إن الأوضاع الراهنة تتميز بشدة تأثيرها على معظم شعوب العالم وبوطأة قل نظيرها في التاريخ المعاصر. فها نحن نتعرض لجائحة عاتية، ونواجه احتمالاً متصاعداً لانهيار اقتصادي ومالي، ونعاني من أزمة حوكمة في العديد من البلدان. علاوة على ذلك، فإن هذا الاضطراب الهائل يتفاقم بسبب حالة عامة من الارتباك المعرفي.
لقد تنبأ الكثيرون بتراجع الاقتصاد ولكن نادراً ما توقعوا انهياراً بهذا الحجم، تمتد تداعياته على كافة شرائح المجتمع ويتحمل وزره كل من الأفراد والشركات والحكومات على حد سواء، وهذا ما يجعلنا بحاجة إلى مجتمعات مرنة تتمحور حول المواطن.
في هذا السياق، يتوقع صندوق النقد الدولي أن يتسبب مرض "كوفيد-19" في خسائر تراكمية للناتج المحلي الإجمالي العالمي بقيمة 9 تريليون دولار أميركي في عامي 2020 و2021. وهذا المبلغ أكبر من اقتصادي اليابان وألمانيا مجتمعين.
على الرغم من ذلك، وفي ظل الظروف العسيرة، يمكننا بلورة خريطة طريق لمستقبل أفضل إذا كرسنا الوقت لفهم قيود النموذج الحالي والتعلم منها. بذلك يصبح بإمكاننا الاستفادة من الصدمات مهما اشتدت واستخدامها كحجر أساس لبناء عقد اجتماعي جديد يتمحور حول المواطن ويتميز بمرونة تمكنه من التصدي لأقصى الصعوبات وأشد التحديات.
مسألة ذات شقين
تحتكم الطبيعة المعقدة لعالمنا إلى العديد من المتغيرات، وتخضع لمعايير شتى. لكن هناك معيارين أساسيين يمكن تمييزهما دون غيرهما، ألا وهما:
1- الحاجة إلى الثقة
2- القدرة على التحمل (مرونة امتصاص الصدمات)
يتبدى المعيار الأول بصورة جلية في هياكل الحوكمة التي تتسم بمركزية حادة. أما المعيار الثاني فهو محايد لطبيعة الهيكل بحيث أن تأثيره يتركز حول استمرارية القواعد الاجتماعية والاقتصادية لنظام مهما كانت طبيعته.
الحاجة إلى الثقة: تفضل نخبة من صانعي السياسات وشريحة كبيرة من الشركات الرائدة تطبيق مبدأ تركيز سلطة صناعة القرار في سياق حوكمة ذات طابع مركزي. غالباً ما يعللون ذلك بذكر مزايا النماذج المركزية التي من شأنها رفع الفعالية وخفض التكلفة. إلا أن الدعوة إلى مزيد من التركيز تعني أنهم يفترضون ضمنياً أن المواطنين والمستهلكين يثقون بقدراتهم لتوفير أفضل الخدمات.
تتميز الحوكمة المركزية بوجود نقطة عطل مفردة (Single Point Of Failure)، الأمر الذي يتطلب من الجميع الثقة في قدرة السلطة المركزية على تلافي الفشل في كل حين. ويتسم نموذج الحوكمة السائد بدرجة عالية من المركزية وذلك على كافة المستويات المجتمعية. فعلى المستوى الحكومي، تتعزز المركزية بكثافة التشريعات التنظيمية واحتكار منح "الحق في المشاركة" و"الحق في الفوز". أما على مستوى الشركات فتتجلى في التركيز الجغرافي لسلسلة التوريد وحصرها في المدن التي تقل بها تكاليف الإنتاج.
يعتبر الحل الداعي إلى توافر الثقة المطلقة بعيد المنال، إذ إنه استعصى على أي فئة إلهام الثقة التامة في كفاءتها الإدارية. بناء على ذلك، أي منهجية أكثر واقعية من شأنها أن تسعى إلى تقليل الحاجة إلى الثقة. ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن تبدأ مختلف الجهات في اعتماد مزايا اللامركزية خاصة وأن وجود نقطة عطل مفردة في الأنظمة المركزية قد تؤدي الى تداعيات خطيرة. على سبيل المثال، يمكن أن تصاب سلاسل التوريد القائمة على المركزية الجغرافية بأضرار عنيفة في حال وقوع كوارث طبيعية على نحو ما جرى في زلزال وتسونامي في اليابان عام 2011. في المقارنة، عندما زاد الطلب العالمي على الكمامات الطبية نتيجة تفشي جائحة "كوفيد-19"، أظهرت شبكات الموردين اللامركزيين مرونة كافية لمعالجة النقص.
القدرة على التحمل: في جوهره يحمل مفهوم القدرة على التحمل طابعاً زمنياً، إذ إن أي نظام تنطبق عليه هذه السمة هو نظام قادر على تحمل الاضطرابات الشديدة على مر السنين. بحكم ذلك، فإن بناء هيكل مرن يتطلب التركيز على المدى الطويل وليس القصير.
أدى التركيز على الأرباح قصيرة الأجل إلى نموذج عمل وهيكل حوافز ضار بالمؤسسات. فقد شجع هذا النموذج تبني سلوكاً يقلل من أهمية الحاجة إلى التخطيط تحسباً لوقوع طوارئ سلبية. على سبيل المثال، يمكننا أن ننظر إلى إقبال الكثير من الشركات الأميركية على إعادة شراء الأسهم بصورة جماعية. لقد أدى الانخراط في هذه الممارسة على مدى السنوات العشر الماضية إلى ارتفاع أسعار الأسهم بصورة مستمرة وإيهام المراقبين بأن أداء هذه الشركات جدير بالثناء. في الواقع، فضل المسؤولون اتباع أوجز الطرق لتحقيق المكاسب بدلاً من تخصيص التدفق النقدي الحر لتعزيز الإنتاجية أو للتخطيط للطوارئ.
إضافة إلى هيكل حوافز طويل الأجل،يتطلب النموذج المرن توافر بنية تحتية نقدية سليمة. منذ عام 2008، ساهمت مختلف المحفزات الأميركية في زيادة المعروض النقدي من خلال عدة جولات من "التيسير الكمي" (Quantitative Easing). يمكن أن تشكل عملية طباعة العملة محفزاً اقتصادياً على المدى القصير، إلا أن عواقب طباعتها بشكل دائم قد تكون مدمرة على المدى الطويل.
فمن ناحية، يمكن أن تؤدي إلى تضخم شديد والجدير بالذكر أن الدولار الأميركي فقد أكثر من 96% من قيمته الشرائية منذ إنشاء نظام الاحتياطي الفيدرالي عام 1913. من ناحية أخرى، فهي في شكلها الحالي تمنح الامتيازات لشريحة صغيرة من الكيانات الاقتصادية على حساب غيرها. يبدو ذلك جلياً من خلال الجولة الأخيرة من حوافز بنك الاحتياطي الفيدرالي للولايات المتحدة، والتي تقدر بتريليونات الدولارات، حيث عانت عدة شركات صغيرة من صعوبات للحصول على جزء من القروض المخصصة لها نتيجة انعدام فعالية قنوات التواصل. في المقابل، تستفيد الكيانات الكبرى من إمكانية الحصول على السيولة بسلاسة. بالتالي تمهد هذه المحسوبية الطريق إلى تفاوتات كبيرة تؤدي إلى إيذاء الشركات الصغيرة والمتوسطة وإعاقة دورها في تغذية الاقتصاد.
نعيش في عالم بالغ التعقيد يستحيل فيه التنبؤ بالأحداث السلبية. تقتضي الحكمة إذاً الحفاظ على بوليصة تأمين مستمرة، الأمر الذي يمكن تحقيقه من خلال تضمين المرونة وتقليص الحاجة إلى الاعتماد على الثقة بغية تخفيف حدة العواقب السلبية عند حدوثها. وتميل الدول التي تحتل مرتبة متقدمة في "مؤشر مرونة العمل العالمي" (GLRI) إلى التركيز على مبادرات طويلة الأجل لإحداث تحوّلات جذرية في اقتصاداتها.
نموذج جديد بعد "كوفيد-19": مجتمعات تتمحور حول المواطن
في خضم الأزمة الحالية، يجب على الحكومات إعادة النظر في أسلوب عملها والالتزام بأعلى معايير الشرف في خدمة مواطنيها. وعلى النموذج الجديد أن يعالج الأسباب الجذرية للأزمة التي نشأت نتيجة الاعتماد المفرط على الثقة وندرة القدرة على التحمل وشيوع منهجية تحقيق المكاسب السريعة.
يتضمن الشكل 1 أدناه أربعة نماذج. يتوافق الربع السفلي الأيمن مع الأنظمة التي تخضع لرقابة إدارية صارمة والتي تعاني من مرونة منخفضة في مواجهة الضغوط والتحديات.
الشكل 1. المسار المتبع لبناء مجتمعات تتمحور حول المواطن
الشكل 1. المسار المتبع لبناء مجتمعات تتمحور حول المواطن
المصدر: "وايتشيلد بارتنرز" (Whiteshield Partners)
يمكن للدول الواقعة في الربع السفلي الأيمن اتباع مسارات مختلفة نحو مجتمع يتمحور حول المواطن:
1- وقائع مترابطة: في هذا النموذج، تطبق الدولة حوكمة اللامركزية وتحد من تدخلها في الشؤون الداخلية للمحافظات والبلديات. وفيها تعمل المدن والمناطق على تمكين سياساتها المحلية من خلال تعزيز الابتكار ودعم الشركات الناشئة والاستثمار في صقل مهارات مواطنيها وتدريبهم. ومن أبرز أمثلتها: فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة.
2- الاقتصادات المدارة: تحافظ الدولة على الحوكمة المركزية، لكنها تطبق العديد من الضوابط والتوازنات لضمان سن سياسات طويلة الأجل وتحديد أولويات الأهداف الاجتماعية والاقتصادية. ومن أبرز أمثلتها: الهند وإندونيسيا وبدرجة أقل المملكة المتحدة وأيرلندا.
3- مجتمعات تتمحور حول المواطن: تطبق هذه المجتمعات حوكمة اللامركزية وتتسم بمرونة عالية ومشاركة فعالة للمواطنين. من أبرز أمثلتها: سويسرا ودول شمال أوروبا وبدرجة أقل دول اتحاد البنلوكس (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ).
تفوقت سويسرا على سنغافورة هذا العام في مجال مرونة العمل وفق مؤشر مرونة العمل العالمي. فقد رفعت سقف الإنفاق على التعليم وقلصت فارق الأجور بين الجنسين وخففت الأثر السلبي للضرائب على العاملين. وتعتبر أيضاً رائدة في مجال الابتكار، حيث احتلت المركز الأول بين أفضل عشر دول دخلت عصر الثورة الصناعية الرابعة.
سويسرا لها هيكل اقتصادي معقد يركز بشكل كبير على النمو الأخضر والحوكمة اللامركزية بما في ذلك الاستقلال المالي والإداري للحكومات المحلية. تحتل البلاد المرتبة الثانية في مؤشر تقارب الحوكمة الصادر عن "البنك الدولي" (World Bank Governance Closeness Index).
على الرغم من إمكانية تباين تفاصيل تطبيق مسار "تمكين المواطن"، فإن تنفيذه يجب أن يسترشد بعدد من مبادئ التصميم:
1- الحد من مركزية الحوكمة: هناك حاجة إلى تقليص مركزية صناعة القرار المالي والسياسي من أجل تمكين الجهات الفاعلة على المستوى المحلي. فهذا من شأنه أن يقلل الاعتماد على الحكومة المركزية وعلى الحاجة إلى الثقة في قدرتها على توزيع الموارد وتنفيذ السياسات العامة بكفاءة. إضافة إلى ذلك، فإن هيكلاً كهذا بوسعه تيسير المشاركة الاستباقية للمواطنين والشركات في تصميم وتنفيذ السياسات ذات الصلة.
2- المزيد من التنويع في سلسلة التوريد: يجب على الشركات إعادة النظر في مستوى مركزية سلاسل التوريد الخاصة بها. فقد ثبت أن الأساليب الإدارية التي يقتصر تركيزها على خفض التكلفة تقف عاجزة عن الصمود في وجه الأحداث العنيفة، وقد برهنت جائحة "كوفيد-19" على أهمية التخطيط للطوارئ والحاجة إلى فائض في المعروض لضمان استمرارية العمل دون انقطاع.
3- دمج التقنيات التكنولوجية بفعالية أكبر: تستطيع الحكومات تعزيز مستويات القدرة على التحمل بعدة طرق. تتمثل إحداها في سن سياسات تحد من المعوقات التي تعرقل الابتكار، إذ تستطيع الحكومات تحفيز التدفق المستمر للحلول المبتكرة استعداداً لأي نقص، وذلك من خلال تعزيز التزامها تجاه الشركات الناشئة والشركات الصغيرة على المستوى المحلي. وقد برهنت جائحة "كوفيد-19" على سبيل المثال، على أهمية هذه الابتكارات للتغلب على نقص أقنعة الأكسجين في بعض المستشفيات.
4- مراجعة معايير السياسة: يجب على السياسات العامة المتعلقة مثلاً بالعمل والتعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية أن تركز على المواطن، آخذة بعين الاعتبار معايير كمستوى الدخل والرفاهية المتاحة بدلاً من مقاييس وطنية بحتة ومؤشرات الاقتصاد الكلي.
5- تمويل المستقبل: يتسبب النظام النقدي الحالي في دفع المؤسسات الاقتصادية إلى تبني معدل تفضيل زمني عالي (High Time Preference) والذي يعطي قيمة أكبر للسلع والخدمات التي يتم تلقيها في وقت مبكر مقارنة بتلك التي تأتي لاحقاً. يدفع هذا النظام المواطنين إلى الإنفاق اليوم بدلاً من الادخار لأن قيمة مدخراتهم ستنخفض مع مرور الوقت.
إن صميم هذه الدينامية هو حالة التضخم المستمرة التي تغذيها القدرة على طباعة العملة حسبما يتراءى للجهات المسؤولة. وبقراءة أحداث الماضي، يثبت لنا أن مثل هذه الإجراءات يمكن أن تحقق أثراً إيجابياً على المدى القصير، ولكنها تترك أثراً مدمراً على المدى الطويل. فقد تعرضت العملة الذهبية والفضية للإمبراطورية الرومانية على سبيل المثال للتدهور المستمر وهو ما أسهم في انهيارها في نهاية المطاف.
إذا أرادت الحكومات أن تسلك مساراً نحو نظام أكثر مرونة وقدرة على التحمل، فعليها أن تعيد النظر في فاعلية العملات الحديثة على الرغم من صعوبة هذه المهمة ومنافاتها للأعراف المعمول بها. كما يجب أن يؤدي هذا التمرين إلى اعتماد نموذج أكثر متانة يحول التفضيلات الزمنية من مستويات عالية إلى أخرى منخفضة ويشجع المؤسسات الاقتصادية على الاستثمار في المشاريع المنتجة على المدى الطويل.
6- تبديل الأفق الزمني: أدى التركيز على الأرباح قصيرة الأجل إلى إعطاء الأهمية الكبرى لمالكي الأسهم في الشركات على حساب باقي الأطراف من أصحاب المصلحة. علاوة على ذلك، فإن الاضطرابات التي لحقت بالاقتصاد العالمي هي إلى حد ما نتيجة للديون المفرطة المتاحة لفئة محددة من المدينين دون تداعيات حقيقية في حالة التخلف عن السداد، خاصة و أن الشركات الكبيرة قد اعتادت الاتكال على تدخل حكومي لإنقاذها في حال باتت على شفير الإعسار. يجب إذاً استبدال هيكل الحوافز السائد بآخر أكثر شمولاً يرتكز على مؤشرات أداء طويلة الأجل.
خاتمة
إن التطور المتسارع للأحداث العالمية يدعو إلى نقلة نوعية في طريقة تصميم العقود الاجتماعية. فعلى النموذج الجديد أن يقلص الاعتماد على الثقة و أن يعزز قدرته على امتصاص الصدمات من خلال تمكين كافة مكوناته. من أجل تحقيق هذه الغاية، يترتب على الحكومات إجراء العديد من التغييرات بما فيها إنشاء هياكل الحوكمة اللامركزية واعتماد المزيد من التنويع في سلسلة التوريد وصياغة سياسات تشجع الابتكار وتمهد الطريق لتبنيه.
وفي سياق تقدمها نحو مجتمعات تتمحور حول المواطن، يجب على الحكومات مراجعة معايير السياسات وإعطاء الأولوية للأهداف والمؤشرات التي تركز على المواطن.
أخيراً، إن مدى مرونة النموذج الجديد يرتكز بشكل أساسي على رغبة وقدرة الحكومات على تأسيس قواعد صلبة لعملة سليمة وقوية (Sound Money) وعلى استعدادها لتعديل مؤشرات الأداء وفق أفق زمني أطول.