ملخص: مع توسع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المتزايد ودخولها في جوانب حياتنا المختلفة يزداد التدقيق فيمن يعمل على تطويرها، إذ يتطلب بناء تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الأخلاقية التي تلائم الجميع قوة عاملة متنوعة تمثل مجموعة واسعة من وجهات النظر. ولكن من أجل تحقيق ذلك ستضطر الشركات إلى البحث عن المواهب خارج مراكز التجمع المعتادة، مثل مدينة سان فرانسيسكو. وللمساعدة في هذا الجهد عمل المؤلفون على تجميع قائمة من أهم 50 مدينة تضم مواهب الذكاء الاصطناعي وحللوا مدى تنوع المطورين في كل منها لمساعدة الشركات على توجيه عمليات التوظيف التي تقوم بها في سعيها لبناء قوة عاملة أكثر شمولاً وتنوعاً في قطاع الذكاء الاصطناعي.
تشق تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي طريقها في حياتنا، يقول مايكل ليتمان، رئيس تقرير "مائة عام من الدراسات حول الذكاء الاصطناعي" التابع لجامعة "ستانفورد": "في الأعوام الخمسة الماضية، حققت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي قفزة كبيرة بعد أن كانت محصورة في مختبرات الأبحاث أو غيرها من البيئات الخاضعة للرقابة الشديدة ودخلت إلى المجتمع وبدأت تؤثر في حياة الناس".
من السهل ملاحظة ما يتحدث عنه؛ يمكن رؤية تأثير التكنولوجيا في الأتمتة وتحفيز مكتسبات الكفاءة وتعزيز الإنتاجية وخلق وظائف جديدة وتخفيض المخاطر المرتبطة بالتهديدات السيبرانية والاحتيال، وفي أثناء الجائحة أتاحت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي زيادة كفاءة عمليات اختبار الإصابة بـ "كوفيد-19" وتطوير اللقاح بسرعة أكبر، وساعدت في إدارة سلاسل توريد البقالة وتصميم دروس مخصصة بصورة فردية للطلاب الذين انتقلوا في مدارسهم إلى التعليم عن بعد.
مع ازدياد توسع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ودخولها في جوانب حياتنا المختلفة نلاحظ ازدياد التدقيق فيمن يعمل على تطويرها، ومن أجل ضمان أن يتم بناؤها بطرق أخلاقية وأن تلائم فئات سكانية واسعة ومتنوعة وتحمي الحقوق المدنية ومطالب الحريات، يجب ألا ينحصر تطويرها بالأحكام الأخلاقية وخيارات التصميم وأولويات التطبيق التي يتأثر بها المطورون الذين ينتمون إلى فئات محدودة. من المنطقي أن يتأثر مطورو تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بنظراتهم الخاصة إلى العالم التي توجههم بدورها فيما يختارونه من تطبيقات ومجموعات البيانات وخوارزميات التدريب. تتأثر هذه النظرات إلى العالم بعدة عوامل كالنوع الاجتماعي والانتماءات العرقية والإثنية والجغرافية، وبالتالي تزداد ضرورة أن تكون مجموعة المواهب التي تعمل على تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، دوناً عن غيرها من أنواع التكنولوجيا، أكثر تنوعاً وشمولاً إذ إنها توقع تأثيراً عميقاً في المنتج نفسه.
نعلم أن مجموعات المواهب تعاني فجوات واسعة فيما يتعلق بتحسين مستوى التنوع ويجب علينا سدّها، تبين الأبحاث التي أجراها فريق مبادرة "ديجيتال بلانيت" في كلية "فليتشر" بجامعة "تافتس"، أن النساء يشكّلن 17% من مجموعة المواهب الرقمية بمقابل 27% في قطاع العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات عموماً. ويشكل الموظفون من أصحاب البشرة السمراء نسبة 11.8% فقط من القوة العاملة في قطاع الذكاء الاصطناعي وفقاً لمركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة بجامعة "جورج تاون".
ويتمثل أحد أهم العوامل التي تعيق معالجة هذه المشكلة في أن الموظفين الذين يتمتعون بالمهارات وغيرها من الموارد الأساسية يتكتلون حول عدد قليل من مراكز التجمع في المدن، وهذا يؤدي إلى جعل أبحاث تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وأعمال تطويرها محصورة في نخبة تضم شركات وجامعات معدودة، وبالتالي تصبح محدودة بمناطق جغرافية معدودة أيضاً. مثلاً، تشير دراسة أجرتها مؤسسة "بروكينغز" إلى أن منطقة خليج سان فرانسيسكو تشكل مركزاً مهماً للأنشطة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي يضم ما يقرب من ربع ما يتعلق بهذه التكنولوجيا في أميركا من أوراق بحثية للمؤتمرات وبراءات اختراع وشركات، ويبلغ النشاط المتعلق بالذكاء الاصطناعي فيها ما يقرب من 4 أضعاف ما يوجد في أبرز المدن التي تضم تجمعات لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
وبالنظر إلى جميع هذه الأسباب يجب على الشركات التي تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتطبقها أن تسعى لتوظيف أصحاب المواهب من مصادر أوسع. قد يتطلب ذلك أن تفتح مقاراً لها في عدة مواقع لضمان أن يعرف أفراد فرق التوظيف الأماكن التي يمكنهم العثور فيها على المواهب المتنوعة. النبأ السارّ هو أن ثمة مراكز تجمع غنية بالعديد من مواهب الذكاء الاصطناعي في مدن أخرى ويمكن للشركات التفكير فيها حتى وإن لم تكن بحجم التجمع في منطقة مدينة سان فرانسيسكو.
نسلط الضوء في هذا المقال على 50 مدينة تضم أكبر مجموعات المواهب في قطاع الذكاء الاصطناعي في العالم، ونقيّمها بناء على إطار عمل طورناه في مبادرة "ديجيتال بلانيت" أطلقنا عليه اسم "تايد" (TIDE) وفقاً للأحرف الأولى من أسماء العوامل المكونة له: مجموعة المواهب (Talent pool) والاستثمارات (Investments) وتنوع المواهب (Diversity of talent) وتطور الأسس الرقمية في الدولة (Evolution of the country’s digital foundations). تتيح هذه العوامل مجتمعة للشركات منح الأولوية للبحث عن خيارات مصادر المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي عن طريق تقييم المواقع المختلفة من حيث تمركز مجموعة المواهب وجودتها وتنوعها. استعنا ببرنامج "سيك آوت" (SeekOut) للحصول على بيانات أصحاب المواهب من قاعدة بياناته وتحليلات مواقع خبراء الذكاء الاصطناعي النشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين أخذنا بيانات الاستثمار من بيانات شركات رأس المال المغامر (الجريء) في كل مدينة. يجمع مقياس التنوع عدة عوامل: نسبة النساء الموظفات في قطاع الذكاء الاصطناعي والتنوع العرقي وقبول المهاجرين وتكاليف الحياة في المدينة، وأخذنا بيانات التطور الرقمي من العمل الذي تحدثنا عنه سابقاً في مجلة "هارفارد بزنس ريفيو".
أهم 50 مدينة تضم تجمعات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وفقاً لإطار العمل "تايد":
تترتب عدة آثار على هذا التحليل.
في حين تعتبر مدينة سان فرانسيسكو رائدة في جمع أصحاب المواهب في قطاع الذكاء الاصطناعي، ثمة مجموعة أوسع يمكن اجتذاب المواهب منها. لاحظنا أنه من ناحية تمركز أصحاب المواهب في قطاع الذكاء الاصطناعي فقط، فإن منطقة خليج سان فرانسيسكو أكبر من مجموع المدينتين اللتين تليانها في الولايات المتحدة؛ سياتل ونيويورك. ومع ذلك فعلى الأرجح أننا نبالغ في تقدير موقعها. ثمة مجموعة عالمية من أصحاب المواهب في دول غير الولايات المتحدة، وهي تشمل دولاً نامية، خذ مثلاً مدينة بنغالور في الهند، وهي في المرتبة الخامسة من ناحية التنوع بين موظفي قطاع الذكاء الاصطناعي وفقاً لإطار العمل "تايد"، إذ إنها تضم ثاني أكبر مجموعة من أصحاب المواهب في العالم.
يتغير مشهد قطاع الذكاء الاصطناعي باستمرار لا سيما في الدول النامية، وهذه التغييرات توقع أثراً كبيراً على قائمة أهم مراكز التجمع مع مرور الوقت. مثلاً، تضم هذه القائمة مدناً في البرازيل والهند يتم فيها توظيف عدد من العاملين في قطاع الذكاء الاصطناعي يبلغ ثلاثة أضعاف عددهم في عام 2017، ومعدل النمو هذا مساوٍ لمعدل النمو في الولايات المتحدة أو يتفوق عليه. كما ألّفت النساء الباحثات نسبة 30% من أوراق البحث العلمية الصادرة من الهند، وهذه النسبة أكبر من نسبة النساء المؤلفات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بمقدار الضعف، في حين أن "الأكاديمية الصينية للعلوم" هي أهم ناشر لأبحاث الذكاء الاصطناعي تليها جامعة "تسنغوا" (Tsinghua University) وجامعة "بيكنغ" (Peking University) بفارق بسيط. يجب أن تفكر الشركات في توسيع برامج التوظيف التي تتبعها في هذه الدول عند الإمكان كي تعزز تنوع مجموعة مطوري تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
يساعد العمل عن بُعد في نشر نشاط قطاع الذكاء الاصطناعي على نطاق أوسع. مع القبول المتزايد للعمل عن بعد تتاح فرص أكبر لتتمتع المدن ذات تكاليف الحياة المنخفضة بدور أهم في قطاع الذكاء الاصطناعي. أما المدن التي تضمها قائمتنا من الدول النامية، مثل حيدر أباد وبنغالور وجاكرتا ولاغوس ونيروبي ومدينة مكسيكو وبوينوس آيرس وساو باولو، فقد حازت على درجات عالية من حيث انخفاض تكاليف الحياة التي تشكل على الأرجح عامل جذب قوي لأصحاب المواهب المتنوعة، خاصة المنحدرين من الفئات المحرومة. وأحد العوامل الأساسية التي يجب أخذها في الحسبان هو أن إمكانات هذه المدن مقيدة بحالة التطور الرقمي وبنيته التحتية فيها.
في حين تشكل المدن الأوروبية مثل تالين ومدريد وبرشلونة وبرلين نقاط التقاء تكاليف الحياة المنخفضة نسبياً والتطور الرقمي العالي، لذا يجب تحسين قبول المهاجرين في جميع هذه المدن كي تحقق كامل إمكاناتها، أما بالنسبة للشركات فبإمكانها تحديد المدن في المناطق المناسبة لحضورها المؤسسي الحالي واحتياجات عملائها وبصمتها المؤسسية والمناطق الزمنية وبنية الفرق التنظيمية، وتحديد الاستراتيجيات الملائمة للتوظيف والحفاظ على العاملين.
يجب على الشركات التي تهدف إلى الحدّ من التفاوت بين الجنسين أن تأخذ في حسبانها المدن التي تضم مجموعات مواهبها نسبة أكبر من النساء. تبرز مدينة أونتاريو بكندا في مقدمة المدن التي تتمتع بالتنوع بين الجنسين بمجموعة مواهب تضم أكثر من 25% من النساء في قطاع الذكاء الاصطناعي، وتنضم بذلك إلى 13 مدينة أخرى تضم ما لا يقلّ عن 20% من النساء في مجموعات المواهب لديها إلى جانب مدن أميركا الشمالية ومدينتي إدنبرغ وبوينوس آيرس، وفي الولايات المتحدة نلاحظ أن مدينة بوسطن هي الأفضل وتليها منطقة خليج سان فرانسيسكو في المرتبة الثانية. التزمت الشركات في جميع مدن القائمة بتحسين التوازن بين الجنسين في قواتها العاملة في التكنولوجيا، وتم اقتراح كثير من الأفكار حول طرق معالجة انعدام التوازن الحالي وأثره السلبي لا سيما في قطاع الذكاء الاصطناعي، وقد يكون تخصيص موارد التوظيف للمدن التي تضم أكبر تمثيل نسائي في مجموعات المواهب جزءاً حاسماً من الحلّ.
يجب على مسؤولي التوظيف الذين يفكرون في مجموعات مواهب الذكاء الاصطناعي في المدن الأميركية إجراء مفاضلة متوازنة بين حجم المجموعة وتنوعها العرقي. في حين أن مدن أتلانتا وواشنطن العاصمة ولوس أنجليس تحتل مراتب أدنى في قائمتنا (6 و10 و11 من مجمل تصنيفاتنا) فهي تتمتع بنسب أكبر من أصحاب المواهب ذوي البشرة السمراء والأصول اللاتينية مقارنة بالمدن الأميركية في المراتب الأعلى عموماً.
يمكن للشركات تشجيع الحكومات الوطنية على إجراء تعديلات على سياسات الهجرة تساعد في بناء مجموعات مواهب أكثر تنوعاً لا سيما في أنظمة الجامعات. تمثل المدن في الاتحاد الأوربي مثالاً رئيساً على ذلك؛ عموماً، يتأخر الاتحاد الأوربي عن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والصين من حيث عدد طلاب الجامعات في قطاع العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات نسبة لعدد السكان، كما أن نسبة كبيرة من حاملي درجات الدراسات العليا والدكتوراة في نفس المجال ضمن الاتحاد الأوروبي يبحثون عن عمل في دول أخرى. يجذب سوق العمل في الاتحاد الأوروبي عموماً نسبة صغيرة نسبياً من مواهب الذكاء الاصطناعي إذ يعاني الاتحاد الأوربي مشكلات إضافية فيما يتعلق بالأساتذة؛ حيث إن أعدادهم قليلة في المؤسسات الأكاديمية الأساسية لمواهب الذكاء الاصطناعي. خذ ألمانيا مثلاً، حيث يعمل كل أستاذ في قطاع العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات على تعليم ما بين 90 و100 طالب وسطياً. يمكن لدرجة أكبر من قبول المهاجرين المساعدة في بناء قدرات الذكاء الاصطناعي ونتائجها في الاتحاد الأوروبي.
يمكن أن تتعاون الشركات مع الحكومات المحلية في المدن من أجل تعزيز مراكز تجمع حيوية تجذب القوى العاملة في التكنولوجيا. يتمثل أحد الأوجه المهمة من الاستراتيجية القوية لإدارة المواهب في عدم التوقف عند تعيين الموظفين، والاستثمار في استبقاء أفضلهم. ستساعد الاستثمارات التي تقوم بها الشركات والحكومات لبناء مؤسسات مدنية داعمة ومرافق حضرية وعلامات تجارية للمدن في قطع شوط طويل من عملية بناء الولاء، كما يكمّل هذا التعاون بين القطاعين العام والخاص الحملات العامة التي تقوم بها البلديات وحكومات المدن لجذب الاستثمارات والموظفين أصحاب الدخل العالي والوظائف ذات الأجور العالية. في حين أن هذه الاستثمارات قادرة بصورة خاصة على جذب الشركات التي لديها مقار مكتبية في نفس المدينة، فالعمل عن بُعد يحول المدن إلى مراكز جذب للموظفين الذين يعيشون في أماكن بعيدة عنها.
ومن أجل نجاح التكنولوجيا المتعددة الاستعمالات مثل الذكاء الاصطناعي يجب أن تعزز التطبيقات والبيانات، والأهم هو أن تعزز أصحاب المواهب المنتمين إلى عدة بيئات ومصادر. نعاني حالياً نقصاً في مواهب الذكاء الاصطناعي، ويجب أن تفكر الشركات ملياً في مصادر المواهب التي تسعى لتوظيفها. نشرت مؤسسة "أورايلي" (O’Reilly) على موقعها الإلكتروني عام 2021 مقالاً بعنوان "اعتماد الذكاء الاصطناعي في الشركات" (AI Adoption in the Enterprise)، وهو يفيد بأن نقص الموظفين أصحاب المهارات في قطاع الذكاء الاصطناعي وصعوبات التوظيف يتصدران قائمة الصعوبات التي يعانيها قطاع الذكاء الاصطناعي، في حين أن أهم 3 مهارات مطلوبة على موقع "مونستر دوت كوم" (Monster.com) هي مهارات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
لا شك في ضرورة أن توسع الشركات نطاق بحثها عن أصحاب المواهب ليتعدى حدود المدن "المعتادة" أو مراكز التجمع الكلاسيكية للتكنولوجيا، وثمة أنباء سارّة؛ البحث عن مواهب الذكاء الاصطناعي ممكن في 50 مدينة وربما أكثر، وستستفيد أهم مراكز التجمع التي ذكرناها هنا من تعزيز مدنها مع توسع قطاع الذكاء الاصطناعي. كما أننا جميعاً، بوصفنا عملاء لمنتجات الذكاء الاصطناعي والخدمات التي يدعمها، سنستفيد من تكنولوجيا تعتمد على اتساع المصادر لإنتاج تطبيقات تكنولوجية جديدة خالية من التحيزات وتحمي الحريات وتلائم الجميع في كل مكان.
يوجه المؤلفون امتنانهم لكلّ من بول ترومان في شركة "ماستركارد" وجوي جانغ في كلية "فليتشر" بجامعة "تافتس".