلال أزمة "كوفيد-19" لأن الظروف اضطرت الكثيرين إلى العمل عن بُعد دون أن يحظوا بالمستوى نفسه من التفاعلات اليومية مع مدرائهم.
وإليك كيفية عمل هذا النظام بصورة عامة: يتلقى الموظف قدراً أكبر من التقييمات من زملائه (تصل في كثير من الأحيان إلى 50 تقييماً أو أكثر على مدار السنة)، بدلاً من عملية مراجعة الأداء التي يجري إعدادها ومناقشتها مع المدير مرة واحدة في السنة. تسجل هذه التقييمات مختلف الآراء حول أدائه والموقف السلوكي النابع من الأشخاص الذين يعمل معهم الموظف بشكل منتظم. ولأن النظام يولّد كماً أكبر من التقييمات، فإن كل فرد يغدو أقل عرضة لخطر التحيز المحتمل لرأي شخص واحد، أي المدير. لا يعني هذا، بالطبع، إلغاء شخصية المدير تماماً من المشهد، فهو لا يزال الشخص الذي يجمع التعليقات ويلخصها في مراجعة تعد جزءاً من عملية تقييم الأداء. كل ما هنالك أن المدير في هذا النموذج ليس هو الشخص الوحيد الذي يُقدم التقييم للموظف، بل يشاركه في هذه العملية كل من زملاء الموظف وأقرانه، وحتى مدرائه الآخرين، لكن في الوقت المناسب.
إعادة اختراع إدارة الأداء
يجب على المدراء الإجابة عن 6 أسئلة رئيسية إذا ما أرادوا تنفيذ نموذج كهذا:
1- من المنوط بتقديم التقييم؟
يقتضي المنطق أن تتوجه في البداية إلى أعضاء الفريق الآخرين، حيث تحرص فرق العمل في المنهجيات المرنة على الالتقاء بصفة دورية لمراجعة عملها في الاجتماعات الاسترجاعية وتقديم التقييم بعضها لبعض. وينصب التركيز في هذا المناخ على الفريق ككل بشكل عام، بدلاً من التمحور حول الفرد وحده، ولكنه يشكل نموذجاً مهماً لكيفية مشاركة تحليل الأداء بين عدد أكبر من الأشخاص وتطويره من خلالهم.
ثمة مصدر آخر يتمثل في الشبكة الفردية للموظف داخل الشركة، خاصة أولئك الذين يتعاونون معهم بصورة متكررة. وتتبع شركة "جوجل" منهجية بسيطة يجري فيها اختيار الأقران خصيصاً لهذا الغرض، تقتضي هذه المنهجية من موظفي الشركة كتابة قائمة بالزملاء المختارين وعرضها على مدرائهم، ثم يُوافق المدراء على هذه القائمة بعد التأكد من قرب الأشخاص المختارين بما يكفي من الموظف وعمله بحيث يستطيعون تقديم تقييمات موضوعية. ويقع اختيار موظفي "جوجل" على كل من الأقران وكبار المدراء والموظفين الجدد من أجل الحصول على وجهات نظر متباينة المشارب وتُعطَى كافة التقييمات الوزن نفسه. ويتم تحليل هذه المعلومات وجمعها بمعرفة المدير، ومن ثم مناقشتها في اجتماعات المراجعة الدورية وفي ملخص الأداء، وصولاً إلى مناقشتها مع الموظف في نهاية العام لاتخاذ القرارات المناسبة حول التطوير الوظيفي والتعويضات.
2- هل يجري عرض التقييمات دون الكشف عن هوية مقدميها؟
يجب أن يكون التقييم مفتوحاً ومباشراً وشفافاً بصورة عامة، أو على الأقل هذا ما يُفترض أن يحدث في المعتاد. ولكن ماذا لو لم تكن ثقافة الشركة تملك من النضج ما يكفي للحفاظ على انفتاح النظام إذا كان التقييم سيأتي من أي زميل أو متعاون؟ يخشى المسؤولون في مثل هذه الثقافات أن يؤدي تقديم آراء سلبية إلى نشوب صراعات أو تدمير روابط الزمالة بين الموظفين. وإذا كانت مخاوفهم هذه في محلها، فلن يكون مثل هذا النظام فاعلاً ولن يسهم في تطور أداء الموظف.
يمكننا أن نعود أدراجنا مجدداً إلى "جوجل" لنستشف منها كيفية سير هذا النظام، أي نظامها المتبع في تقييم الأداء من قِبل الأقران والذي يُظهر لموظفيها محتوى مراجعة الأقران دون الكشف عن هوياتهم. ولا يحق إلا للمدراء فقط الاطلاع على هوية المراجعين.
وتشجع "نتفليكس" موظفيها على تقديم تقييمات صريحة واستخدام "الصراحة المطلقة". وعندما توقفت الشركة عن إجراء مراجعات الأداء الرسمية السنوية، شرعت في إجراء مراجعات الأقران، وحرصت على بساطتها قدر الإمكان، وذلك بأن طلبت من الموظفين تحديد الأشياء التي يجب على الزملاء الامتناع عن فعلها أو محاولة فعلها أو مواصلة فعلها. استخدمت "نتفليكس" في البداية نظاماً برمجياً لا يكشف عن هوية المستخدمين، ولكنها لجأت مع مرور الوقت إلى التقييمات المباشرة، وأجرى الموظفون تقييم الأداء بطريقة 360 درجة وجهاً لوجه مع الالتزام بالمبادئ التوجيهية حول كيفية استخدام المصارحة والمكاشفة.
لا يوجد منهج موحد يصلح لجميع الحالات فيما يخص عدم الكشف عن الهوية. فإذا لم تكن الثقافة المؤسسية مؤهلة لتبادل الآراء بحرية وصراحة تامتين بين زملاء العمل، فمن الأفضل أن تتبع نظاماً لا يكشف عن هويات الموظفين في هذا الخصوص. كل ما نتمناه أن نتحاشى ما شهدناه في الكثير من الشركات التي طبقت نظام تقييم الأداء بطريقة 360 درجة على مدى الأعوام العشرين الماضية، ألا وهو منحنى الجرس المنحرف نحو أعلى المعدلات. فلا عبرة بالنتائج مع منحنيات الجرس المنحرفة على هذا النحو.
3- هل التقييمات عفوية أم موجَّهة؟
لا شك في أهمية التوقيت عند تقديم الآراء التقييمية، ولكن هناك قواعد أساسية لا بد من مراعاتها عند التخلي عن عملية مراجعة الأداء التي تتمحور حول المدير.
أولاً: لا بد من مراعاة الإيقاع، إذ يجب أن تأتي طلبات التقييم بإيقاع محدد مصمم خصيصاً بما يتناسب مع أسلوب عمل المؤسسة، وذلك من خلال تنظيمها على دورات متكررة (بمرونة) أو بشكل ربع سنوي.
ثانياً: عليك مراعاة الحجم، حيث يتطلب الانتقال إلى نظام التقييم الاجتماعي التعامل مع كمية كبيرة من التقييمات تجاه شخص واحد، ولكن يجب أن تُستقى هذه التقييمات من شريحة عريضة من الزملاء ولا تقتصر على الدائرة الداخلية الضيقة. أما النظام المُوجَّه فيضع ضوابط رقابية لضمان حصول المدراء على كميات كبيرة ومتشابهة من التقييمات لكل موظف.
على سبيل المثال، تطلب شركة "براكسيس بريسجن مديسنز" (Praxis Precision Medicines) المتخصصة في التقنية الحيوية ومقرها بوسطن في الولايات المتحدة الأميركية الحصول على تقييمات في نهاية كل شهر بهدف الوصول إلى ما يقرب من 100 تقييم للفرد الواحد سنوياً. وتُجرى هذه العملية بمساعدة برنامج "مايكروسوفت أوفيس أنالتكس" (Microsoft Office Analytics) الذي يحدد الأشخاص الذين يتفاعل معهم الموظف أكثر من غيرهم. ويرسل البرنامج طلبات تلقائية لتقديم التقييمات إلى 10 من هؤلاء المتعاونين.
4- هل تُعطَى كافة التقييمات الوزن نفسه؟
يقتضي المنطق أن تستوي كفة كل التقييمات في المؤسسات القائمة على فرق العمل التي تدير نفسها بنفسها ولا وجود فيها للتراتبية الهرمية. ولا يهم أن يأتي التقييم من المدير المباشر أو أيّ من أعضاء الفريق الآخرين أو مالك المنتج أو الرئيس التنفيذي للشركة. ومع تساوي أوزان التقييمات وأحجامها (من خلال الأنظمة المُوجَّهة)، فإن هذا النهج يحاول الاستفادة من "حكمة الجماهير" والتي يجري فيها دمج أجزاء مستقلة من المدخلات إحصائياً لتشكيل صورة دقيقة وكلية للأداء. بعبارة أخرى، إذا قدم 100 شخص تقييمات سلبية متسقة بشأن جانب واحد من الأداء أو السلوك، فإن هذه التقييمات تعكس على الأرجح ميول الشركة ككل. وهذا يعكس الاعتقاد السائد بأن "حكمة الجماهير" أدق من الحكم الصادر عن فرد واحد، وهو ما يتضح في الكثير من الدراسات النفسية والاجتماعية.
وقد اعتمدت شركة "إنيل" (ENEL) العالمية للخدمات العامة نظام التقييم الاجتماعي من خلال منصة داخلية خاصة، حيث يمكن للموظفين طلب التقييم من أي شخص شاركوه النشاط الوظيفي في أي وقت كان، ولأقرانهم الحرية التامة في أن يقيِّموا أداء زملائهم من عدمه. وتتساوى أوزان كل التقييمات، ويتم جمعها في تقارير شهرية وربع سنوية وسنوية بحيث تتاح لكلّ من الموظف والمدير في أي وقت.
5- ما الفئات التي تخضع للتقييم؟
لا تتطلب الفئات الخاضعة للتقييم التخلي كلياً عن النماذج التقليدية في واقع الأمر. فعادة ما ينصبُّ تركيز بعضها على الأداء، بينما يركز بعضها الآخر على السلوكيات التي تعكس أهداف الشركة وثقافتها وقيمها المنشودة.
ويستخدمون في شركة "براكسيس بريسجن مديسنز" 3 فئات للأداء ("ماذا") و4 فئات للقيم والسلوكيات ("كيف"). ولا يحتاج أصحاب التقييمات إلى تقديم مدخلات بشأن كافة الفئات، بل يقتصرون على الفئات التي جرت ملاحظتها مباشرة خلال الفترة المحددة.
6- هل تستطيع تبسيطها؟
بما أن التقييم الاجتماعي يولّد عدداً مهولاً من الآراء والملاحظات حول أي عضو في الفريق، فيجب أن تكون عملية التقييم نفسها بسيطة وسريعة، إذ يجب ألا يستغرق زمنها أكثر من بضع دقائق، بل إن بعض الشركات تطلب من كل عضو في الفريق تقديم 3-4 تقييمات كل بضعة أسابيع في نهاية كل مرحلة من مراحل المشروع.
ونستطيع أن نقول من واقع خبرتنا في أنظمة إدارة الأداء التقليدية إن إعداد مراجعة واحدة وتقديمها يستغرقان ما بين ساعتين إلى 3 ساعات في المتوسط. وهذا غير ممكن في نظام التقييم الاجتماعي الذي يستهدف تقديم مئات الآراء والملاحظات للفرد الواحد ويطلب من كل فرد في المقابل تقديم العدد نفسه. لذا، فإن بساطة عملية التقييم تعد أكثر اتساقاً مع طريقة تفكيرنا في وسائل التواصل الاجتماعي وأسلوب التعامل معها بوضع "أعجبني" أو "لم يعجبني" على وجه السرعة، وهو ما يعتبر نوعاً من التقييم ذي الحدين على كل موضوع مهم أو تقع عليه عيوننا.
ويستخدم موظفو شركة "إنيل" منصتهم الداخلية أو تطبيق الشركة لتقديم مثل هذه التقييمات. ويمكن للمستخدم النقر فوق كلٍّ من فئات التقييم التي وقعت عليه عيناه ثم يُتاح أمامه خياران على مقياس بسيط ذي حدين، إما بالنقر على "تقدير" أو "فرصة للتحسين". ولا يستغرق تقديم التقييم أكثر من 5 دقائق في المتوسط.
وتظل البساطة هي الاتجاه السائد حتى في غياب المقياس ذي الحدين. وقد عملت "جوجل" من هذا المنطلق على تبسيط مقياسها لأنظمة تقييمات المدراء والأقران وأسئلة الاستقصاءات. ولم يسفر التبسيط عن تقليل الوقت المستهلك في التقييمات بنسبة تزيد على 25% فحسب، بل أدى أيضاً إلى رفع معدلات إسهام المشاركين الذين رأوها مفيدة من 49% إلى 75%.
ما العيوب المحتملة لنظام كهذا؟ قد يكون المدراء أنفسهم هم أخطر عيوبه، فهم يبغضونه لأنهم يعتبرونه نظاماً يجردهم جزئياً من سلطة نقد مرؤوسيهم المباشرين. وللتخفيف من حدة هذه النظرة السلبية، لا بد من توعية المدراء بأهمية هذا النظام في تحسين محادثات التنمية المهنية وتطويرها. حيث يلعب المدراء في مثل هذا النظام دوراً رئيسياً في دمج كافة التقييمات بمختلف أشكالها وتفسيرها واستخلاص مقترحات التحسين. ويتحول المدراء إلى "أمناء" على بيانات التقييم وموجهين لتطوير الذات لدى الموظف دون الاعتماد على تقييمهم هم فقط، بل بالاعتماد أيضاً على "حكمة الجماهير".
يجب أن تشرع المؤسسات في تصميم أنظمة إدارة الأداء الملائمة لعام 2021 وما بعده. يمكنها أن تختار وحدة تنظيمية أو بعض فرق العمل كخطوة أولى وجيهة، وتجرب معها نظام "التقييم الاجتماعي" الجديد لثلاث دورات على الأقل، مدة كل منها شهر واحد أو 3 أشهر أو في نهاية كل مرحلة بالمشروع، حسب الظروف الملائمة لعملياتك التشغيلية. وسيتجمع لديك القدر الكافي من بيانات التقييم بعد 3 دورات للوقوف على فاعلية هذا النظام وما إذا كان بإمكانه إحداث تغيير ملموس في بقية مكونات شركتك.