في عام 2016، كشفت المملكة العربية السعودية النقاب عن رؤية 2030، بهدف نقل البلاد إلى حقبة ما بعد النفط، من خلال العمل على أحد عشر برنامجاً تندرج تحت 3 محاور رئيسة، وهي مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر، ووطن طموح.
ومع مرور 7 سنوات على بدء هذا التحول الكبير، يمكن رصد مسار الرؤية وتتبّعه بشيء من التقييم الهادئ بعيداً عن ردود الأفعال الآنية المصاحِبة للحظة الإعلان عن هذه الخطة الطموحة والجريئة.
تخطيط استراتيجي ومواءمة بين النظرية والتطبيق
استطاعت المراحل المبكرة من الرؤية أن تنقل المملكة إلى مصافّ الدول المتقدمة، بالاعتماد على التخطيط الاستراتيجي الناجح، والتأسيس لاقتصاد معرفي، وتبنّي الفكر الإداري الحديث وتطبيق ممارساته. إذ بُنيت الرؤية وفق تسلسل منطقي للمستهدفات الاجتماعية والتنموية والاقتصادية، بحيث يؤسس كل منها للآخر وينمّيه، فيما ركزت الآليات التطبيقية على الحلول العملية المرنة بمشاركة كافة القطاعات والفئات ليظهر المجتمع بحلة جديدة.
وللمواءمة بين الاستراتيجية النظرية والتطبيق العملي في أثناء مسيرة التغيير، يجب أن تمتلك الدول والمؤسسات هوية واضحة وتلتزم بها، وتتجنُّب السعي وراء النمو العشوائي. هذا ما أدركته القيادات السعودية عند العمل على رؤية 2030. فالتغير المستدام يبدأ بمجموعة من التغييرات البسيطة المنسّقة بشكل مستمر لتنتهي بإحداث تحوّل أكبر حجماً، وهو ما يُسمى بنهج إدارة التغيير بخطوات ناعمة، الذي يعتمد على الدوافع البشرية والنظريات السلوكية.
كما ذكرنا أعلاه، ركّزت المرحلة الأولى من رؤية 2030 على تشكيل عقلية جديدة، ما تطلّب التعامل مع تحيزات سلوكية مثل تحيز التأكيد لضمان معالجة الأسباب التي تدفع الأشخاص والثقافات لمقاومة الاستراتيجية الجديدة، فنجاح التحولات الكبرى مرهون بترك الماضي والاستعداد للتخلي عن أفكار فات أوانها.
في أزمنة العتبات، وهو مصطلح استخدمه عالم الأنثروبولوجيا البلجيكي، آرنولد فان جينيب، للتعبير عن المراحل الثلاث للانفصال عن عالم والدخول في عالم آخر؛ يوجد قدر كبير من الاضطرابات غير المتناسقة، وبالتالي يجب على القيادات تقديم الدعم للمؤسسات والشركات والأفراد وتوضيح طبيعة التغيير المطلوب. وتمكّنت قيادات المملكة من تجاوز هذه المرحلة بامتلاكها رؤية واضحة ومتسقة بخصوص الوجهة التي يتعين السير إليها. فما الإنجازات التي تحققت حتى الآن؟
مجتمع حيوي ومتمكن
انعكست رؤية 2030 بشكل واضح على المشهد الاجتماعي من خلال توفير خدمات أكثر كفاءة وأنماط حياة أكثر تنوعاً وصحة. على سبيل المثال:
- في القطاع العقاري كان تمكين الأسر السعودية من تملّك المنازل من أهم مستهدفات الرؤية؛ إذ زادت نسبة ملكية السعوديين للمنازل من 47% قبل إطلاق الرؤية إلى أكثر من 60% في عام 2022، بحسب التقرير السنوي للرؤية.
ويعود ذلك إلى إنشاء شركات وهيئات داعمة للقطاع العقاري مثل الشركة السعودية لإعادة التمويل العقاري، والهيئة العامة للعقار، وتقديم خيارات وحلول سكنية متنوعة بما يناسب احتياجات المواطنين وإمكاناتهم المختلفة، من الوحدات الجاهزة، إلى الوحدات قيد الإنشاء أو الأراضي السكنية المجانية.
وانتقلت وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان من دور المطوِّر والمموِّل والمنفِّذ إلى المحفِّز والمشرِّع والمُراقب، لتشهد منظومة الإسكان تطوراً من حيث الهيكلة والإجراءات وسياسات التعامل مع البنوك والقطاع الخاص، إلى جانب توظيف التكنولوجيا في تسهيل إجراءات التملّك مثل تطبيق "سكنّي" الذي خدم أكثر 1.5 مليون مستفيد، بحسب تقرير إنجازات الرؤية من عام 2016 حتى عام 2020، الذي انعكس ذلك على نسبة رضا المواطنين لتصل إلى 80% بنهاية عام 2020 بعد أن كانت 32% قبل إطلاق برنامج الإسكان.
- تقوم الأنظمة الصحية على ركائز الحوكمة والموارد البشرية وطرق الدفع والتمويل وأسلوب تقديم الرعاية الصحية والمعلومات والمستلزمات الطبية، التي يتداخل بعضها مع بعض بشكل معقد، وأي خلل في إحداها يؤثر على أداء البقية، إذ يجب عدم الفصل بين مقدِّم الخدمة ومموِّلها ومَن يراقب جودتها حتى لا تتضارب المصالح ويزداد الهدر وبالتالي تقلُّ الكفاءة. مثل هذه النقاط تداركتها وزارة الصحة السعودية من خلال برنامج التحول الصحي.
وشهدت رؤية 2030 عدة مبادرات لضمان تقديم الرعاية الصحية الشاملة المتكاملة لجميع الأفراد بطريقة عادلة وميسّرة، لتنجح في رفع نسب التجمعات السكانية بما فيها الطرفية المغطاة بالخدمة الصحية من 84% إلى 94% في عام 2022. ولاقت جهود المملكة في القطاع الصحي اهتماماً عالمياً، ففي عام 2019، عمّمت منظمة الصحة العالمية تجربة المملكة في مكافحة الملاريا، واعتمدت كتاب: "برنامج القضاء على الملاريا في المملكة العربية السعودية: قصة نجاح"، الصادر عن وكالة الصحة العامة، الذي يستعرض كيف تمكّنت المملكة من عدم تسجيل أي حالات إصابة محلية بالملاريا، وتغطية علاج الملاريا بنسبة 100% مع تقديم الوقاية للسكان المعرضين لخطر الإصابة.
- أي دولة تسعى للتطور يجب أن تعمل على إيجاد موارد قيّمة ونادرة وفريدة وغير قابلة للاستبدال لتتمكن من اكتساب ميزة تنافسية مستدامة، وهو ما يُسمى الرؤية القائمة على الموارد (Resource-Based View (RBV) framework)، ولعل أهم هذه الموارد هو العنصر البشري؛ فالتغيرات الاقتصادية والبيئية والتطورات التكنولوجية تفرض تحولاً إدارياً ومهنياً في عمل المؤسسات والشركات ليصبح التركيز أكثر على استقطاب المواهب والخبرات والقدرات البشرية القادرة على صناعة المستقبل.
وتُعد ندرة العمالة الماهرة القادرة على قراءة مستجدات المرحلة ومتغيراتها المتسارعة والتعايش معها، من أبرز التحديات التي يواجهها قطاع الأعمال، فبحسب استطلاع أجرته ماكنزي عام 2020 حول الاحتياجات المستقبلية للقوى العاملة؛ قال 44% من المشاركين في الاستطلاع، إن مؤسساتهم ستواجه فجوات في المهارات خلال الأعوام الخمسة المقبلة، فيما سيحتاج 50% من الموظفين إلى إعادة تشكيل مهاراتهم بحلول عام 2025، مع زيادة اعتماد التكنولوجيا، وفقاً لتقرير مستقبل الوظائف الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF).
من هنا ركزت رؤية السعودية 2030 على التعليم والتدريب وتنمية المهارات، وحققت تقدماً في هذا المجال، على سبيل المثال ارتفعت نسبة الالتحاق بتعليم رياض الأطفال من 13% في 2015 إلى 23% في 2020، وزاد نشر الأبحاث العلمية 120%، وبهدف تعزيز القيادات النسائية في سوق العمل؛ عملت المملكة أيضاً على تدريب 260 قيادية و246 مديرة.
وقفزت المملكة 8 مراتب في تقرير المواهب العالمي 2022 الصادر عن مركز التنافسية العالمي، لتحل في المرتبة 30 على مستوى 63 دولة، وفي المرتبة السابعة بين دول مجموعة العشرين، لتتفوق بذلك على دول متقدمة مثل اليابان وكوريا الجنوبية، والأرجنتين والبرازيل، والهند والصين.
اقتصاد مزدهر
وسّعت المملكة نطاق مشاركة القطاع الخاص في رحلة التحوّل الوطني لخلق اقتصاد أكثر تنوعاً واستدامة، ما ضاعف قوتها الاستثمارية وأسس قاعدة صلبة من الازدهار الاقتصادي والاجتماعي.
ومنذ إطلاق الرؤية، حدثت معطيات شكّلت نقاطاً مفصلية في التحول الاقتصادي، أبرزها:
- طرح 1.5% من أسهم شركة أرامكو العملاقة للاكتتاب العام في السوق المحلية عام 2019، ليصبح أكبر طرح أولي عام في تاريخ أسواق المال، إذ وصلت القيمة السوقية بعد الطرح إلى تريليوني دولار، أي أكثر من ضعف القيمة السوقية لأي شركة مُدرجة، ما أسهم في جعل السوق المالية السعودية "تداول" ضمن أكبر 10 أسواق مالية عالمياً.
- انضمام السوق السعودية إلى مؤشرات عالمية، مثل إم إس سي آي (MSCI) للأسواق الناشئة، وفوتسي راسل (FTSE Russell) للأسواق الناشئة، ما شجع المستثمرين الأجانب على الانضمام إلى السوق السعودية، ليقفز عددهم من 453 مستثمراً في عام 2018 إلى 2,334 مستثمراً في عام 2020.
وفتحت رؤية 2030 الأفق لقطاعات جديدة وواعدة، مثل الطاقة المتجددة، إذ تُعد محطة سكاكا للطاقة الشمسية أول مشروع للطاقة المتجددة في المملكة وبقدرة إنتاجية تبلغ 300 ميغاواط تكفي لتغذية أكثر من 45 ألف منزل بالطاقة الكهربائية، بتعرفة قياسية تبلغ 8.78 هللة لكل كيلو واط/ لكل ساعة.
كما حقق مشروع دومة الجندل رقماً قياسياً عالمياً لتعرفة مشاريع طاقة الرياح، إذ سجّل أقل تكلفة لإنتاج الكهرباء بلغت 0.0199 سنتاً لكل كيلو واط/ساعة، وحصل المشروع على جائزة صفقة العام لقطاع الطاقة المتجددة في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا عام 2019.
واتخذت المملكة خطوات فعّالة في خفض التكلفة ورفع كفاءة استهلاك الطاقة، منها تغيير أكثر من مليون مصباح لإنارة الشوارع في عدة مدن، وإعادة تأهيل أكثر من 1,200 مبنى حكومي سعياً لخفض التكاليف ورفع كفاءة الاستهلاك. وكان لشركة ترشيد التي أنشأها صندوق الاستثمارات العامة دوراً مهماً في دعم كفاءة الطاقة.
أعطت كل هذه التحركات دفعة للاقتصاد السعودي الذي يرى صندوق النقد الدولي أنه يشهد تحسناً قوياً مدعوماً بالإصلاحات التي تجريها المملكة في إطار رؤية 2030، إذ تغيّر مشهد قطاع الأعمال بالكامل في المملكة بسبب نمو الشركات الناشئة وتشجيع الأفكار الريادية وخلق بيئة استثمارية جاذبة للمستثمرين. ولم يكن هذا التغيّر من قبيل الصدفة، فهو ناتج عن تضافر الجهود وبناء جسر التواصل بين الحكومة والمستثمرين لبحث الفرص والتحديات. وظهر تأثير التواصل واضحاً عبر رؤية 2030، فمُنحت هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة دوراً أكبر، وأصبحت وزارة التجارة أكثر مرونة في الاستجابة للمشكلات التي تواجه المستثمرين، فصارت خطوات تأسيس الشركات وإجراءات استخراج السجل التجاري تتم خلال 30 دقيقة فقط وبخطوة واحدة إلكترونياً، وتم إلغاء أكثر من 60% من متطلبات الاستثمار وحصر تقييم المخاطر لجميع المتطلبات والتراخيص، كما ارتفع عدد الشركات الصغيرة والمتوسطة منذ عام 2016 إلى 1,1 مليون منشأة في عام 2022 لتقفز المملكة 103 مراتب في مؤشر بدء النشاط التجاري بتقرير سهولة ممارسة الأعمال 2020 الصادر عن البنك الدولي وصولاً إلى المرتبة 38 عالمياً.
من جهة أخرى، قد تُهدر فرص حقيقية للنمو الاقتصادي في المجتمعات بسبب الفجوة بين الجنسين، إذ يُقدِّر صندوق النقد الدولي أن سد الفجوة بين الجنسين يمكن أن يؤدي إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 35%، فبدأ العديد من الدول ومنها المملكة العربية السعودية، بإنجاز إصلاحات ممكّنة للمرأة أتت ثمارها خلال فترة قصيرة، خصوصاً بعد تدشين رؤية 2030، بما تضمنته من طموحات عالية تتعلق بزيادة مشاركة المرأة في سوق العمل عامة، وزيادة حصة المرأة في المناصب الإدارية خاصة، فارتفعت نسبة مشاركة المرأة في القوة العاملة من 19.4% قبل إطلاق الرؤية إلى 33.2% عام 2020 ثم إلى 34.5% عام 2022، كما ارتفع نسبة المشاركة الاقتصادية للإناث السعوديات من 17% في 2017 إلى 36% في 2022.
وطن طموح
ظهرت خلال الأعوام الأخيرة تقنيات رقمية جديدة مختلفة مثل الذكاء الاصطناعي والسحابة وتقنيات الجيل الخامس، لها قدرة هائلة على إحداث تغيير جذري في حياة الأفراد وفي طريقة القيام بالأعمال وسلاسل التوريد والمنتجات والخدمات وكيفية الابتكار والقدرة التنافسية للاقتصاد ككل.
فبات من واجب الحكومات أن تتنبه لضرورة تقييم تقدمها في خضمّ التطورات التقنية المتسارعة والتبنّي الواسع لها، والبحث عن كيفية تمكين التقنيات الرقمية على المستوى الوطني وتسخيرها لصالح المواطنين والمجتمع والاقتصاد.
في هذا الإطار، ركّزت المملكة في رؤية 2030 على تعزيز الفاعلية الحكومية عبر تحديث ممارسات الحوكمة والإدارة للارتقاء بها إلى المعايير الدولية وضمان مستويات عالية من الشفافية والمساءلة، وأصدرت تنظيمات وتشريعات لدعم الهياكل المؤسسية وعملت على نشر الخطط والأهداف ومؤشرات الأداء لمتابعة التقدم والتنفيذ للتوسع بالخدمات الحكومية الرقمية.
لذا وصلت المملكة إلى المركز 43 في مؤشر الأمم المتحدة لتطوّر الحكومة الإلكترونية عام 2020، وأصبحت بالمركز 31 في عام 2022 وذلك نتيجة تعزيز قيم الشفافية في العمل الحكومي من خلال قياس أداء الأجهزة العامة من وزارات وهيئات وصناديق حكومية.
تخلق التحولات الكبرى مثل رؤية المملكة 2030 فرصاً متنوعة، لكن نجاحها يعتمد على تغيير منهجية القيادة، لذا طوّرت قيادات القطاعين العام والخاص في المملكة منهجيتها لتصبح قادرة على استشراف المستقبل ودراسة التبعات الضمنية للتحول الكبير والاستعداد لمواجهتها.