ملخص: شهد العالم في السنوات القليلة الماضية عدة أزمات متداخلة، ومن غير المتوقع أن يقل تعقيد الظروف على المدى المنظور. التقى المؤلفون مجموعة من الرؤساء التنفيذيين لمناقشة أساليب قيادتهم وسط هذه الفوضى المستمرة، فالمؤسسات تحتاج إلى قادة أقوياء ذوي شخصية مميزة وبوصلة أخلاقية كي تنجح في عالم اليوم الذي تسوده الفوضى، ويجب أن يكونوا قادرين دائماً على الإبحار بمؤسساتهم عبر الأمواج العاتية من خلال التكيف والتعلم المستمر.
التقينا مؤخراً مجموعة من الرؤساء التنفيذيين الأميركيين والأوروبيين في عدد من الشركات الكبرى لمناقشة سبل القيادة في سياق الأزمات المتعددة والمتداخلة التي يواجهها العالم، مثل النزاعات الجيوسياسية والكوارث البيئية والتصدعات السياسية والاجتماعية المتفاقمة وسلاسل القيمة المضطربة والتطورات التكنولوجية المزعزعة؛ إذ يسبب هذا السياق المليء بالتحديات ضغوطاً كبيرة على القادة وموظفيهم.
توصلنا من خلال هذه المناقشات إلى أن القادة بحاجة إلى أن يكون هدفهم أكبر من مجرد الصمود والاستجابة لهذه الصدمات التي لا تنتهي، صحيح أن الدفاع ضروري لكنه ليس كافياً، بل يجب على القادة ضمان قدرة مؤسساتهم على التطور والازدهار في هذه البيئة الجديدة. إليك 6 استراتيجيات لتحقيق ذلك:
اعتنِ بنفسك
الأزمات مرهقة وتسبب أضراراً معنوية، وقد ازداد إدراك المؤسسات لأهمية صحة موظفيها النفسية ورفاهتهم بعد تفشي جائحة كوفيد-19.
يدرك الرؤساء التنفيذيون الذين تحدثنا إليهم ضرورة تهيئة بيئة داعمة لموظفيهم من أجل تعزيز المرونة المؤسسية، ولكي يتمكن القادة من الاعتناء بموظفيهم عليهم أن يعتنوا بأنفسهم أولاً. تتطلب الأزمات من القادة إظهار ثقتهم بأنفسهم، وليس أن يكونوا أبطالاً خارقين، ومن الضروري أن يراعوا ضعفهم لأنهم بشر أيضاً.
تلقى الرئيس التنفيذي لشركة نايكي (Nike)، جون دوناهو، نصيحة مهمة في بداية حياته المهنية تقول إنه في كثير من الأحيان يظن قادة الأعمال أن طلب المساعدة علامة ضعف على الرغم من أن أفضل الرياضيين يعتمدون في تفوقهم على فريق يركز دائماً على ضمان رفاهتهم. يبدأ دوناهو يومه الآن بممارسة التمارين الرياضية والتأمل والامتنان، ويسعى بجد للتواصل مع من يقدمون له المشورة المفيدة، فهو يرى أن الاهتمام بصحته البدنية والذهنية والنفسية جزء من وظيفته، ويشجع كل من حوله على فعل الأمر نفسه.
كن قدوة بتمسكك بالقيم
تُذكّرنا القيم والمبادئ الأساسية بالجوانب المهمة في حياتنا كي لا نضيع في ضباب عدم اليقين، ففي عالم يتسم بالتقلبات المتزايدة يؤكد الرؤساء التنفيذيون الذين التقيناهم أهمية ارتكاز القيادة على القيم والمبادئ الأساسية التي لا تتزعزع حتى عندما يكون الوسط المحيط متقلباً.
وهذا ما حدث في شركة بيست باي (Best Buy)، حيث كان أحد مؤلفي هذه المقالة (هيوبرت) يشغل منصب الرئيس التنفيذي للشركة. وبسبب عدم توافر كتيب إرشادات للتعامل مع أزمة الجائحة السريعة التطور، دعت الرئيسة التنفيذية الحالية كوري باري إلى اجتماع طارئ مع فريق قيادتها وتواصلت مع المدراء العامين لمتاجر بيست باي لاتخاذ قرار جماعي حول سبل التعامل مع هذا الوضع غير المسبوق. وبفضل قيادتها بأسلوب تعاوني وتوحيد فريقها تحت مظلة القيم التي تجمعهم، أرست 3 مبادئ رسمت ملامح الطريق للمضي قدماً: 1) وضع سلامة الموظفين والعملاء على رأس أولويات شركة بيست باي؛ 2) تجنب تسريح الموظفين قدر الإمكان، حتى لو اضطرت المتاجر إلى الإغلاق؛ 3) اتخاذ قرارات تستند إلى خلق القيمة على المدى الطويل.
لم تمكّن هذه القواعد الأساسية المستندة إلى القيم شركة بيست باي من تجاوز الأزمة فحسب، على الرغم من أنها استلزمت إغلاق أكثر من ألف متجر وإعطاء إجازات إجبارية غير مدفوعة الأجر لأكثر من 50,000 موظف، بل مكنتها أيضاً من الحفاظ على ثقة الموظفين والازدهار عندما انتعشت السوق.
استكشاف الفرص
من رحم الأزمة تولد الفرص. أوصى الرؤساء التنفيذيون الذين التقيناهم باكتشاف أفضل الفرص عبر الخروج إلى السوق للاستماع إلى العملاء وموظفي الخطوط الأمامية وفهم احتياجاتهم وتحديد سبل تلبيتها.
خلال أسوأ فترات جائحة كوفيد-19، كان ضمان سلامة الموظفين والزبائن من خلال توفير بيئة معقمة ضرورياً في المطاعم والفنادق، أخبرنا الرئيس التنفيذي لشركة إيكولاب (Ecolab) كريستوف بيك كيف عمل هو وفريقه على نحو وثيق مع عملاء الشركة الرئيسيين، مثل ماكدونالدز، لتطوير بروتوكولات التعقيم وشهاداته التي ساعدت على إعادة إحياء هذا القطاع في ظل الإغلاق الواسع النطاق للمنشآت الذي هدد أعمال الشركة. تستفيد شركة إيكولاب الآن من المهارات التي اكتسبتها من الشراكة الإبداعية مع عملائها لاستكشاف سبل الحد من استهلاكها للمياه وتعزيز أهداف الاستدامة لديها، ما أتاح لها فرصة أخرى للنمو.
أعِد النظر في هدفك الأسمى
يمكن للصدمات الخارجية في بعض الأحيان أن تهدد وجود شركة أو قطاع برمته، وتدفع آثار التغير المناخي التي تتفاقم وتزداد حدة آليات تجميع المخاطر للعمل بأقصى طاقتها وتجبر شركات التأمين على التفكير في بدائل.
دفعت هذه المخاوف شركة التأمين العالمية أكسا (AXA)، التي يشغل توماس منصب الرئيس التنفيذي فيها، إلى إعادة تأسيس أعمالها لتتمحور حول حاجة عملائها الأساسية إلى الحماية من المخاطر، وأعادت صياغة دورها من شركة تدفع التعويضات إلى شريك في مساعدة العملاء على تخفيف المخاطر. أدى ذلك إلى توسيع قائمة منتجات شركة أكسا، وإطلاق أكسا كلايمت (AXA Climate)، وهي وحدة جديدة تقدم تأميناً مبتكراً بالاستعانة بالأقمار الصناعية والتأمين البارامتري والمشورة بشأن التكيف لمساعدة الشركات والمزارعين والمجتمعات على تعزيز قدرتهم على التكيف. وقد أدى هذا التحول أيضاً إلى تقديم الشركة مجموعة من الخدمات المتعلقة بالصحة خارج نطاق التأمين الصحي.
أدرك هؤلاء الرؤساء التنفيذيون أن تحديد الغاية من وجود الشركة وإعادة النظر في هدفها الأسمى وضمان تماشيه مع الاحتياجات الإنسانية الأساسية، يساعدهم في تركيز نشاط الشركة على أهداف طويلة الأجل تركز على خلق القيمة وتتجاوز الأزمات المؤقتة.
إعادة النظر في مفهوم النجاح
دعا الرؤساء التنفيذيون إلى إعادة تعريف معنى النجاح في هذه البيئة الجديدة.
غيّر العديد من العاملين نظرتهم إلى العمل والمسار الوظيفي في السنوات القليلة الماضية، إذ توصلت إحدى الدراسات الاستقصائية الحديثة إلى أن 27% فقط من العاملين في قطاع العمل المعرفي لديهم علاقة صحية مع العمل، ووجدت دراسة أخرى أن معظم الموظفين يهتمون بتأثير شركاتهم في المجتمع أكثر من اهتمامهم بالمقاييس التقليدية لنجاح الأعمال، مثل المقاييس المالية.
تشتهر شركة ميدترونيك (Medtronic) (التي كان بيل يشغل فيها منصب الرئيس التنفيذي) بثقافتها القائمة على الهدف التي تتمثل رسالتها في "تخفيف الألم واستعادة الصحة وإطالة العمر". على سبيل المثال، يتتبع المقياس الرئيسي لشركة ميدترونيك عدد الثواني التي تمر حتى يستعيد كل شخص جديد صحته باستخدام أحد منتجاتها. على مدار 30 عاماً، انخفض هذا الرقم من 100 ثانية لكل ثانية ليصل اليوم إلى ثانيتين لكل ثانية. هذا المقياس القائم على الهدف، لا القيمة السهمية، هو الذي يلهم الموظفين لتلبية الاحتياجات الإنسانية بمنتجات مبتكرة وعالية الجودة.
بث الحماس
يفرض الوضع الحالي ضغطاً كبيراً على الموظفين، لذا فالمسؤولية الأساسية للقادة تتمثل في خلق جو من الحماس والإيجابية.
اشتهر الرئيس التنفيذي لشركة فورد، آلان مولالي، بسلوكه الهادئ والإيجابي والمتطلب في الوقت نفسه، وكان يحفز الجميع في الشركة. وعلى الرغم من الوضع المأساوي الذي كانت تواجهه الشركة (خسائر بقيمة 17 مليار دولار)، وضع مولالي رؤية ملهمة لها وصاغ استراتيجية ناجحة وخلق بيئة عمل آمنة تسمح للموظفين بمناقشة مشاكل الأداء وطلب المساعدة من الآخرين. شكّل ذلك تغييراً جذرياً عن ثقافة فورد السابقة، فقد كان الإبلاغ عن المشاكل دون تقديم حل فوري يُعتبر ضعفاً؛ أطلق مولالي العنان لإمكانات شركة فورد من خلال إعادة بث الحيوية في ثقافتها.
وبالمثل، أدرك ساتيا ناديلا أن شركة مايكروسوفت بحاجة إلى تحول ثقافي بعد سنوات من الركود، وطور عقلية النمو والتعاطف مع العملاء والزملاء بين الموظفين من خلال تشجيع كل من التجربة والتعلم من الإخفاقات والتعاون بين أقسام الشركة المختلفة. وأصبح قدوة يحتذى بها من خلال الاعتراف بأخطائه وطلب المساعدة والإشادة بإنجازات الآخرين، ما أدى إلى بيئة عمل منفتحة ومفعمة بالحيوية تسمح بالابتكار. كان ذلك تناقضاً صارخاً مع الثقافة التي ورثها وغالباً ما وُصفت بأنها سامة وتركز على التنافس الداخلي.
تحتاج المؤسسات إلى قادة أقوياء ذوي شخصية مميزة وبوصلة أخلاقية كي تنجح في عالم اليوم الذي تسوده الفوضى، ويجب أن يكونوا قادرين دائماً على الإبحار بمؤسساتهم عبر الأمواج العاتية من خلال التكيف والتعلم المستمر.