ملخص: اعتاد مجتمعنا على اعتبار العمل أمراً يجب علينا تحمله في سبيل الحصول على المال الذي يعيننا على فعل أمر آخر. يوضح الرئيس التنفيذي السابق لشركة "بيست باي" ما يجعل هذا النموذج سبباً لأزمة الاندماج في العمل المنتشرة بين القادة والموظفين على حد سواء، ويقدم نموذجاً مختلفاً اعتمده عندما كان على رأس عمله: مهما كانت الوظيفة التي تشغلها، يمكنك، بل حريّ بك، أن تختار النظر إلى العمل على أنه عنصر أساسي من إنسانيتك ودليل في بحثك عن "ما يعنيه العمل بالنسبة لك" وسبيل للوصول إلى الرضا في حياتك. تترافق وجهة النظر هذه مع 3 خطوات يتعين على قادة الشركات اتباعها: 1) يجدر بهم العثور على غايتهم الشخصية. 2) يجدر بهم قيادة موظفيهم ليعثروا بدورهم على غاياتهم الشخصية. 3) يجدر بهم مساعدة موظفيهم على ربط غاياتهم الشخصية بغاية الشركة الأشمل.
عندما كنت فتى يافعاً عملت في عطلة الصيف لدى متجر بقالة، كنت أقضي يومي كله في إخراج علب الخضار من الصناديق وألصق السعر عليها وأضعها على الأرفف مرة تلو المرة تلو المرة. كنت أشعر أن كلّ دقيقة تستمر من دون نهاية، ولم أكن أتواصل مع أي زبون ولا أكاد أرى مديراً.
ثم حالفني الحظ؛ صدمتني رافعة شوكية خلف المتجر، وبفضل الكدمات في ظهري حصلت على إجازة مدفوعة الأجر حتى نهاية الصيف. بما أن السبب الوحيد الذي دفعني للقبول بهذه الوظيفة هو جني المال من أجل شراء دراجة هوائية جديدة، فقد شعرت بسعادة غامرة!
ولكن بالطبع، ثمة مشكلة في هذه القصة. هل العمل حقاً هو أمر يجب علينا تحمله في سبيل الحصول على المال الذي يعيننا على فعل أمر آخر، كركوب دراجة هوائية؟ أم أنه ينطوي على أكثر من ذلك؟ لماذا نعمل؟
أعتقد أن هذا السؤال يلقي تبعات جوهرية على قادة الشركات، كما وضحت في كتابي الأخير "قلب الأعمال" (The Heart of Business). يؤثر الجواب الذي يقدمه كل منا على سلوكه تجاه العمل ومدى عزمه على الاهتمام فيه كفرد، وبالتالي فهو يؤثر في نجاحه ونجاح شركته. وبناء على عملي رئيساً تنفيذياً في شركة "بيست باي" بعد أعوام كثيرة من الحادثة التي مررت بها في متجر البقالة، شهدت بأم عيني كيف يؤدي إدراك القيمة الإنسانية الجوهرية للعمل إلى زيادة سعادة الموظفين وصحتهم وترسيخ الشركة وإنجاحها في أوقات الرخاء والأزمات على حد سواء. ومع مواجهتنا اليوم لأزمات معقدة صحية واجتماعية واقتصادية وبيئية، فإن ارتباطنا الوثيق بالجواب الإيجابي عن السؤال المطروح حول دوافعنا في العمل له أهمية أكبر من أي وقت مضى.
لكن الأجوبة المتشائمة عن هذا السؤال لها جذور عميقة في ثقافتنا؛ فالمفهوم الذي يعتبر العمل واجباً أو لعنة أو عقوبة قديم قدم العصور الإغريقية، واستمر حتى الثورة الصناعية ولا يزال يؤثر في نظرة المجتمع وشعوره تجاه العالم المهني اليوم. يعتبِر هذا المفهوم العمل في أفضل حالاته وسيلة للوصول إلى هدف محدد؛ جني بعض المال من أجل تسديد الفواتير (أو شراء دراجة هوائية جديدة) والسفر في العطلات والتقاعد. لا عجب أن أكثر من 8 من كل 10 موظفين لا يشعرون بالاندماج بالعمل، في حين يشعر به أقل من ربع المسؤولين التنفيذيين في المناصب التنفيذية العليا أو في مستوى نائب الرئيس فقط. وعلى الرغم من تغير طبيعة العمل الذي كان مجهداً بدنياً وذهنياً وتحوله إلى عمل مرن وإبداعي لا يستدعي نفس القدر من الجهد البدني، فهذه النظرة غير الملهمة إلى العمل لا تزال سائدة.
تبعات هذا الواقع مأساوية؛ تدل نظرة الموظف إلى العمل على مقدار ما يبذله من جهد وطاقة فيه، وبما أن القادة لا ينتبهون إلى هذا الرابط ولا يفكرون فيه، فالكثير من إمكانات الموظفين لا تزال غير محققة، وهذه خسارة من الناحية الإنسانية. ولكنها أيضاً خسارة في الإمكانات الاقتصادية غير المحققة، إذ قدّرت تكاليف وباء عدم الاندماج هذا بمبلغ باهظ يصل إلى 7 تريليونات دولار على شكل إنتاجية مهدرة. تشهد وحدات العمل التي تتمتع بأعلى معدلات الاندماج إنتاجية أعلى بنسبة 17% وقدرة على توليد الأرباح أعلى بنسبة 21% مقارنة بالوحدات التي تشهد أدنى معدلات الاندماج، كما تنعكس الزيادة في معدلات اندماج الموظفين وسعادتهم بصورة مباشرة على صافي المبيعات وسعر السهم. تخيل ما يمكن تحقيقه إذا كان أكثر من 80% من الموظفين يبذلون أفضل جهودهم بدلاً من النسبة الحالية التي تقل عن 20%.
هذا المقال هو جزء من سلسلة "الضرورات الإنسانية" التي يدور حولها مؤتمر "بيتر دراكر" العالمي الثالث عشر. يمكنك الاطلاع على برنامج المؤتمر من هنا.
كيف يمكن تحقيق ذلك؟ تتمثل نقطة البدء من تغيير نظرتنا إلى العمل. سواء كنا نتحدث عن العمل اليدوي أو الإبداعي، بدلاً من النظر إلى العمل على أنه واجب أو لعنة يمكننا اختيار النظر إليه من منظور شعوري الشخصي تجاهه: العمل عنصر أساسي من إنسانيتنا ودليل في بحثنا عن المعنى كأفراد وسبيل للوصول إلى الرضا في حياتنا.
لهذه النظرة جذور قديمة في ثقافتنا أيضاً، ولربما كانت مهيمنة بنفس قدر هيمنة النظرة المتشائمة. يصف الشاعر خليل جبران ببلاغة العمل على أنه تجسيد مرئي للحب، كما تعتبره الأديان طريقة لمساعدة الآخرين وعبادة الله، ويقول عالم النفس فيكتور فرانكل إن العمل الذي يخدم غاية أسمى هو جزء جوهري من بحثنا عن الهدف والرضا.
قد تقول إن هذا ممكن في العمل الإبداعي، لكن هل من الممكن أن تكون جميع أنواع العمل هادفة؟ أنا متيقن من ذلك. عندما أتذكر وظيفتي المملة في فصل الصيف أقارنها بسلسلة متاجر البقالة "ويغمانز" الشهيرة بخدمتها وموظفيها الذين يتمتعون بدرجة عالية من الاندماج، أو بقصة عاملَي البناء في العصور الوسطى اللذين يستمران بأداء نفس المهام وسُئلا يوماً عن عملهما، فقال الأول: "ألا ترى؟ أنا أقص الحجارة"، في حين عبر الآخر عن نظرة مختلفة تماماً إذ قال: "أنا أبني كاتدرائية". قياساً على نظرة البنّاء الأول، يمكن أن يرى حراس حديقة الحيوانات مثلاً عملهم في تنظيف الأقفاص وإطعام الحيوانات مملاً وقذراً، أو أنه أدنى من مستواهم بما أن 4 من كل 5 حراس يحملون شهادات جامعية، بيد أن الأبحاث تبين أن القليل منهم يستقيلون من عملهم لأن معظمهم يعتبرون عملهم رسالة شخصية هادفة تتمثل في الاهتمام بالحيوانات. مهما كانت أدوارنا، فيمكننا اختيار غايتنا والتفكير في ارتباط عملنا بنا.
هذه الفكرة هي ما شكّل نظرتي إلى عملي في شركة "بيست باي" وما بعدها، وأرى أنها تنطوي على 3 خطوات أساسية يتعين على قادة الشركات اليوم اتخاذها.
اعثر على غايتك الشخصية
أولاً، يعني الإيمان بإمكانية أن يكون عملنا هادفاً ضرورة أن تفهم غايتك الشخصية بوصفك قائداً. استثمر الوقت وركز على معرفة ما يدفعك للعمل، ما الذي تطمح إليه بحق وبقوة؟ ابدأ بما يمدك بالطاقة والسعادة؛ باختصار، ما الذي يحفزك؟
مثلاً، أدت عملية التأمل الذاتي التي قمت بها منذ أعوام إلى استنتاج أن ما يحفزني هو خلق تأثير إيجابي فيمن حولي واستخدام مركزي لخلق تأثير إيجابي في العالم. هذا ما يدفعني للتدريس في كلية "هارفارد للأعمال" والعمل على توجيه كبار المسؤولين التنفيذيين وتدريبهم ودفعني لتأليف كتابي.
شجع موظفيك ليعثروا على غايتهم
ثانياً، على نفس القدر من الأهمية يجب على القادة تشجيع جميع من في الشركة على القيام بعملية التأمل الذاتي نفسها، ومشاركة نتائجها مع من حولهم. خذ مثلاً موظفي شركة "بيست باي"، إذ يتم تشجيعهم باستمرار على التفكير فيما يحفزهم، وعندما كنت رئيساً تنفيذياً هناك كنت أتأثر دوماً بسخاء أجوبتهم التي تنطوي دوماً على فعل الخير للآخرين. سمعت نفس الجواب كثيراً في الاجتماعات العامة التي كنا نخصص جزءاً منها ليتحدث الموظفون عن قصص غاياتهم الشخصية، وهذا يوقع أثراً هائلاً.
في أحد متاجر "بيست باي" في مدينة فلوريدا مثلاً، أدى الإحساس القوي بالغاية الشخصية لدى اثنين من موظفي المبيعات إلى تحولهما إلى "جراحَي ديناصورات"؛ عندما عادت إحدى الأمهات إلى المتجر مع طفلها الحزين بعد أن انكسرت لعبة الديناصور "تي ريكس" المفضلة لديه، التي اشترتها من نفس المتجر، سارع الموظفان إلى أخذ اللعبة وإجراء "عمل جراحي" لها خلف طاولة البيع، وفي أثناء سرد إجراءات عملية الإنقاذ قاما سراً باستبدال ديناصور جديد بالمكسور، وبعد دقائق سلما الديناصور الذي "شُفي" للطفل. لولا غايتهما الواضحة المتمثلة في خلق تأثير إيجابي في حياة الناس لكانا في أفضل الأحوال أرشدا الطفل وأمه إلى رفّ ألعاب الديناصورات لشراء لعبة جديدة. لكنهما رسما ابتسامة على وجه الطفل الصغير.
إلى جانب تشجيع الآخرين على التفكير في غاياتهم الشخصية، من الضروري أن يفهم قادة الشركات ما يحفز الأفراد حولهم. ومن أجل معرفة ما يحفز كل فرد من الفريق التنفيذي في شركة "بيست باي" ومدى تلاؤم عمله مع حياته وتاريخه، رتبت وليمة عشاء في أثناء أحد اجتماعاتنا الخارجية الربع السنوية الدورية، وسألت ببساطة: "ما هي قصة حياتك؟ ما الذي يحفزك؟ كيف ترتبط غايتك الشخصية مع ما تفعله في العمل؟". تعلمنا في تلك الأمسية أن كلاً منا ليس مجرد مسؤول تنفيذي فحسب، بل إنسان كامل جميل ومعقد. كما تعلمنا أننا جميعاً، مع بضعة استثناءات، مشتركون بنفس الغاية في الحياة: خلق أثر إيجابي في حياة الآخرين.
تحول ما قد يبدو حديثاً جانبياً ودوداً إلى لحظة مفصلية؛ فهذه الاكتشافات أضاءت مسار مشروعنا الحالي لتحديد غاية شركتنا، وأدركنا أننا نرغب في جعل شركة "بيست باي" قوة للخير في العالم، وأردنا أن نبني شركة يحبها موظفوها وعملاؤها وتكرم شركاءنا والعالم الذي نعيش فيه وتحترمهم وتستخدم ذلك أساساً لتوليد الإيرادات للمساهمين.
اربط الغاية الشخصية بغاية الشركة
أصل بهذا إلى الخطوة الثالثة من الإيمان بإمكانية أن يكون العمل على اختلاف أنواعه هادفاً؛ أحد العناصر الحيوية من القيادة هو مساعدة الأفراد في جميع مستويات الشركة على التفكير فيما يحفزهم وربط هذا الحافز بغاية الشركة الشاملة. عندما كنت على رأس عملي في شركة "بيست باي" كان أحد المدراء في متجر بالقرب من مدينة بوسطن يسأل كل موظف في فريقه: "ما هو حلمك؟" ثم يعمل معه لتحقيقه، ولكنه يربط حلمه هذا بغاية الشركة. ولّد هذا الرابط لدى كلّ موظف شعوراً بأنه يسهم على نحو شخصي في تحقيق غاية الشركة ومنحه الطاقة التي اجتمعت مع مهاراته وأدت إلى تميّز المتجر في أدائه.
كانت إحدى موظفات المبيعات مثلاً تحلم بالانتقال من منزل والديها إلى شقة خاصة بها، ولم تكن أجرتها الساعية تتيح لها تحقيق هذا الحلم، فساعدها مدير المتجر في إدراك أن مساعدة الزبائن على نحو أفضل عن طريق التأثير في حياتهم وفقاً لغاية شركة "بيست باي" سيخلق أثراً في حياتها وحياة والديها أيضاً؛ إذ ستتمكن من الحصول على شقتها الخاصة إذا أصبحت مشرفة أو مديرة مساعدة. ما إن فهمت هذا الرابط أصبحت أكثر اندماجاً في عملها، ومع دعم مدير المتجر وفريقها لها حصلت في نهاية المطاف على الترقية وحققت حلمها.
تتوفر اليوم أقوال ومؤلفات كثيرة حول غاية الشركة، هذا جيد، ولكن من دون ربطها بالحافز الشخصي لن يكون بالإمكان تجسيدها. وبالتالي يكون توضيح الرابط بين الغاية الشخصية وغاية الشركة وتعزيزه واحداً من أهم الأدوار التي يمارسها القادة بدءاً من المسؤولين التنفيذيين وصولاً إلى مدراء المتاجر.
سيؤدي تطبيق هذا المفهوم الإنساني عن الغاية في العمل إلى تغيير نظرتنا إلى العمل وبالتالي سيغير درجة اندماجنا فيه. هل سيجعل ذلك العمل سهلاً وممتعاً دائماً؟ لا، فكل إنسان يمر بأيام صعبة، وكل وظيفة لها تحدياتها. لا يشكل الفهم الشخصي للغاية بحد ذاته العامل الوحيد الذي يحفز الموظفين في العمل، ولكن القدرة على ربط ما نفعله كل يوم بغاية أسمى تساعدنا على بث الطاقة في البشر وتحفيزهم وتوجيههم، وهذه بداية جيدة سواء كنت عامل بناء أو رئيساً تنفيذياً.