إليكم هذه القصة التي تتحدث عن كيفية إدارة مؤسسة غير ربحية بشكل جيد. في يونيو/ حزيران 2018، استيقظت في منزلي في النرويج على اتصال هاتفي بعد انقضاء منتصف الليل بوقت طويل. كان المتصل على الطرف الآخر هو أحد كبار المسؤولين في المقر الرئيس للأمم المتحدة في نيويورك. كان السفير المكسيكي في الأمم المتحدة قد تقدّم بشكوى رسمية ضد مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع (UNOPS)، المؤسسة التي أقودها أنا، زعم فيها أن هذا المكتب قد انحاز رسمياً إلى جانب مرشح المعارضة في الانتخابات المكسيكية القادمة. كانت الشكوى غير معقولة: فكل ما فعلناه هو أننا قلنا نعم لذلك المرشح عندما سألنا إذا ما كنا سنساعده في حملة مكافحة الفساد فيما لو انتخب. ومع ذلك، فإن الشكوى الرسمية أفضت إلى حمّى صحفية في المكسيك. كنا أمام خيارين: إما أن نعتذر اعتذاراً كبيراً، أو أن نقول إننا لم نرتكب أي خطأ. كان القرار حساساً، لأن سمعتنا كانت على المحك، ولاسيما إذا خسر مرشح المعارضة. قررنا أن نتمسّك بموقفنا. أصدر الأمين العام للأمم المتحدة بياناً أعاد التأكيد فيه على حيادية الأمم المتحدة. بعد انقضاء شهر، انتُخِب مرشح المعارضة آندريه مانويل لوبيز أوبرادور رئيساً - وبعد تنصيبه بوقت قصير طلب من مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع المساعدة في بيع الطائرة الرئاسية المكسيكية ليكون ذلك مثالاً يحتذى على التوفير الحكومي.
كيفية إدارة مؤسسة غير ربحية
تحتاج قيادة مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع، وهذا ما أقوم به منذ 2014، إلى السير يومياً على الحبال السياسية المشدودة. لكنني أحاول ألا أدع السياسة تشتت انتباهي عن هدفي الرئيس ألا وهو مساعدة هذه الوكالة على الاستمرار في السعي لأن تصبح ذراعاً مُمَوّلة ذاتياً ومُستدامة وريادية للأمم المتحدة - أي أن نبقى أوفياء لرسالتنا الأصلية حتى بعد أن ننوّع أنشطتنا لخدمة مجموعة واسعة من الزبائن ونضطلع بمشاريع مختلفة لما يرتئيه الناس بالنسبة لمنظمة غير حكومية مثل منظمتنا. قبل فترة ليست ببعيدة، كانت هذه المؤسسة قد وصلت إلى شفا الإفلاس؛ أما اليوم فهي تنمو ولكن بطريقة ذكية. ما حققناه يمكن أن يشكّل درساً مفيداً للآخرين لكي يحذوا حذوه. إذ من السهل تسمية عشرات الشركات التي شهدت تحوّلات رأساً على عقب في القطاع الخاص؛ لكن من الأصعب بكثير التفكير في أمثلة من هذا النوع في المؤسسات التي لا تتوخّى الربح. لقد تمكّن مكتبنا من المرور بتغيّر دراماتيكي، حيث تبنّى ثقافة من الانضباط ومقاربة مدروسة في المجازفة.
اقرأ أيضاً: القائد الفذ عليه أن يكون معلماً وموجهاً
المصالح المتضاربة
يمتلك مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع تاريخاً غير اعتيادي حول كيفية إدارة مؤسسة غير ربحية بشكل جيد. فحتى أواسط تسعينيات القرن الماضي، كان قسماً معنياً بتنفيذ المشاريع ضمن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، الذي يشابه وكالات الأمم المتحدة الأخرى مثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) وبرنامج الأغذية العالمي. كان مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع يتقاضى المال دوماً من أفراد عائلة الأمم المتحدة الآخرين لتغطية تكاليف المشاريع - مثل بناء البنية التحتية - لكنه بعد أن نما، نَمَت مَعَهُ بذرة الشك. كان النقاد يقولون إن اتخاذ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للقرارات الخاصة بالسياسات ومن ثم تكليف الدول الأعضاء بتنفيذ الإجراءات بناءً على ذلك عبر الوكالة التابعة له بحكم الأمر الواقع ألا وهي مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع هو بمثابة تضارب في المصالح. لقد أراد بطرس بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة وقتها زيادة الشفافية بخصوص قرارات التمويل وأراد تقديم حوافز أوضح للوكالات لكي تعمل معاً.
لذلك اقترحت مجموعة من مسؤولي الأمم المتحدة تشكيل مؤسسة جديدة ذات تمويل ذاتي ومستقلة عن القرارات السياسية وقرارات التمويل لتنفّذ المشاريع على الأرض على مستوى البلد. كان المأمول هو معرفة كيفية إدارة مؤسسة غير ربحية وأن يسهم ذلك في معالجة مشكلة تضارب المصالح - وأن يؤدّي الابتعاد عن بيروقراطية الأمم المتحدة إلى زيادة كفاءة هذه المؤسسة أيضاً. وبدعم من بطرس غالي والدول الأعضاء في المنظمة الأممية، فُصِل المكتب ليتحوّل إلى كيان مستقل في عام 1995. وقد بدأ بتقديم العروض للعمل في البنية التحتية، وإدارة المشاريع، وإجراء عمليات المشتريات لصالح الأمم المتحدة وغيرها من كيانات القطاع العام، تماماً كما يفعل أي مقاول خارجي.
طوال العقد الأول من حياة المكتب، كان ينزلق ببطء نحو الإفلاس. لم يكن يمتلك ما يكفي من الخبرة لإنجاز المهام المكلّف بها بكفاءة، وبالجودة المطلوبة، وبالتكلفة الصحيحة. لم يكن المكتب يعلم كيف يحدّد الأسعار بشكل صحيح، لذلك خسر المال في عدد كبير من المشاريع. لقد كانت سمعته بوصفه مستعداً لتولي أي مهمة تعني أن مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع كان في نهاية المطاف يتولّى الأعمال التي كانت المؤسسات الأخرى تمتنع عن القيام بها. وصل الأمر ببعض الناس إلى أن أطلقوا على المكتب اسم وكالة الساعة الحادية عشرة، لأنها كانت المكان الذي يلجأ إليه الناس الذين كانوا قد حاولوا القيام بشيء ما بأنفسهم، وقرروا أنه شديد الصعوبة أو شديد الخطورة، وأرادوا تعهيده إلى جهة خارجية كملاذ أخير.
اقرأ أيضاً: كيف يخفف المدراء الناجحون من التحيز ضمن فرقهم؟
كان سَلَفي في منصب المدير التنفيذي، يان ماتسون من السويد أمام قرار حاسم في يونيو/ حزيران 2006. فقد أُعطي هو ونائبه فيتالي فانشيلبويم من أوكرانيا، ستة أشهر إمّا لوضع خطّة تؤدّي إلى حصول تحوّل جذري في المؤسسة أو إغلاقها بالكامل. وقد اختارا قلب الأمور رأساً على عقب وإنقاذ المؤسسة. بدأ الرجلان يناديان بمفهوم التميّز وحاولا نقل المكتب إلى سوية لا تضاهي سوية المؤسسات النظيرة له في القطاع العام فحسب، وإنما تماثل المؤسسات الفضلى في القطاع الخاص. لقد خفضا الهدر والتكرار، واقنعا الزبائن الحاليين والمحتملين أن الاعتماد على قدرات مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع لتنفيذ المطلوب ضمن الظروف الصعبة هو شيء يستحق العناء. وبين العامين 2006 و2014 بنت المنظمة لنفسها قاعدة مالية راسخة جداً، وحققت قفزات ضخمة في تحسين سمعتها، حتى مع بقائها مجهولة إلى حد كبير بالنسبة للعالم الخارجي.
تبنّي الخيارات الصعبة حول كيفية إدارة مؤسسة غير ربحية
عندما وصلت في شهر أغسطس/ آب من عام 2014، كان هدفي هو أن أنقل هذه المقاربة إلى المستوى التالي. كانت تجربتي في القطاع الخاص وفي الحكومة قد هيأتني لهذه المهمّة التي تنطوي على ضغوط كبيرة.
ففي وقت سابق من حياتي المهنية، كنت قد أمضيت 10 سنوات في العمل التنموي، بداية كمستشارة قانونية شابة في الوكالة النرويجية للتنمية الدولية، ولاحقاً كرئيسة لمؤسسة المساعدات الشعبية النرويجية. في كلا المنصبين، واجهت مقاومة لفكرة المزاوجة ما بين مقاربات القطاع الخاص والمقاربات الربحية، من جهة، وما بين الأهداف غير الربحية للوكالات التنموية، ليكون ذلك نذيراً لبعض المقاومة التي واجهتها لاحقاً في مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع.
بعد ذلك أمضيت خمس سنوات كمديرة للشؤون القانونية وشؤون الشركات في أوروبا الغربية في شركة مايكروسوفت، حيث تعلمت كيف تُدير شركةٌ تكنولوجيا عالمية المستوى مشاريعَ معقدة، وتطور استراتيجيات للنمو. قبل الانضمام إلى مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع، كنت قد أمضيت عقداً من الزمن في العمل مع الحكومة النرويجية، حيث خدمت مع ثلاثة رؤساء وزارة وترأست خمس وزارات خمس مرات هي: التنمية الدولية، والعدل والأمن العام، والنفط والطاقة، والدفاع، والعدل والأمن العام مجدداً.
اقرأ أيضاً: القادة العظماء يدركون أهمية الإيماءات الصغيرة
كانت الوظيفة التي حضّرتني أفضل تحضير لقيادة مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع، إلى حد كبير، هي منصب وزيرة الدفاع حيث تعيّن عليّ القيام برحلات إلى دول مثل أفغانستان، وتشاد، وجنوب السودان - وهذه بعض من أخطر الأماكن في العالم وأكثرها انطواء على التحدّيات. ثمّة أمر أذهلني عندما قمت بهذه الزيارات، ألا وهو أنني كنت دوماً أرى أشخاصاً من مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع. كانوا متواضعين في الحديث عن عملهم، لكن كان من الواضح أنهم لا يتردّدون في الذهاب إلى أي مكان، كما لم يكن هناك من تحدّ ليسوا مستعدين لمواجهته. كان التزامهم بمهمة المكتب واضحاً. وعندما اتصلت بي الجهة المعنية بالتوظيف وعرضت عليّ منصب المديرة التنفيذية، قررت قبولها فوراً.
خلال أسابيع العمل الأولى، أدركت أنني سأحتاج إلى إدخال تغييرات كبيرة. فبسبب النجاح المُتصوّر لمرحلة التعافي الأولى للمنظمة، كانت حالة التراخي قد بدأت تتسلل إلى أوصالها. كان بعض الزملاء، بمن فيهم بضعة مدراء كبار، مقتنعين أنّ مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع لا يُقهر، وأنهم شخصياً معصومون عن الخطأ. وعندما بدأت أتحدث عن إجراء مراجعة جديدة لطريقة عملنا، حاولوا بهدوء تقويض جهودي. لكنني لم أسمح لهذا الوضع أن يتفاقم؛ وقد اضطر بعض هؤلاء الأشخاص إلى مغادرة المنظمة، بعد أن كان يُنظر إليهم على نطاق واسع على أنهم "لا يمكن المساس بهم" بسبب مناصبهم ومستوياتهم. حدّدت الموظفين الذين كانوا يعرفون كيف يجازفون بذكاء ورقيتهم بسرعة، حتى لو كانوا يفتقرون إلى الخبرة المطلوبة عادة لشغل منصب قيادي. في ذلك الوقت، تجنّبت الرغبة في تغيير فريق القيادة العليا بأكمله، رغم أن بعض المراقبين حثوني على فعل ذلك. أنا أؤمن بقوة بإحاطة نفسي بأشخاص يكمّلون نقاط قوتي ويساعدونني في التحايل على نقاط ضعفي.
حدّدت المشاكل البنيوية أيضاً. فالبيروقراطية كانت قد استحكمت خلال السنوات السابقة. وهذا ليس بالأمر المفاجئ، فالأمم المتحدة تعشق البيروقراطية. لكنني كنت أؤمن أن القواعد والأنظمة المطبّقة في المكتب كانت شديدة التعقيد والتداخل مما يضر بالكفاءة، لذلك طرحت على الفريق تحدياً يتمثل في استبدال هذه القواعد والأنظمة. وقد ألقينا أكثر من 1,200 صفحة من القواعد في سلة المهملات، وبدأنا بإعادة كتابة المبادئ التشغيلية، والتي اخترت لها نموذجاً هو العمليات التي طورناها لإدارة مؤسسة "ستوربراند" (Storebrand) وهي أكبر شركة معاشات تقاعدية خاصة في النرويج.
كنا بحاجة أيضاً إلى تحسين طريقة حساب التكاليف وتحديد الأسعار. قبل وصولي إلى المنصب، كانت المنظمة تستعمل منهجية مبسّطة تتمثل في حساب التكاليف الإجمالية وإضافة رسم إداري يبلغ 7%. تعتبر طريقة التسعير هذه القائمة على حساب سعر التكلفة زائد نسبة الربح شائعة في العقود الحكومية، ولكن بعد أن بدأ مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع يتصرّف بوصفه أقرب إلى شركة خاصّة، فقد كان بحاجة إلى أدوات تسعير أكثر تعقيداً. فبعض المشاريع تنطوي على خطورة أكبر وتحتاج إلى كثافة أيدي عاملة أكثر من غيرها، لذلك لم نرفع الرسوم بشكل كامل. في الحقيقة كانت هوامش أرباحنا أصغر في العديد من المشاريع ذات الخطورة الأقل.
التعامل مع التعقيد
لكي يفهم المرء كيف تغيرنا، يحتاج إلى أن يقدّر تعقيد الأعمال التي غالباً ما يُطلب من المكتب إنجازها. دعوني أعطيكم مثالاً معتاداً. لجأت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى وكالتنا في 2012 لمناقشة الوضع في سوريا. كان اللاجئون يتدفقون إلى دول الجوار بأعداد كبيرة وكان على الأمم المتحدة أن تساعد في بناء خيام لهم. هذه المخيمات كانت بحاجة إلى مدارس. كما كانت بحاجة إلى سيارات إسعاف ومعدات طبية. وكانت بحاجة إلى الأمن، للحيلولة دون وقوع الجرائم وسط هذه المجتمعات المحلية المشكّلة حديثاً التي قد تضم أكثر من 100 ألف إنسان. وفرنا الدعم عبر عدد من المشاريع. وأنا فخورة بشكل خاص بما فعلناه للتقليل من العنف من خلال وضع نموذج للشرطة المحلية وتركيب إنارة للشوارع تعمل بالطاقة الشمسية حول الحمامات ليكون بمقدور النساء استعمالها دون الخوف من خطر التعرّض للهجوم.
ينطوي العديد من مشاريعنا على مخاطر تتجاوز المخاطر التي يمكن لشركة خاصة أن تتعامل معها بارتياح. فعندما أوكِلت إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التابعة للأمم المتحدة مهمة تدمير الأسلحة الكيماوية إضافة إلى مجموعة من المنشآت التي تنتجها في سوريا، لجأت إلينا. وعندما أراد البنك الدولي إطلاق جهود لإعادة بناء البنية التحتية الأساسية في اليمن بقيمة 200 مليون دولار، كانت منظمتنا هي من تلقّت الدعوة للاضطلاع بهذا المشروع. مازال الوضع في اليمن صعباً جداً، لكننا نحرز التقدم في منع الكوليرا وغير ذلك من الأمراض وفي مساعدة البلد في تطوير بنيته التحتية الخاصة بالطاقة.
في القطاع الخاص، عادة ما يحصل المنافس الذي يقدّم السعر الأفضل على العقد. لكن الأمور في القطاع العام ليست بهذه المباشرة دوماً. فالسياسة هي عامل أساسي. في بعض الأوقات، نحن نؤمن أنّ مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع سيضيف القيمة العظمى إلى مشروع معيّن، لكننا يجب أن نتعامل مع الموضوع بمنتهى الحذر، لأن هناك جهات أخرى (وكالة أخرى تابعة للأمم المتحدة، أو حكومة أخرى) قد تعتقد أن المشروع يجب أن يُعطى إلى منفّذ محدد لأسباب سياسية. في بعض الأيام أمضي معظم وقتي مدافعة عن فكرة إتاحة المجال للمنافسة العادلة عندما يقوّم العملاء العروض. مكتبنا هو من المنافسين الأشداء وعندما تكون عملية تقديم العروض عادلة، فإننا ننجح.
وبغية التعامل مع كل هذا التعقيد، طرحت أسلوباً أفضل لإدارة المخاطر بهدف تحسين عملية اتخاذ القرار والمساءلة. بدأت بإعطاء المجال للموظفين الميدانيين لكي يكون لهم رأي في القرارات. طلبت من زملائي إجراء المزيد من عمليات الرصد والتوثيق للمشاريع الماضية لكي يستنتجوا ما الذي كان ناجحاً وما الذي لم يكن ناجحاً والسبب في ذلك. شدّدت على الإصغاء إلى آراء أصحاب الأصوات المعترضة، وبدأت بتحدّي بعض التبريرات الكلاسيكية التي تستعملها المؤسسات لاستلام مشروع قد لا يكون منطقياً من الناحية المالية.
لنأخذ على سبيل المثال ما يسمّى "مشاريع فتح الأبواب". في أحيان كثيرة، يحاجج بعض الناس قائلين إن المشروع التجريبي هو عبارة عن موطئ قدم يسهم في فتح الأبواب مع زبون جديد لذلك يجب أن يُنظر إليه بوصفه استثماراً في إيرادات مستقبلية محتملة. وكان مكتبنا يعشق هذا النوع من المشاريع التي يُفترض بها أن تفتح الأبواب. أنا أتفهّم هذا المنطق، لكننا اليوم نجري مراجعة أوثق لنرى ما إذا كانت هناك إمكانية مستقبلية حقيقية من تلك المشاريع. قد يكون من الممتع الاضطلاع بمئة مشروع أصغر حجماً، لكن إذا كان معظمها خاسراً، فإلى أين ستوصلنا هذه العقلية؟ كما أنشأت لجنة صغيرة يحكمها دليل قواعد مرن بهدف المصادقة على المشاريع الأعقد، وصياغة استراتيجيات ومقاربات للتقليل من المخاطر. على الرغم من هذه العوائق، إلا أن شهيتنا في بعض الأحيان تكون أكبر من قدرة معدتنا على الهضم.
كان مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع مشهوراً باسم وكالة الساعة الحادية عشرة، لأنه كان المكان الذي يلجأ إليه الناس الذين حاولوا القيام بشيء ما بأنفسهم، ووجدوا أنه شديد الصعوبة أو شديد الخطورة.
لقد اضطررت كثيراً إلى التفكير في قضية ضبط التكاليف. لا شك أن الوضع المالي للمكتب قد تحسّن، لكنّ بعض أعضاء فريقنا يعتقدون أننا "غارقون في المال" وأننا يجب أن نواصل إنفاقه. وأنا أخالفهم الرأي بشدّة. فقد سبق لي أن رأيت شركات تغرق في الدوّامة (أو تفلس بالكامل) عندما تتوقف عن القلق بشأن الإيرادات كل يوم. وكلمات سنحت لي الفرصة، أعزز الرسالة القائلة إن أداءنا القوي حالياً ليس ضماناً للنتائج المستقبلية - وبما أننا قطعنا هذا الشوط البعيد، فإننا لا نريد لمكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع أن يصبح من الماضي وأن يُحال إلى كتب التاريخ.
مع ذلك، فقد تمكنّا من النمو في وقت كانت موازنة الأمم المتحدة ثابتة إلى حد كبير، لأن الحكومات أصبحت ترى فينا الشريك المفضّل. لقد بات العمل في مشاريع متنوعة مع الحكومات، يمثل نحو 37% من إيراداتنا الآن ويشهد نمواً متصاعداً. وبالمقابل فإن أنشطتنا مع منظمات الأمم المتحدة الأخرى فقد تراجعت من حدود 60% من الإيرادات في 2014 إلى 32% في 2017. وبالإجمال ومنذ عام 2014، ارتفعت إيراداتنا السنوية من 1.45 مليار دولار إلى 1.85 مليار دولار عن مجمل المشاريع. وقد تضاعفت احتياطياتنا التشغيلية تقريباً، ونحن نستثمر في التحول الرقمي وأنظمة تكنولوجيا المعلومات. كما أننا بتنا منخرطين في أكثر مبادراتنا طموحاً حتى تاريخ اليوم ألا وهي الاستثمار المؤثر اجتماعياً.
تبنّي الابتكار
تنطوي هذه المرحلة التالية من نموّنا - التي سندخل فيها في شراكات مع القطاع الخاص، ونتشارك معه في المخاطر، وندخل معاً إلى السوق - على إمكانيات مستقبلية كبيرة، لكن الأمر مثير للجدل. فعوضاً عن مجرّد الفوز بالعقود، فإننا نستعمل أموالنا النقدية للاستثمار في الأصول وسنجازف بما نملك لكي نضمن نجاح المشاريع.
مشروعنا الرئيس الأول هو في المكسيك، حيث توجد منشأة توربينات قوة الرياح لتوليد الكهرباء بطاقة إنتاجية تبلغ 22 ميغاواط وهي تعمل على خير ما يُرام. كانت هذه المنشأة قد بنيت قبل خمس سنوات، وكان المستثمرون الأصليون قد حددوا مهلة نهائية ثابتة للتخارج من المشروع. وقد وصل الصندوق الاستثماري إلى نهايته بعد أن بدأت بعض الشركات المحلية في التخلف عن سداد فواتير الكهرباء الخاصة بها. وقد تسبّب الخطر الائتماني في إخافة المستثمرين الجدد.
دُعي مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع إلى الدخول في المشروع. وقد عملنا مع الزبائن الحاليين ووجدنا بعض الزبائن الجدد للتقليل من الانكشاف الائتماني. كما عملنا مع المصارف لإعادة التفاوض على الديون. أخيراً، تدخّلنا وساهمنا باستثمار في حقوق المساهمين بقيمة 9 ملايين دولار. لا يهدف المكتب من خلال هذا الاستثمار إلى تحقيق الكثير من المال لنفسه. وإنما نريد ضمان أن تكون هذه الصفقات مسؤولة اجتماعياً، ومفيدة بيئياً، وأن تسهم في تحقيق الأهداف الإنمائية الوطنية. وقد عملنا مع شركة محاسبة متعدّدة الجنسيات لإنشاء آلية لتقويم الاستدامة الاجتماعية، بحيث لا نضطلع إلا بالمشاريع التي تحظى بعلامة عالية وفق هذه الآلية.
لم يكن من السهل تنفيذ صفقة من هذا النوع. فقد اضطررنا إلى محاربة العديد من المعارضين، داخلياً وخارجياً على حد سواء. إذ كان بعض زملائنا في المكتب ضد الدخول في شراكات مع بعض من وصفوهم بـ "المرتزقة" من القطاع الخاص. كما كان الأمر مثيراً للكثير من الجدل على المستوى الخارجي، بما أنه لم يسبق لوكالة من وكالات الأمم المتحدة أن دخلت في صفقة استثمارية بهذه الطبيعة من قبل، ناهيكم عن أن تكون هي نفسها قد استثمرت. لقد استعملت كل مهاراتي في الإقناع لإشراك الأشخاص الذين كانوا يعارضون الصفقة أو يشعرون باللامبالاة تجاهها واجتذابهم إلى صفّنا - ليس فقط بالوقائع والأرقام وإنما بالمناشدة العاطفية أيضاً. فأنا مقتنعة أن تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول 2030 (وهذا جزء من الهدف الإجمالي للأمم المتحدة) سيكون مستحيلاً دون دور تحفيزي رئيس من القطاع الخاص، لذلك قررت خوض هذه المجازفة الذكية.
بعد عدة أيام من إبرام صفقة مشروع المكسيك، وقعنا اتفاقيات مع رئيسي كينيا وغانا لهيكلة صفقات مع المستثمرين لتطوير 100 ألف وحدة سكنية بقيمة تقارب خمسة مليارات دولار في كل بلد من هذين البلدين. لقد باتت لدينا الآن سلسلة منتظرة قوية من الصفقات في قطاع الطاقة المتجددة، والإسكان الميسّر، والبنية التحتية لقطاع الصحة. وفي كل صفقة من هذه الصفقات، نهدف إلى أداء دور تشغيلي - فنحن لن نكون مستثمرين خاملين. هذا الأمر يجعل مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع لاعباً رئيساً في مجال البنية التحتية - الذي يعتبر القطاع الأهم لتطوير الدول كما يحاجج كثيرون.
نحن أيضاً، وأكثر من معظم شركات القطاع الخاص، نساعد العملاء على التفكير البعيد المدى. فعلى سبيل المثال، نحن نستعمل البيانات ونموذجاً خاصاً بنا طورناه بأنفسنا لمساعدة الحكومات على فهم ما يجب أن تبنيه، ومتى، وكيف - وحتى متى لا يجب أن تبني - من أجل وضع استراتيجية للاحتياجات من البنية التحتية على مدار السنوات الثلاثين أو الأربعين المقبلة. وبدأنا بالعمل على ذلك في جزيرتين صغيرتين في البحر الكاريبي هما سانت لوسيا وكوراساو. وعوضاً عن الحديث عن مشاريع تنفّذ بحسب كل حالة، بتنا نستطيع إعطاء كل حكومة خارطة طريق لما يجب عليها بناؤه على مدار عقود.
وفي نهاية الحديث عن كيفية إدارة مؤسسة غير ربحية بشكل جيد، سيظل مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع (UNOPS) على الدوام ينفذ المشاريع بجودة عالية. وسنواصل العمل في الأماكن التي تشعر منظمات كثيرة بالتردد في الدخول إليها - ولا سيما المناطق التي توجد فيها حكومات ضعيفة وتحتاج إلى وجود قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة. وحتى مع انتقالنا إلى الاستثمار في المشاريع القادرة على الحصول على قروض مصرفية، إلا أننا لا نهمل نشاطنا الأساسي. لكننا سنسعى إلى تحقيق أهدافنا بقدر أكبر من الانضباط، وإدارة المخاطر، والانتباه إلى التكلفة مقارنة مع ما كان عليه وضعنا في الماضي - وسنظل نرفض المشاريع غير المنطقية. ليست هذه الأشياء سهلة بالنسبة لمؤسسة مثل مؤسستنا، لكنها ضرورية إذا ما كنا نريد مساعدة الدول على معرفة كيفية إدارة مؤسسة غير ربحية وتحقيق التنمية لسنوات عديدة مقبلة.
اقرأ أيضاً: القادة العظام يتمتعون بفكر ثاقب وعميق ولا يتسرعون في ردود أفعالهم