منذ بضعة شهور، وتحديداً مع نهاية شهر مايو/أيار، تلقيت اتصالاً هاتفياً متوقعاً من صديق لي يدعوني لمشاهدة نهائي دوري أبطال أوروبا لكرة القدم في منزله مع مجموعة من الأصدقاء. صديقي هذا من نوع الخبراء متعددي التخصصات. عرفتهُ خبيراً في علم الأوبئة في أثناء جائحة كوفيد-19 ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية تحوّل إلى خبير عسكري جيو-سياسي، بالإضافة إلى كونه مدرباً قديراً ومحللاً في كرة القدم في أثناء المباريات الكبيرة، يُقيم استوديوهات تحليلية في الغرفة المجاورة لمطبخ منزله ويدعو فيها من يشاء شرط ألا يتفوق عليه في المعلومات الكروية؛ طبعاً وافقتُ على الدعوة الكريمة وقررتُ ألا أدخل معه في أيّ نقاش بيزنطي، نظراً لأن "دكة البدلاء" من باقي الأصدقاء في "الاستوديو التحليلي" سيقومون بالمهمة على أكمل وجه، وبدلاً من ذلك، قررت أن ألتزم الهدوء وأحاول أن أجد، في ذهني، المقابل في مجال الأعمال للمصطلحات والعبارات التي سيتفوه بها، والتي يكررها في كل مقابلة حتى ولو كانت "بطولة حارات" (دورة بين الأحياء).
فور وصولي لمنزله والتقائي به، فكرتُ لمَ لا أتقمص أنا أيضاً أحد أدواره وأفكر مثل مختصي علم النفس وأجد وصفاً ملائماً لشخصيته المحبّة للأضواء، فما كان لي إلا أن تذكرت "متلازمة البطل"، ويُقصد بها الحالة النفسية التي تدفع صاحبها للظهور بمظهر البطل في مختلف المواقف التي تواجهه، أو حتى في المواقف التي يفتعلها بنفسه. في مجال الأعمال (كما في كرة القدم)، قد يؤثر وجود شخص يسعى دوماً للظهور بمظهر البطل في الأداء الجماعي لفريق العمل الذي ينتمي إليه، إذ أنه يعمد لتقديم المشورة دون الحاجة لذلك، ويتدخل في مهام الآخرين ليبدو بمظهر المتميز، ويعزو دائماً الفضل لنفسه، ما يؤثر سلباً في روح الجماعة وإنتاجية باقي الموظفين.
استهل "بطلنا" تحليله بالتعليق على تشكيلة أحد الفريقين بقوله "كان الأجدر أن يلعب برأس حربة صريح عوضاً عن ثلاثة لاعبين في الوسط"، طبعاً البداية صعبة، إذ إن التشبيهات المتاحة لـ "رأس الحربة" في ميدان الأعمال تعدّ قليلة، لكني أعرف أنّ هذا المصطلح موجود، على غرار الكثير من المصطلحات الإدارية، في الميدان العسكري، وتحديداً كان يُطلق على فرق "البانزر" أو الفرق المدرعة في الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الثانية التي تُبادر لاختراق خطوط العدو كجزء من "الحرب الخاطفة"، فتذكرتُ أنه مستخدم في مجال الأعمال لوصف الموظفين المبادرين في المؤسسات، الذين يستبقون التغيير ويبادرون لحل المشكلات دون أن يُطلب منهم ذلك، طبعاً هذه النوعية من الموظفين يوجد عليها طلب عال في سوق العمل، عكس أحد الحضور في الاستوديو الذي كان يهمس في أذني بمكرٍ، في سلوك يشبه السلوكيات المنتشرة في بيئات العمل السامة "أنظر كيف سأُغضبه"، ثم خاطبه قائلاً: "اللاعب الفلاني (الذي لا يحبّه بطلنا) يعرقل لعب زملائه ويُرجع الكرة كثيراً للوراء" فأجابه بسرعة بصوت عال "معك حق، والله أحياناً أحسّ أن لديه واسطة مع المدرب"، فكدت أن أرد وأذكّره أن الواسطة قد انقرضت على هذا المستوى منذ زمان لكني التزمت بالوعد الذي قطعته على نفسي وفكرت في التطبيقات الإيجابية لـ "الواسطة" في ميدان الأعمال، فتذكرت هذا المقال "كيف تُدير موظفاً من أقرباء المدير" ولم أرِد أن أفكر فيها كثيراً لأن صاحب السؤال انفجر ضاحكاً ليهدده "بطلنا" قائلاً "لن أدعوك في المباريات القادمة إن استمريت في مشاكستي" في تجسيد حي للإدارة بالتخويف في أبهى صُورِها!
مع سير أحداث المباراة، سجل أحد الفريقين هدفاً وسمعت عبارة "فريق فعّال حقاً، سجل من فرصة واحدة"، قلت في نفسي هذه سهلة، فالفعالية (Effectiveness) في ميدان الأعمال معناها تحقيق الهدف، أما الفاعلية (Efficiency) فمعناها تحقيق الهدف باستخدام أقل قدر ممكن من الموارد، لذلك فالأصح كان "فريقاً فاعلاً"، لكني لم أجرؤ أن أصحح له، خاصة وأنه كان على أعصابه خلال الدقائق الأخيرة من المباراة، وكان يخاطب المدرب من على الشاشة قائلاً "أدخل اللاعب الفلاني وحافظ على الاستراتيجية الدفاعية لنفوز"، طبعاً هو استخدم صيغة الجمع كأنه سيربح شيئاً ما عندما يفوز الفريق الذي يشجعه، علماً أنه لم يشاهد في حياته أي لاعب من هذا الفريق أمامه ولم تطأ أقدامه ملعب هذا الفريق ولا حتى بلده الأوروبي، لكن مع ذلك وافقته على العبارة التي قالها لأن الشركات التي لديها التفوق أو ميزة تنافسية تحقق لها السبق تسعى للحفاظ عليها وتجعلها "غامضة" قدر الإمكان حتى يصعب تقليدها من طرف المنافسين، لكني عُدت وتساءلت، هل استخدام كلمة استراتيجية هنا صحيح؟ طبعاً لا، فالاستراتيجية لها بعد طويل المدى يعني على الأقل بطولة كاملة، وليس دقائق معدودة أو حتى مباراة واحدة، لذلك فالصواب كان استخدام "التكتيك الدفاعي" أو "تكتيك المباراة".
اتُهمت من قبل بعض الأصدقاء في تلك السهرة الكروية بعدم التفاعل والاكتفاء بالحضور لمجرد تلبية الدعوة، أي إنهم اتهموني ضمنياً بـ "الاستقالة الصامتة"، فتبسمت وقلت لهم إنّ "الاستقالة الصامتة سببها المدراء وليس الموظفين الكسالى"، فتعجبوا من الإجابة التي تبدو غير ذات صلة، وتابعوا حديثهم الكروي غير مدركين أني قصدت "مدير" المنزل والاستوديو الذي لم يتوقف عن ذكر الكثير من العبارات القابلة للإسقاط على ميدان الأعمال، خاصة بعد فوز فريقه المفضل وإطلاق "رؤيته الاستراتيجية" بالفوز في كأس ما بين القارات والسوبر الأوروبي وانتداب مجموعة من اللاعبين ومشاريع أخرى، لكن لم يتسنّ لي لا التفكير فيها ولا حتى مناقشته خاصة وأنه كان يلعب على أرضه من أمام مطبخه وأمام جمهوره.