ما هي الاقتصادات التي أظهرت أكبر تقدم رقمي في عام 2020؟

12 دقيقة
الاقتصادات المتقدمة رقمياً في 2020
صور من منظور جوي/غيتي إيميدجز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: لقد أضحت القدرات الرقمية اليوم عاملاً ضرورياً لضمان نمو البلدان وتعزيز قدراتها الاقتصادية على التحمّل. لكن كيف يمكننا إجراء مقارنة بين الاقتصادات المتقدمة رقمياً في 2020 من حيث وضعها الراهن والعوامل التي تحفزها على الاستمرار في تحقيق التطور الرقمي؟ وما هو أثر تلك العوامل في تجاربها في ظل الجائحة؟ يشارك المؤلفون بعض الرؤى الرئيسة الثاقبة من الإصدار الأخير لسجل قياس أداء التطور الرقمي، وهو تحليل شامل لحوالي 90 من الاقتصادات ويعتمد على 160 مؤشراً رئيساً للتنمية الرقمية؛ حيث لجأ المؤلفون في ذلك التحليل إلى تقسيم اقتصادات العالم إلى 4 مناطق مختلفة، ألا وهي الدول المتميّزة والدول المتعثّرة والدول النامية والدول المتأخرة. وأوضحوا في ذلك التحليل الأولويات الرئيسة التي يجب على واضعي السياسات التركيز عليها في كل مجموعة من مجموعات الدول الأربع، وناقشوا كيفية ارتباط ذلك التحليل بالأداء الاقتصادي للبلدان خلال العام الماضي، وقدموا العديد من الرؤى الثاقبة رفيعة المستوى حول الأسلوب الذي تتبعه البلدان الأكثر نجاحاً في تحقيق مزيد من التطور الرقمي. وعلى الرغم من أن كل بلد فريد من نوعه وأنه لا يوجد حلول تناسب جميع البلدان، يوفّر ذلك التحليل إطار عمل مفيد لواضعي السياسات يساعدهم في فهم مستوى بلدانهم فيما يتعلق بالتنمية الرقمية بشكل أفضل وفي استكشاف الفرص التي تمكّنهم من تحقيق مزيد من النمو.

 

لقد تسببت الجائحة على مدى العام الماضي في انكماش الاقتصاد العالمي بنسبة 4.4%. في الوقت نفسه، تسارعت خطى التوجه الرقمي في جميع أنحاء العالم، وتزايدت أهمية القدرات الرقمية، سواء فيما يرتبط بالتعليم عن بُعد أو التجارة الإلكترونية أو العمل من المنزل، وذلك نظراً لتكرار فرض تدابير الإغلاق العام وإغلاق المدارس وتوقف قطاعات بأكملها عن العمل. لكن كيف حدثت تلك التطورات بالضبط في جميع أنحاء العالم؟ وما الذي يتعين على الحكومات والشركات والمستثمرين فعله ليحتلوا الصدارة؟

تعاون زملاؤنا في كلية “فليتشر” (Fletcher School) بجامعة “تافتس” (Tufts University) مع شركة “ماستركارد” للتعمّق في تفاصيل تلك المسألة وتطوير إصدار ثالث من سجل قياس أداء التطور الرقمي (بعد الإصدارات السابقة التي نُشرت في مجلة “هارفارد بزنس ريفيو” في عامي 2015 و2017 ). ويترافق إصدار سجل عام 2020 مع نموذج محاكاة تفاعلي للسياسات، ويعرض تحليلاً لتسعين اقتصاداً بناء على مجموعة مكوّنة من 160 مؤشراً موزعاً ضمن 4 عوامل رئيسة، ألا وهي ظروف العرض وظروف الطلب والبيئة المؤسسية والابتكار والتغيير. واستخدمنا على وجه التحديد مجموعة من البيانات العامة والخاصة من أكثر من 45 قاعدة بيانات مختلفة، بالإضافة إلى التحليلات التي أجراها فريق “ديجيتال بلانت” (Digital Planet) في كلية “فليتشر” بهدف التعمق في تلك المسألة ضمن العوامل الأساسية الأربعة:

  • ظروف العرض: ما مدى تطور البنية التحتية، الرقمية والمادية، المطلوبة لتسهيل إنشاء بيئة عمل رقمية؟ وقد يشمل ذلك توفير عرض النطاق الترددي، والتحقق من جودة الطرق اللازمة لدعم عمليات التجارة الإلكترونية، وما إلى ذلك.
  • ظروف الطلب: هل المستهلكون مستعدون وقادرون على المشاركة في بيئة العمل الرقمية؟ هل يمتلكون الأدوات والمهارات اللازمة للمشاركة في الاقتصاد الرقمي؟
  • البيئة المؤسسية: هل تدعم قوانين الدولة (وإجراءات حكومتها) عملية تطوير التقنيات الرقمية أم تعيقها؟ هل تستثمر الحكومات في تطوير عمليات الرقمنة؟ هل تدعم القوانين التي تحكم استخدام البيانات وتخزينها عملية تحقيق النمو أم أنها تخلق حواجز في وجهها؟
  • الابتكار والتغيير: ما هو وضع مساهمات الابتكار الرئيسة في بيئة العمل (أي المواهب ورأس المال)، وماهو وضع العمليات (أي التعاون بين الجامعات والقطاع)، والمخرجات (أي المنتجات والخدمات الرقمية الجديدة والقابلة للتطوير)؟

يجمع سجل قياس الأداء جميع تلك البيانات ثم يقيّم الاقتصادات على أساس بُعدين، ألا وهما الوضع الحالي لرقمنة الدول ووتيرة الرقمنة بمرور الوقت (التي تقاس بحسب معدل نمو درجة الرقمنة على مدى 12 عاماً، 2008-2019). وكما هو موضح في الرسم البياني أدناه، تُظهر “الخريطة” التي وضعها فريق “ديجيتال بلانت” توزّع الاقتصادات في 4 مناطق مختلفة، ألا وهي الدول المتميّزة والدول المتعثّرة والدول النامية والدول المتأخرة.

التطور الرقمي: الوضع الحالي ومحفزات النمو

الاقتصادات المتميّزة

تضم تلك المنطقة اقتصادات تتمتّع بمستويات عالية من الرقمنة ودافع كبير لمواصلة تطوير قدراتها الرقمية. وتبرز 3 اقتصادات في تلك المجموعة، ألا وهي كوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ. وتُعتبر تلك الاقتصادات، إلى جانب اقتصادات أخرى، مثل إستونيا وتايوان والإمارات العربية المتحدة الاقتصادات الأفضل أداء في ذلك المؤشر، والسبب أنها أظهرت القدرة على التكيّف وتوفير الدعم لفرص الابتكار بقيادة المؤسسات. ومن المثير للاهتمام أيضاً أن يُبدي اقتصاد الولايات المتحدة الذي يتمتّع بذلك الحجم والتعقيد حماساً ملحوظاً لتحقيق النمو، حيث سجل المركز الثاني في التطور الرقمي بعد سنغافورة.

ما الذي يجب على الدول فعله إذاً لتتمتع باقتصاد متميّز؟ على الرغم من أن حالة كل دولة مختلفة عن الأخرى، يُشير تحليلنا إلى أن أنجح تلك البلدان أعطت الأولوية لعدة تدابير:

  1. التوسع في اعتماد أدوات المستهلك الرقمية (التجارة الإلكترونية وخدمات الدفع الرقمي والترفيه وما إلى ذلك).
  2. استقطاب المواهب الرقمية وتدريبها واستبقائها.
  3. تعزيز مشاريع الأعمال الحرة الرقمية.
  4. توفير الوصول السريع والشامل والأرضي (مثل الألياف الضوئية) إلى خدمات الإنترنت، إضافة إلى إتاحة الفرص للاستفادة من خدمات الإنترنت ذات النطاق العريض على الهواتف المحمولة.
  5. التخصص في تصدير السلع أو الخدمات أو الوسائط الرقمية.
  6. تنسيق عمليات الابتكار بين الجامعات والشركات والهيئات الرقمية.

الاقتصادات النامية

تتميّز تلك المنطقة باقتصادات تتمتّع ببنية تحتية رقمية محدودة، لكنها تتّجه إلى الرقمنة بسرعة. وتُمثّل الصين أبرز مثال في تلك المجموعة، إذ يُعدّ تطورها الرقمي أعلى بكثير من تطور جميع الاقتصادات الأخرى، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الجمع بين عمليات الطلب والابتكار المتزايدة بسرعة. وتُعتبر دولتا إندونيسيا والهند من أبرز البلدان في تلك المجموعة أيضاً، إذ تحتلان المرتبة الثالثة والرابعة في محفزات النمو على الرغم من اقتصاديهما الكبيرين. وبالإضافة إلى تلك الاقتصادات الناشئة الكبيرة، أظهرت الاقتصادات متوسطة الحجم دافعاً متزايداً لتحقيق النمو الرقمي، مثل كينيا وفيتنام وبنغلاديش ورواندا والأرجنتين، وهو ما يشير إلى إمكانية تحقيق تحول رقمي سريع، سواء خلال مرحلة التعافي الاقتصادي بعد جائحة “كوفيد-19” أو خلال مرحلة التحول طويل الأجل.

ووجدنا بناء على تحليلاتنا أن الاقتصادات النامية الناجحة أعطت الأولوية لعدة تدابير:

  1. تطوير القدرة على الاتصال بالإنترنت عبر الهواتف المحمولة والقدرة على اقتناء الأدوات الرقمية وتطوير جودة الإنترنت لتعزيز عملية التبني على نطاق واسع.
  2. تعزيز البيئات المؤسسية وتطوير القوانين الرقمية.
  3. توليد الاستثمار في المؤسسات الرقمية، وتمويل عمليات البحث والتطوير الرقمي وتدريب المواهب الرقمية والاستفادة من التطبيقات الرقمية لخلق الوظائف.
  4. اتخاذ خطوات للحد من مشكلات عدم المساواة في اقتناء الأدوات الرقمية فيما يرتبط باعتبارات النوع والطبقة والعرق والحدود الجغرافية (على الرغم من استمرار وجود العديد من فجوات الاقتناء).

الاقتصادات المتعثّرة

تتميّز تلك المنطقة باقتصادات تتمتع ببيئات رقمية ناضجة، لكنها تظهر دافعاً أقل لمواصلة التقدم، وتتركز كثير من تلك الاقتصادات في الاتحاد الأوروبي. ومن المحتمل أن يعود سبب ذلك التعثر بشكل جزئي إلى التباطؤ الطبيعي في النمو المقترن بالنضج. فقد اختار العديد من تلك الاقتصادات في تلك المنطقة إبطاء نموها من أجل أن تحقق نمواً شاملاً ومسؤولاً. لكن لا بدّ لتلك البلدان من استعادة حماسها لتحقيق النمو من خلال إعطاء الأولوية لعدة تدابير (دون التضحية بقيمها الأساسية):

  1. حماية اقتصاداتها من “الثغرات الرقمية” من خلال مواصلة الاستثمار في عمليات إرساء القواعد المؤسسية القوية وتطوير البيئات التنظيمية وأسواق رأس المال بهدف دعم عمليات الابتكار المستمرة.
  2. الاستمرار في استخدام أدوات السياسة والتنظيم لضمان الوصول الشامل إلى القدرات الرقمية وحماية جميع المستهلكين من انتهاكات الخصوصية والهجمات الإلكترونية والتهديدات الأخرى (مع مواصلة إتاحة البيانات للتطبيقات الرقمية الجديدة).
  3. جذب المهنيين ذوي المهارات الرقمية وتدريبهم واستبقائهم من خلال تعديل سياسات الهجرة.
  4. تحديد المجالات التكنولوجية المتخصصة الجديدة وتعزيز بيئات العمل الملائمة للابتكار في تلك المجالات.

الاقتصادات المتأخرة

أخيراً، ما يميّز هذه المنطقة التي تضم دولاً من إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وجنوب أوروبا هو أوجه القصور في كل من القدرات الرقمية الحالية ومحفزات تحقيق النمو المستقبلي. ويمكن للبلدان في منطقة الدول المتأخرة أن تقتدي باقتصادات الدول النامية بصفتها نماذج يحتذى بها وباعتبارها مقاييس معيارية حول كيفية استخدام النمو الرقمي كأداة لتعزيز القدرة الاقتصادية على التحمّل. ولا بدّ لاقتصادات الدول المتأخرة، وخاصة تلك التي تولدت لديها احتياجات ناشئة أو مستدامة للتوجه الرقمي أن تُعطي الأولوية لما يلي:

  1. إجراء استثمارات طويلة الأجل لمعالجة فجوات البنية التحتية الأساسية.
  2. خلق بيئة مؤسسية تدعم تبني المستهلكين الآمن والواسع النطاق للمنتجات والخدمات الرقمية، لاسيما تلك التي تتيح تعزيز الإنتاجية وخلق فرص العمل.
  3. تشجيع المبادرات التي تستثمر أموالها في عمليات توفير الخدمات الرقمية إلى شرائح السكان المستضعفة (لاسيما من خلال التعاون بين القطاعين العام والخاص).
  4. الترويج للتطبيقات التي تلبي الاحتياجات الملحة، والتي يمكن اعتبارها محفزات تهدف إلى تبني الأدوات الرقمية على نطاق واسع (مثل منصات الدفع عبر الهواتف المحمولة).

تحليل سجل قياس أداء التطور الرقمي لعام 2020 في ضوء الجائحة

سيكون إجراء تحليل للتوجهات التكنولوجية والاقتصادية العالمية خلال العام الماضي غير مكتمل دون دراسة تأثير جائحة “كوفيد-19” على البلدان. والمثير للاهتمام هو أنه على الرغم من أن درجة التطور الرقمي المرتفعة ترتبط عموماً بقدرة اقتصادية أكبر لتحمل الزعزعة التي أحدثتها الجائحة، لم تكن معياراً يمكن الوثوق به.

وللتعمق في تلك القضية، قارنا درجات التطور الرقمي للبلدان بمعدل انخفاض نمو ناتجها المحلي الإجمالي من الربع الثاني من عام 2019 إلى الربع الثاني من عام 2020 (والذي جرى تعديله بحسب معدل التضخم). وكما هو متوقع، وجدنا بشكل عام أن مستوى التطور الرقمي ساعد في تفسير ما لا يقل عن 20% من قدرة البلاد الاقتصادية على التحمل في مواجهة التأثير الاقتصادي للجائحة أو التقليل من تأثيرها. وتأتي تدابير التقليل من التأثير الاقتصادي للجائحة من عدة مصادر: على سبيل المثال، تستمدّ الاقتصادات الأكثر تطوراً من الناحية الرقمية حصة كبيرة من ناتجها المحلي الإجمالي من قطاعات التكنولوجيا المتقدمة التي يمكن لقوة العمل فيها الانتقال إلى نظام العمل عن بُعد بسهولة كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، تتفوّق الاقتصادات المتطورة من الناحية الرقمية في مجال تقديم الخدمات العامة عبر الإنترنت بسبب بنيتها التحتية المتميّزة، والخبرة في التحول الرقمي في معظم شركات القطاع العام، وإتاحة الإنترنت بأسعار معقولة. وقد استفادت بعض الاقتصادات حتى من مستوى تطورها الرقمي المتفوق لتقصّي هوية الأشخاص المخالطين وتحديد نسبة احتمال التعرض للفيروس وجمع البيانات وإرسال رسائل الصحة العامة التي قللت بشكل كبير من الزعزعات الاقتصادية (وتُعتبر اقتصادات كوريا الجنوبية وتايوان من الأمثلة البارزة في ذلك الصدد).

ومع ذلك، لم يكن تأثير الجائحة على البلدان عالمياً، فقد سجّلت فيتنام درجات منخفضة في سجل قياس أداء التطور الرقمي، لكن تأثير الجائحة على اقتصادها بقي أقل من المتوقع. وتُعتبر فيتنام الدولة الوحيدة في جنوب شرق آسيا التي تمكّنت من المضي في المسار الصحيح فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي هذا العام، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الحكومة كانت قادرة على إبقاء الفيروس تحت السيطرة من خلال وضع إجراءات استباقية صارمة. بالإضافة إلى ذلك، ساعدت الطفرة الاقتصادية الأخيرة التي تمثّلت في توجّه قطاع التصنيع في الصين إلى السوق الفيتنامية ذات الأسعار المنخفضة أيضاً في الحفاظ على نمو دولة فيتنام الاقتصادي في ظل الأزمة.

من جهة أخرى، وجدنا أن المملكة المتحدة التي تتمتّع باقتصاد متطور جداً من الناحية الرقمية قد شهدت تراجعاً اقتصادياً مماثلاً للتراجع الاقتصادي للهند أو رواندا. كانت استجابة الحكومة للجائحة أقل من المستوى الأمثل، كما تسببت تركيبة الاقتصاد البريطاني أيضاً في زيادة معاناة الدولة من تدابير التباعد الاجتماعي والإغلاق العام مقارنة بدول أخرى. تشكل الخدمات (التي تعتمد على الأنشطة الشخصية بشكل مفرط) حوالي ثلاثة أرباع اقتصاد المملكة المتحدة، ويأتي 10.9% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد من قطاع السفر والسياحة، وهي أنشطة جرى تقليصها إلى حد كبير نتيجة متطلبات التباعد الاجتماعي.

بشكل عام، يُعدّ التطور الرقمي مساهماً أساسياً في قدرة البلاد الاقتصادية على التحمل، لكنه ليس الحل الشامل أيضاً، إذ يمكن لاستجابة الحكومة لجائحة “كوفيد”، إضافة إلى التكوين الفريد لاقتصادها أن يحدث فارقاً كبيراً.

وبعيداً عن تأثير الجائحة، يوضّح ذلك التحليل أيضاً العديد من التوجهات طويلة الأجل حول كيفية سعي البلدان الأكثر نجاحاً إلى تحقيق التطور الرقمي:

1. زيادة خصوصية البيانات، وتقليل القوانين الحمائية لها

تزيد الاقتصادات التي توفر تجارب رقمية وآمنة وخالية من الاحتكاك من تفاعل المستهلكين وثقتهم، وهو ما يخلق بيئات عمل رقمية فاعلة تولّد بدورها مزيداً من البيانات التي تعد شريان الحياة للاقتصاد الرقمي التنافسي، وهو ما يتيح دورة نمو محمودة. ويتجلى ذلك النهج بوضوح في اقتصادات مثل سنغافورة واليابان وكندا وهولندا التي توفر مزيجاً من تدفقات البيانات المفتوحة ونظام حماية قوي لخصوصية البيانات.

في الوقت نفسه، تُمثّل اقتصادات مثل الصين وروسيا وإيران والمملكة العربية السعودية تناقضاً، فعلى الرغم من احتمال أن يُسفر الاستثمار الحكومي الكبير وتحكم تلك البلاد في بيئات العمل الرقمية عن دافع أكبر لتحقيق التنمية الرقمية، تُعرقل تلك الاقتصادات عمليات التدفق الحر للبيانات، وهو ما يؤدي إلى ضياع فرص تعزيز محفزات النمو من خلال المنتجات والتطبيقات الرقمية التي يعتمد تبنيها على توفير البيانات على نطاق واسع. كما تحد الشعبية المتزايدة لقوانين توطين البيانات (أي القوانين التي تحد من نقل البيانات عبر الحدود الدولية) من إمكانية جعلها متاحة للجميع في النهاية، وهو الأمر الذي يُعيق النمو العالمي ويقوّض القدرة التنافسية للبلدان من خلال زيادة تكاليف الأعمال الرقمية والحد من المنافسة وتشجيع السلوك الريعي بين الجهات المحلية الفاعلة.

ويتمثّل الحل الرئيس لمواجهة تلك التحديات في أن يبدأ صانعو السياسات بفهم قيمة ما نطلق عليه “الناتج المحلي الإجمالي الجديد“، بمعنى آخر، إجمالي ناتج البيانات، وقياسها ومراقبتها. يمكن لتلك الاقتصادات أن تبدأ في إطلاق العنان لقيمتها الكاملة من خلال تشجيع تدفق البيانات المفتوحة مع توفير تدابير حماية كافية لخصوصية مواطنيها بمجرد أن تبدأ في فهم قيمة الناتج المحلي الإجمالي الجديد.

2. الوصول إلى الإنترنت عبر الهواتف المحمولة ضروري، لكنه ليس كافياً.

كان الوصول إلى الإنترنت عبر الهواتف المحمولة دافعاً قوياً لتنمية اقتصادات الدول النامية، وهو أسرع طريق للوصول إلى ثلث سكان العالم الذين لا يتوفر لديهم أي اتصال بالإنترنت حتى اليوم. وتُعتبر الهند أبرز مثال على ذلك، إذ تضاعف اتصال مواطنيها بالإنترنت في السنوات الأربع الماضية، وتعتزم الحكومة إضافة 350 مليون هاتف ذكي بحلول عام 2023.

ومع ذلك، تمثّل الهواتف المحمولة الخطوة الأولى في نشر مزايا الرقمنة. وكانت الجائحة أبرز مثال على أن جودة الاتصال بالإنترنت (على سبيل المثال، النطاق العريض الموثوق به مقابل اتصالات الأقمار الصناعية المتقطعة) وجودة الأجهزة (أي أجهزة الكمبيوتر المحمولة والأجهزة اللوحية المخصصة للتعلم والعمل مقابل الهواتف المحمولة منخفضة الجودة) هي عناصر أساسية لتحقيق القدرة الاقتصادية على التحمل في ظل الاعتماد الشديد على التقنيات الرقمية. على سبيل المثال، اضطر العديد من الأطفال في الهند إلى اللجوء إلى تطبيق “واتساب” للتواصل مع معلميهم بعد أن أسفرت الجائحة عن إيقاف نظام التعليم وجهاً لوجه. وعلى الرغم من أن تطبيق المراسلة كان أفضل من لا شيء بالتأكيد، أسفر النمو المحدود لبيئة العمل الرقمية في الهند بعيداً عن الهواتف المحمولة إلى تفاوتات كبيرة في الوصول إلى التعليم الأساسي.

وبالنظر إلى تلك الاعتبارات، من الأفضل للاقتصادات الأقل تقدماً من الناحية الرقمية التركيز على تحسين الاتصال بالإنترنت عبر الهواتف المحمولة بأسعار معقولة، دون أن تتغاضى عن الحاجة إلى الاستثمار في أجهزة أفضل واتصال أسرع وأكثر موثوقية بالإنترنت. وقد ساهمت تلك الاستراتيجية في تعزيز محفزات النمو التي أظهرتها اقتصادات منطقة الدول النامية مثل كينيا والهند وفيتنام. وبالطبع، تتصدر الصين المجموعة عالمياً عندما يتعلق الأمر بتبني الأجهزة المحمولة، وذلك بفضل مزيج من الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية لشبكة “4 جي” وسوق الأجهزة المحمولة التنافسية بما في ذلك “شاومي” و”أوبو” (Oppo) و”هواوي” و”فيفو” (Vivo).

وعلى الرغم من أن الاستثمار في الهواتف المحمولة يمثّل خطوة أولى رائعة للاقتصادات الحالية التي تتمتّع ببنية تحتية رقمية محدودة، يجب على صانعي السياسات السعي إلى توسيع نطاق تركيزهم بما يتجاوز زيادة عدد الأجهزة المحمولة، وإدراك أن تحقيق النمو على المدى الطويل سيعتمد على جودة الاتصال بالإنترنت والأجهزة، وتجربة المستهلك بشكل عام.

3. المقايضة بين الابتكار والشمول.

تواجه الاقتصادات التي تتمكّن من الوصول إلى مستوى أعلى من التطور الرقمي مشكلة الاختيار بين الحفاظ على دافع التنمية السريع وبين تعزيز المؤسسات التي تعطي الأولوية للشمول الرقمي، أي التوزيع العادل للتنمية الرقمية ضمن اعتبارات الطبقة والنوع والعرق والجغرافيا. وعلى الرغم من قدرة الاقتصادات الأصغر مثل سنغافورة وإستونيا على الحفاظ على ميزتها الابتكارية وضمان توفير بيئة رقمية شاملة، فقد تواجه الاقتصادات الأكبر والأكثر تعقيداً صعوبات في تحقيق التوازن بين الابتكار والبيروقراطية اللازمة لتنظيم عمليات الابتكار تلك بروح من المسؤولية.

على سبيل المثال، تحتل الاقتصادات الأوروبية التي يقع معظمها في منطقة “الدول المتعثرة” 6 مراكز من المراكز العشرة الأولى في مؤشر الشمول الرقمي الذي طورناه. كانت تلك الاقتصادات رائدة في وضع السياسات العامة الشاملة، مثل ضمان توفير الاتصال بالإنترنت بأسعار معقولة، وتوفير التقنيات المساعدة لذوي الهمم، والاستثمار في المهارات الرقمية للعمال، كما أنها تحتل الصدارة في تطوير قوانين خاصة بإدارة البيانات والخصوصية. وأصبحت العديد من تلك المبادرات معياراً لبقية العالم بحق، إلا أن التركيز على الشمول أدى إلى إبطاء وتيرة التطور الرقمي الجديد في العديد من تلك الاقتصادات. قد تستحق تلك المقايضات عناء تجربتها بالفعل، إلا أن فهم تأثير تلك المقايضات المحتمل على دافع التنمية الرقمية قد يمكّن الحكومات والمواطنين من وضع خطط أفضل.

يوجد الكثير من الدروس التي يمكن لصانعي قرار كل دولة تعلّمها من مواقع اقتصاداتهم في سجل قياس أداء التطور الرقمي لعام 2020. ويمكنهم التعلم من البلدان الأخرى بصفتها مقاييس معيارية أو نماذج يحتذى بها أو حتى قصص تحذيرية. على سبيل المثال، أنشأت كل من سنغافورة وإستونيا وتايوان والإمارات العربية المتحدة بيئات عمل رقمية فاعلة وداعمة من خلال تطوير مجموعة من المؤسسات القوية وتركيز الاستثمار على عمليات جذب رؤوس الأموال والمواهب العالمية. وقد نجحت في الاستفادة من نقاط القوة الرقمية تلك للتكيف مع تحديات الجائحة، وهو ما يدل على أهمية التنمية الرقمية في تطوير القدرة الاقتصادية على التحمل. وعلى الرغم من صغر حجم تلك الاقتصادات، تمثّل نماذج يُحتذى بها للقادة في جميع أنحاء العالم.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للاقتصادات الكبيرة التي تتمتع بدوافع كبيرة لتحقيق التنمية الرقمية مثل الصين والهند وإندونيسيا أن تكون قدوة للاقتصادات النامية الكبيرة الأخرى، مثل البرازيل ونيجيريا، التي قد تتطلع إلى زيادة قدرتها على تحقيق التنمية الرقمية في السنوات القادمة. ويمكن للاقتصادات النامية الأصغر أن تقتدي بدول “القفزات” متوسطة الحجم مثل كينيا وفيتنام وبنغلاديش ورواندا والأرجنتين لفهم مدى فاعلية الدافع لتحقيق التنمية الرقمية في تحويل الاقتصاد بسرعة.

لا توجد حلول تناسب الجميع فيما يتعلق بالتطور الرقمي. فكل بلد فريد من نوعه، كما أن العوامل التي تُمكّن اقتصاداً ما من النجاح قد تكون غير مناسبة في بلد آخر. لكن على الرغم من تلك القيود، لا يزال بإمكان سجل قياس أداء التطور الرقمي لعام 2020 توضيح الوضع الحالي لكل من التطور الرقمي والدافع لتحقيق التنمية الرقمية حول العالم، بالإضافة إلى تأثير ذلك التطور الرقمي على استجابات البلدان للجائحة. كما أن إلقاء نظرة ثاقبة حول كيفية أداء دول العالم (وخيارات السياسة التي ساعدتها في الوصول إلى ما هي عليه اليوم) ما هو إلا الخطوة الأولى لأي شخص مهتم بتعزيز النمو الرقمي والمرونة الاقتصادية في مجتمعه وفي جميع أنحاء العالم.

المؤلفون ممتنون لغريفين بروير وكريستينا فيليبوفيتش وفريق “ديجيتال بلانيت” في “كلية فليتشر” وبول ترومان من شركة “ماستركارد”.

ملاحظة المحرر: تعتبر جميع الترتيبات والمؤشرات مجرد وسيلة واحدة من وسائل التحليل والمقارنة بين الشركات أو الأماكن بناء على منهجية محددة ومجموعة من البيانات. ونحن في “هارفارد بزنس ريفيو“، نرى أن المؤشر المصمم جيداً يمكنه تقديم إيضاحات مفيدة، غير أنه، بحكم طبيعته، يعتبر لمحة موجزة من صورة أكبر. لذلك نحث القارئ دائماً على قراءة المنهجية بعناية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .