ملخص: سلطت الجائحة الضوء بقوة على ضرورة أن تكون الشركات قادرة على التكيف، لكن كان على قادة الشركات التعامل مع عدة أزمات حتى قبل أزمة سنة 2020. تكمن المشكلة في أنه على الرغم من الطاقة التي يبذلها القادة في عملهم، فإن غالبية محاولاتهم لرفع قدرة المؤسسات على التكيف تبوء بالفشل. يقدم المؤلف نهجاً قائماً على مبدأ "الأقل أفضل" لتنمية القدرة على التكيف، حيث تخفف الإدارة قبضتها وتمنح المؤسسة الحرية التي تحتاج إليها كي تتمكن من العمل بفاعلية. الفكرة هي أنه على الإدارة الاكتفاء بتحديد ما تريد تحقيقه والسماح للمؤسسة بالتركيز على طريقة تحقيقه. لدى القادة 4 مبادئ للتصميم مستوحاة من مفهوم "الانبثاق" العلمي، ويمكنها مساعدتهم في غرس القدرة على التكيف في تكوين مؤسساتهم.
في السنة الماضية، كان على الكثير من الشركات استنفاد قدراتها حتى وصل بعضها إلى حدّ الإعسار المالي. ومع الضغط الشديد على العمليات وسلاسل التوريد والطلب انهارت أعمالها، وألغيت فكرة العمل الجماعي بين الموظفين تماماً.
لكن هل هذا ما حدث حقاً؟ وفقاً لمحادثاتي مع قادة الشركات، يشير الواقع إلى أن العكس هو الصحيح. فخلافاً لجميع التوقعات، يقول كثير من الرؤساء التنفيذيين إن مؤسساتهم تعمل على نحو أفضل في الأزمة. إذ يتّحد الموظفون عندما تواجه الشركة موقفاً حاسماً محصوراً بين خيارين، إما الحياة وإما الموت، فيطورون خياراً ثالثاً يمنح الشركة القدرة على النجاة واكتساب القوة.
بطبيعة الحال، فإن العمل في الأزمات ليس مستداماً أو مرغوباً. ويتساءل كثير من قادة الشركات اليوم عن طريقة للحفاظ على الزخم بعد الأزمة وضمان أن تتمتع مؤسساتهم بالقدرة على التكيف في المستقبل. كيف يمكنهم الانتقال من نموذج العمل في الأزمات إلى التفكير الاستشرافي؟
يكمن السرّ في تحقيق حالة دائمة من القدرة على التكيف. يعرف كل قائد أن شركته تحتاج إلى التكيف كي تنجو وتستمر على المدى الطويل، لكن المشكلة الحقيقية هي أنه من غير الممكن النجاح في تحويل المؤسسة دفعة واحدة، بل يجب غرس القدرة على التكيف والتحول في تكوين الشركة، وتطوير آلية أو منعكس للتعامل مع أي أزمة جديدة، سواء كانت مالية أو تكنولوجية أو بيئية أو صحية.
سلطت الجائحة الضوء بصورة كبيرة على ضرورة أن تكون الشركات قادرة على التكيف، لكن كان قادة الشركات يدركون هذه الضرورة منذ زمن طويل، فقد كان عليهم التعامل مع عدة أزمات حتى قبل أزمة سنة 2020. وبالفعل، يشعر كثير من القادة أنهم يعيشون في حالة من "التحول" المستمر منذ عقدين من الزمن، وسئم كثير منهم من هذه الكلمة.
تكمن المشكلة في أنه على الرغم من الطاقة التي يبذلها القادة في عملهم، فإن غالبية محاولاتهم لجعل شركاتهم قادرة على التكيف تبوء بالفشل. وهذا ما توصلت إليه من خبرتي الشخصية التي اكتسبتها من العمل في الإدارة وتقديم الاستشارات حول الاستراتيجية. وإذا سألت كبار المدراء عن المشكلة، فستسمع منهم الشكاوى ذاتها مرة تلو الأخرى: لم يتمكن بعض الأفراد في المؤسسة من تبني عملية التغيير؛ وبدأ كل موظف بإلقاء اللوم على الآخر، وساءت الأمور ولم يفعل أحد شيئاً لتصحيحها، ففقدت عملية التحول زخمها تدريجياً.
أين تكمن مشكلة النهج القديم؟ كان القادة يحاولون القيام بأكثر مما يجب، وكانوا يبذلون طاقة كبيرة لكنهم يوجهونها في الاتجاه الخاطئ. ومرة تلو الأخرى، لاحظت من خلال عملي مع المؤسسات أن المشكلات المعقدة لا تحتاج إلى حلول معقدة. وفيما يتعلق بالقدرة على التكيف، فالحلّ بسيط لدرجة مدهشة.
الأقلّ أفضل في الحقيقة
على مدى السنوات القليلة الماضية، كنت أشجع قادة الشركات على تبني نهج "الأقلّ أفضل"، وهو يختلف بدرجة كبيرة عن الأسلوب القديم. صُممت الشركات التقليدية بناء على الأسواق المستقرة، وهي تحمل عادة إرثاً ثقيلاً من العمليات الإدارية المعقدة، وهذا ما يجعلها متصلبة وتحويلها صعب. في هذه الشركات، عندما تشتد الأمور تزداد الإدارة حزماً، والنهج الأساسي المتبع هو أن تفرض الإدارة العليا عدداً أكبر من القواعد والضوابط الأشد صرامة كطريقة لحماية المؤسسة من الزعزعة.
لكن المشكلة هي أن تشديد الضوابط عادة يخنق المؤسسة. في الحقيقة، ما يجب على الإدارة فعله هو تخفيف قبضتها قليلاً ومنح المؤسسة الحرية التي تحتاج إليها للعمل بفاعلية. الفكرة هي أنه على الإدارة الاكتفاء بتحديد ما تريد تحقيقه والسماح للمؤسسة بالتركيز على طريقة تحقيقه. لكن عملية تخفيف القبضة مع عدم السماح للشركة بالوصول إلى حالة الفوضى في نفس الوقت تنطوي على الخطورة. لذا، يجب العمل على بنائها بالاعتماد على مجموعة من المبادئ الواضحة القائمة على العلم.
استلهمت النهج الذي وضعته من نظرية التعقيد التي تستند إلى عمل عالِم الفيزياء النظرية الأميركي الحائز على جائزة نوبل، فيليب وارين أندرسن. وأحد المفاهيم الأساسية في نظرية التعقيد هو "مفهوم الانبثاق" (emergence)، وهو الفكرة التي تقول إن التعقيد يتولد من البساطة، وإن الأشياء الصغيرة تشكل أشياء كبيرة تتمتع بخصائص تختلف عن مجموع خصائص الأجزاء الصغيرة التي شكلتها عند تفاعلها كجزء من كلّ أكبر. تتيح لك بضعة مبادئ بسيطة بناء أنظمة يتولد فيها الذكاء الكلي والقدرة على التكيف من التفاعلات والمعارف الداخلية. بعبارة أخرى، قد تكون التحديات كبيرة، لكن الحلول غالباً ما تكون صغيرة.
تقدم الطبيعة لنا أمثلة كثيرة. خذ النمل مثلاً، فهو يبني جسوراً عندما يبحث عن الطعام، وبيني مستعمرات شبيهة بالمدن الضخمة ويحمي نفسه من التهديدات بصورة جماعية. وإذا تعرضت المستعمرة لفيضان مثلاً، تستخدم بعض النملات رؤوسها لسد الفجوات، في حين تمتص نملات أخرى الماء في أجسامها كي تجفف الماء الفائض.
مبادئ تصميم القدرة على التكيف
أحب دائماً أن ألخص نهج "الأقلّ أفضل" بمبادئ تصميم موجزة تترجم مفهوم الانبثاق إلى لغة الأعمال بفاعلية. ويمكن أن يستلهم القادة من مبادئ التصميم هذه من أجل غرس القدرة على التكيف في تكوين شركاتهم. المبادئ هي كالآتي:
- حدد الغاية الأساسية. حدد غاية التحول منذ البداية. حدد الأهداف والأولويات والحدود، ووجه التغييرات مسبقاً قدر الإمكان، وادعمها بتقديم تقييمات مستمرة لمساهمة عمل الأفراد في تحقيق الهدف المشترك.
- رشّح المسؤولين. اختر "قادة" للفرق و"معاونين" لهم، وركز على المعاونين، كي يتولى كل قائد منهم ومعاونه مسؤولية العمل على أحد محاور أهدافك بصورة كاملة. يجب أن يتمكن الموظفون من التجمع في الفرق مرة بعد مرة بسهولة وفقاً للمهام الجديدة. احرص على أن تكون الفرق مرنة ومتنوعة ومتعددة الاختصاصات كي تتفادى تشكل الأقسام المؤسسية المنعزلة.
- اختبر ولا تخمّن. أجر تجارب حقيقية بدلاً من الاعتماد على ما يسمى "رأي الخبراء". اعتمد على نتائج هذه التجارب لتصميم حلول قابلة للقياس.
- شجع الصدامات. مكّن التفاعلات المباشرة المدروسة والعشوائية على حدّ سواء بين الأفراد ضمن المؤسسة، وشجع الموظفين على تبادل الأفكار والتجارب والخبرات. فبناء شبكات المعارف على نحو حيوي هو أساس رائع لعملية صناعة القرار وتحقيق الأهداف المشتركة.
يمكن لاتباع هذه المبادئ مساعدة قادة الشركات في بناء مؤسسة قادرة على التعلم بدءاً من القاعدة وصولاً إلى القمة باستخدام المعارف والخبرات الداخلية فيها. ومثل مستعمرة النمل تماماً، تستمد المؤسسة قوتها وقدرتها على التكيف من قوة الانبثاق.
تطبيق المبادئ عملياً
كيف تنطبق هذه المبادئ على العلوم التنظيمية؟ عملت مؤخراً مع مطار أوروبي اختارت قيادته اتباع نهج "الأقلّ أفضل" لخوض عملية تحول. وإليك التفاصيل.
تحديد هدف التحول
حدد أعضاء مجلس الإدارة هدفهم بأنه تحسين كل من صافي المبيعات وإجمالي المبيعات. ثم فككوا هذا الهدف إلى عدة محاور خاصة، كزيادة إنفاق المسافر وتخفيض التكاليف الإدارية. لم يكن التخمين مسموحاً فيما يتعلق بطريقة تحقيق هذه الأهداف، بل أوكلت مهمة تحديد طريقة العمل للفرق التي تعمل على الأرض في مرحلة لاحقة. كما عقد مجلس الإدارة اجتماعات مع ممثلين من جميع وحدات العمل والأقسام من أجل معرفة ما يبدو عليه النجاح بالنسبة لهم.
تمثلت فائدة هذه الاستراتيجية في أن مجلس الإدارة لم يبدأ عملية التحول بخليط من الأسئلة والحلول غير المكتملة كما يحدث عادة. فقد اعتادت الشركات على الانتقال في النقاشات الأولية من طرح الأسئلة إلى تخمين الأجوبة قبل أن يتم تحديد المشكلة تماماً، لذلك لا تتضح طبيعة المشكلة الحقيقية إلا عند نهاية المبادرة. وكما قال آينشتاين في جملته الشهيرة: "إذا كانت لدي ساعة لحل مشكلة ما، فسأقضي 55 دقيقة منها للتفكير في المشكلة، و5 دقائق للتفكير في حلّها".
اختيار المسؤولين عن المحاور المختلفة
أنشأ مجلس الإدارة فريقاً لكل محور، يعمل بقيادة قائد مسؤول عن القرارات وقائد معاون يساعده ويعمل معه كشريك. تم اختيار كل قائد ومعاونه بناء على اختلاف شخصيتيهما وأساليبهما في حلّ المشكلات وخبراتهما. وتمثلت مهمة قادة الفرق ومعاونيهم في التوصل إلى أفضل حلّ ممكن للمشكلة، والتفكير في إمكانية تنفيذه وتأثيره بصورة كاملة، ثم تعيين فريق يضم خبراء باختصاصات مختلفة من داخل المؤسسة لمساعدة القادة في عملهم.
اختبار كل حلّ على حدة
من المهم أن فرق المحاور كانت ملزمة بدعم كل حلّ تقترحه بطريقة لقياس نجاحه. وبالتالي، كان بإمكان المطار بعد ذلك اختبار كل حلّ من أجل معرفة مدى نجاحه، بناء على فكرة أنك لا تستطيع تطبيق إلا ما تستطيع قياسه. في المؤسسات التي اعتادت أكثر على التجريب والاختبار، من الممكن استخدام مؤشرات الأداء الرئيسية مثل عدد الاختبارات الأدنى والأقصى ومعدل الفشل الأدنى والأقصى.
الحرص على تبادل المعلومات بين الأفراد المشاركين
فهذا ما يفسح المجال لعملية الانبثاق. أفسح مجلس الإدارة المجال لعملية الانبثاق جزئياً عن طريق إنشاء فرق متنوعة (حيث تكون التفاعلات النشطة حتمية ومطلوبة)، وعن طريق إقامة اجتماعات مراجعة دورية كل أسبوعين يقوم في أثنائها أعضاء مجلس الإدارة وفرق المحاور المختلفة بمناقشة الوضع الحالي والأفكار وأفضل الممارسات والأسئلة المطروحة. كما خُصصت غرفة في المطار يمكن لجميع المشاركين في البرنامج الدخول إليها. وهي تضم سبورتين لتدوين مستجدات تقدّم الفرق وأسئلتهم وتعليقاتهم. كما استخدمت هذه الغرفة لعقد اجتماعات المراجعة وكمكان يتبادل فيه المشاركون في البرنامج أفكارهم بصورة غير رسمية. وفي أثناء فترة الحجر المنزلي، استبدلت هذه الغرفة بغرفة افتراضية.
الحرص على جعل العملية جزءاً من الأعمال التشغيلية الروتينية، لا مناسبة خاصة تحدث مرة واحدة
الأهم هو أن قيادة المطار نقلت هذه المبادرة إلى الهيكل التنظيمي الرأسي، إذ عملت بفاعلية على تأسيس طريقة جديدة للعمل، مع إجراء التحول في الوظائف لا في غرفة اجتماعات مجلس الإدارة. وفيما يخص الهدف الكلي للمشروع، كان التنفيذ ناجحاً بدرجة كبيرة، فقد ازدادت إيرادات المطار بنسبة تجاوزت الهدف الأصلي بما يزيد عن الضعف. لكن الأهم هو أن المطار تمكن من دمج حالة دائمة من القدرة على التكيف في بنيته التنظيمية.
دور قائد الشركة في المؤسسة القادرة على التكيف
في المؤسسات التقليدية، يركز القائد الأعلى على اتخاذ القرارات التشغيلية، لاسيما المهم منها. أما في المؤسسات القادرة على التكيف، فالقائد يركز على تسهيل نشوء البيئة المناسبة. وفي حالة المطار، كان تركيز مجلس الإدارة على البحث عن القادة والمعاونين المناسبين للفرق ومقاومته للرغبة في المشاركة في تصميم الحلول مذهلين حقاً. منح مجلس الإدارة ثقته لهذه الفرق وخفف قبضته على زمام الأمور بالتدريج وبطريقة مدروسة، فتمثلت النتيجة الرائعة في حلول قوية مبتكرة انبثقت من المؤسسة نفسها.
كيف يمكنك التحقق مما إذا كنت تقوم بأكثر مما يجب لتحقيق قدرة المؤسسة على التكيف، وتبالغ في التدخل بتفاصيل العمليات الدقيقة؟ أقترح عليك تمريناً سريعاً كنت أجريه مع عملائي، وستكتشف من خلاله ما إذا كنت تحكم قبضتك على زمام الأمور وتمنع الانبثاق من تحقيق نتائجه السحرية. حاول أن تحصي عدد القرارات التي تتخذها في اليوم الواحد. إذا كنت تتخذ قرارات كثيرة، فعلى الأرجح أنك لا تمنح مؤسستك الحرية التي تحتاج إليها كي تتمكن من تنظيم نفسها. عندئذ، تكون المهمة الوحيدة الأكثر فاعلية التي يجب عليك تنفيذها هي تخفيض عدد القرارات التي تتخذها كل يوم.
وستذهلك نتائج القيام بعمل أقلّ، وليس أكثر.