مستقبل المدن يعتمد على التمويل المبتكر

4 دقائق

تواجه المدن الضخمة الحالية مشكلة متعلقة بالمساحة؛ فهي تنمو أفقياً، وليس رأسياً، مع وجود مساحات شاسعة ذات مستويات منخفضة من الزحف الحضري العشوائي تمتد لأميال، كما هو الحال في مدن مثل ساو باولو ولاغوس ونيودلهي وغوانزو وجاكرتا، من بين العديد من المدن الأخرى. ومن ثَمّ فإن المشكلة المحورية التي يجب أن تتصدى لها حضارتنا هي كيف يمكننا تجنب تحوُّلنا إلى كوكب مكون من أحياء فقيرة غير رسمية.

ينتقل سنوياً مئات الملايين من الأشخاص في أنحاء المعمورة من المناطق الريفية إلى البيئات الحضرية بحثاً عن فرص عمل. في عالم مثالي، سوف تكون لدى الحكومة الأموال والتوافق في الآراء اللازمين لتمويل وتنسيق عملية بناء البنية التحتية اللازمة لتلبية، بصورة مستدامة، احتياجات هذا العالم الذي تتسارع فيه خطى التحول الحضري. ولكن في العالم الواقعي يبدو أن فقط قِلة من الحكومات تملك المال أو الإرادة السياسية لتغطية التكاليف الأولية بغية منع حدوث هذا التجزؤ أو مكافحته.

بحكم سفري إلى مؤتمرات معنية بالتنمية الحضارية، غالباً ما أسمع الأشخاص يأسفون لوجود فجوة في تمويل البنية التحتية، ولكن الحقيقة المُرة هي أنه ليست هناك أي فجوة في التمويل. لا يُعاني العالم من نقص في رؤوس الأموال؛ فهناك أصول ضخمة تُقدر بـ 43 تريليون دولار مُدارة حالياً في الولايات المتحدة وحدها. والمستثمرون، من صناديق التحوط إلى شركات التأمين، يعملون في بيئة تتصف بانخفاض العوائد وأسعار فائدة شبه صفرية وتخمة في المدخرات. وبدلاً من الفجوة المزعومة في التمويل، هناك فجوة في المشروعات التي تقبل البنوك تمويلها؛ أي أن المشروعات نفسها ليست جذابة للمستثمرين.

اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: تعريف التأجير التمويلي

هناك مجموعة متنوعة من الأسباب التي تبرر لماذا غالباً ما تخيف الاستثمارات في البنية التحتية للمدن النامية المستثمرين، تتراوح هذه الأسباب ما بين الإيرادات غير المؤكدة إلى الخلافات حول الضمانات إلى الشواغل المتعلقة بالمخاطرات السياسية. ويتمثل التحدي الرئيس في أن المستثمرين يستوعبون جيداً الأصول ذات التدفقات النقدية القائمة بذاتها، مثل الطرق التي برسم مرور أو محطات توليد الكهرباء أو المباني السكنية. ولكن للتصدي للزحف الحضري العشوائي، هناك ضرورة إلى تنسيق متعدد القطاعات؛ فيجب أن تعمل القطاعات المعنية بالطرق والسكك الحديد والانتفاع بالأراضي والتقسيم النطاقي والطاقة والمياه والصرف الصحي معاً. في نماذج التمويل التقليدية، ليس من الممكن للمستثمرين معرفة مستقبل العوائد المالية المتحققة بناءً على مجرد قيمة مضافة متخيَّلة للوحدة المتكاملة. والمنافع متعددة، من بينها النمو الاقتصادي والقدرة التنافسية للمدن وتوافر المزيد من الوظائف لمزيد من الأشخاص والاستخدام الأكثر فاعلية للموارد الشحيحة مثل الطاقة (وهو ما يؤدي إلى الحد من التلوث).

هنا حيثما يمكن للمنتجات المالية الجديدة، ألا وهي سندات التأثير الاجتماعي، (والمعروفة أيضاً بعقود الدفع مقابل النجاح) أن تلعب دوراً، فتلك المنتجات المالية تخلق ترتيبات مالية، تنطوي على مخاطر، بين المؤسسات العامة والخاصة وغير الربحية. في عام 2014 على سبيل المثال، وفي لاية ماساتشوستس، أبرمت مؤسسة "روكا" (Roca) غير الهادفة للربح والوسيط المالي شركة "شركاء رأس المال من القطاع الثالث" (Third Sector Capital Partners) ومجموعة من المستثمرين، عقداً يدفع المستثمرون بموجبه لمؤسسة "روكا" لإدارة برنامج يهدف إلى تقليل حالات معاودة الإجرام. وإذا حققت مؤسسة "روكا" أهدافاً محددة متعلقة بمنع السجناء المفرج عنهم من العودة مرة أخرى إلى السجن، سوف تسدد الدولة للمستثمرين رصيدهم الأصلي وفقاً لمقياس متدرج للأرباح مرتبط بدرجة النجاح. (الدولة مستعدة لفعل ذلك نظراً لأن الإبقاء على الأشخاص خارج السجون سيوفر أموال الدولة). ولكن إذا فشلت مؤسسة "روكا" في تحقيق الأهداف المحددة، قد يفقد المستثمرون بعض أموالهم أو كلها. (يجب على المستثمرين أن يؤمنوا أن القائمين بالتنمية يستطيعون تحقيق النتائج المرجوة، وأن الدولة تستطيع الوفاء بالاتفاقيات التي أبرمتها).

يُعد الهدف من إنشاء سندات التأثير الاجتماعي هو معالجة المشاكل الاجتماعية التي يمكن قياسها بموضوعية مثل معاودة الإجرام. وهو ما يجعلها مرشحاً ممتازاً لتحقيق التنمية الحضرية المستدامة، ومن ثَم بناء بيئة غنية بالبيانات الموثوقة والموضوعية. على سبيل المثال، يمكن إنشاء السندات ليتم دفع مكافآت للمستثمرين العقاريين ومؤسسي البنية التحتية بناءً على مقاييس متنوعة للتقدم المنسَّق المحرَز خارج نطاق الحد الأدنى من التوقعات، وقد تشتمل النتائج المتحققة على نطاق قطاعات متعددة على: استغراق وقت أقل في التنقل، أو في خفض معدل التلوث الحضري لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي.

ويمكن أيضاً أن يكون نهج الدفع مقابل النجاح سبباً مناسباً لإشعال الحماس، فبدلاً من جذب مستثمري الديون في مشروع واحد، الذين يخضعون لرغبات الضامنين المترددين بشكل مفرط تلافياً لمخاطر هبوط الأسعار بحدة، قد تعيد سندات التأثير الاجتماعي صياغة المفاوضات لتسليط الضوء على الارتفاع المحتمل في أسعار الأوراق المالية. فالمستثمرون ورواد الأعمال المهتمون بتمويل برامج "الدفع مقابل النجاح" سوف يكونون أكثر اهتماماً بأسئلة مثل: وفقاً لمقياس متدرج للتأثير الاجتماعي، على ماذا سنحصل إضافة إلى التعريفة الإيرادية إذا عملنا معاً على الحد من التكدس المروري في الطرق بنسبة 10%، أو ساعدنا في زيادة الوقت التشغيلي للطاقة الكهربائية في إحدى المناطق الحضرية بنسبة 50%؟ وبذلك فإن سندات التأثير الاجتماعي التي تُركز على تلك المقاييس سوف تمكّن المطورين المستقلين للمشروعات ذات الصلة بالطرق والسكك الحديد والمياه والمباني الشاهقة من تقاسُم مكافآت يحصلون عليها نظير إجمالي المنافع العائدة على المناطق ذات الكثافة السكانية العالية وأيضاً تقليص المساحات؛ وهو ما يُعد حافزاً واضحاً لتنسيق الجهود مع وضع أهداف مشتركة نصب الأعين.

وكما هو الحال في برامج الدفع مقابل النجاح الأخرى، القدرة على جذب رؤوس الأموال الصافية الساعية إلى تحقيق عائدات مرتفعة قد تكون محدودة بالنسبة إلى سندات التأثير الاجتماعي. ورغم ذلك، ربما تعمل سندات التأثير الاجتماعي وسندات الدفع مقابل النجاح على إطلاق أصول المؤسسات الكبيرة والمؤسسات الخيرية والمنظمات غير الحكومية اتقاءً للمخاطر التي تتعرض لها رؤوس الأموال الساعية إلى تحقيق عائدات، بل وحتى قد تشارك الشركات المساهمة في ذلك. على سبيل المثال، في أوائل هذا العام، أقرتْ الحكومة الهندية قانوناً يُلزم الشركات الكبرى بإنفاق 2% على الأقل من أرباحها السنوية على المسؤولية الاجتماعية للشركات. وفي حالة الشركات الكبرى، مثل شركة "تاتا" (Tata) التي تساوي حوالي 100 مليون دولار سنوياً، متاجر المساحيق الجافة الضخمة التي يمكن استثمارها في سندات التأثير الاجتماعي وُجهت نحو الحد من الزحف الحضري العشوائي والتجزؤ.

بالطبع قد يكلف هذا النهج الجهة المصدرة (المدينة) مزيداً من الأموال إذا كان عليها أن تفي بوعودها المتعلقة برسوم الحافز، ولكنها لن تتمكن من الوفاء بوعودها إلا بدفع الحافز. وإذا كان التسعير أقرب إلى اعتباره مناسباً، سيكون إصدار سندات التأثير الاجتماعي وتسديد مدفوعات النجاح أرخص بكثير بالنسبة إلى الحكومات والجهات المصدرة الأخرى من عدم إجراء إصلاحات على الإطلاق؛ فالمدينة ذات الكثافة السكانية والخالية من العشوائيات حيثما لا يحتاج العاملون من ذوي الدخل المنخفض إلى السفر لساعات لإيجاد فرصة عمل، وحيثما تتوافر المياه النظيفة والكهرباء في كل مكان، ستكون مدينة أكثر ازدهاراً بكثير على المدى البعيد.

ربما لا يُعتبر نهج الدفع مقابل النجاح حلاً ناجعاً لمعالجة مشكلة المساحة وأسبابها الجذرية. ولكن قد تكون طريقة مجدية لحشد تكتلات هائلة من رؤوس الأموال العالمية صوب التفكير في قطاعات متعددة والعمل من أجل تحقيق مصلحة مشتركة لا يبدو أن أيًا من الأطراف قادر في الوقت الحالي على تمويلها؛ فمدن المستقبل المستدامة والزاخرة بالحياة سيتم تمويلها وتوفيرها بفضل ترتيبات التمويل المبتكرة التي تشجع التعاون. ولذا قد تُعد سندات التأثير الاجتماعي أحد الحلول الأكثر ابتكاراً وفاعلية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي