بالتأكيد سمعت يوماً ما تلك النصيحة المعروفة التي تقول: "إذا كنت تفعل ما تحب، فلن تعمل يوماً واحداً في حياتك". وبكل صدق هي فكرة لطيفة، ولكنها لا تعدو أن تكون مجرد وهم. فما علاقة الاحتراق الوظيفي للفريق بذلك؟
فعندما نساوي القيام بما نحب بـ "عدم العمل"، فإننا بذلك نروج لفكرة إننا إذا كنا نحب ذلك العمل جداً، فعلينا أن نعمل أكثر وأكثر. فمن سيحتاج إلى يوم إجازة إذاً إن لم يكن يعمل حقاً؟ ودعماً لهذا المعتقد، هناك صناعة بأكملها ملتزمة بنشر هذه العقلية، سواء عن الطريق الكتب، أو الخطابات الحماسية، أو حتى متاجر السلع الرخيصة التي تبيع أكواماً من السلع المطبوع عليها مقولات تدور حول فكرة "العمل هو السعادة". ولكن، هذه العقلية تؤدي إلى الاحتراق الوظيفي، بل وقد ينتج عنها عواقب وخيمة وصعبة الاكتشاف.
الاحتراق الوظيفي في العمل
وبصفتي خبيرة في مجال السعادة في مكان العمل ومتحدثة عالمية حول رفاهية مكان العمل، من السهل جداً أن أُستهلك بسبب شغفي بهذا الموضوع تحديداً. إذ إنني أحب عملي كثيراً، ولذلك من السهل أن أقع ضحية للإنهاك الشديد. وربما تكون هذه إحدى مفارقات وظيفتي. ورغم حبي لها، لكنني لن أدّعي أنني لا أشعر أن ما أقوم به هو عمل فعلياً. إن الأمر أشبه ما يكون بالتورط في علاقة حب معقدة. ففي لحظة ما تكون مشوقة وحماسية وجاذبة، بينما تصبح في اللحظة التالية مرهِقة وقاهرة وأشعر أنني بحاجة إلى استراحة.
اقرأ أيضاً: للتخلص من الإنهاك الشديد... استعد إحساسك بالتحكم
وعلى مدى عقود، تم إهمال مصطلح "الاحتراق الوظيفي"، إذ اُتهم على نحو خاطئ أنه شعور مزيف وأزمة يعاني منها العالم الأول، وأنه من وحي جيل الألفية والجيل الذي يليه الذين يرغبون في تحقيق مزيد من التوازن بين الحياة المهنية والخاصة. والحقيقة أن القوة العاملة الشابة محقة فعلاً. ومع ازدياد مطالبتهم بالحصول على عمل أكثر جدوى (بل أنهم ادعوا قبولهم أجراً أقل بنسبة 32% مقابل هذا المفاضلة)، سيبقى الاحتراق الوظيفي، وخاصة المدفوع بتحقيق الأهداف، قلقاً متنامياً. في دراسة استقصائية قامت بها شركة "غالوب"، تضم 7,500 موظف بدوام كامل، أفاد 23% منهم أنهم يشعرون بالاحتراق الوظيفي في العمل كثيراً أو دائماً، بينما قال 63% منهم إنهم يشعرون به أحياناً.
ومؤخراً، أدرجت منظمة الصحة العالمية "الاحتراق الوظيفي" إلى تصنيفها الدولي للأمراض International Classification of Diseases) ICD-11) بدعوى أنه "يشير إلى ظاهرة ضمن السياق المهني... ومتلازمة ناتجة عن التوتر المزمن في مكان العمل الذي لا يتم إدارته كما ينبغي". وأشارت المنظمة إلى أنه يمكن تمييز هذه المتلازمة من خلال ثلاثة أبعاد: 1) مشاعر استنفاذ الطاقة أو الإجهاد، 2) البعد الفكري عن مضمون الوظيفة، أو ارتباط مشاعر السلبية أو التكهم بالوظيفة، 3) انخفاض الكفاءة المهنية.
وأُعدت المراجعة الحادية عشرة للتصنيف الدولي للأمراض ICD-11 استجابةً لتوصيات خبراء الصحة العالميين، لتحقيق الهدف المنشود بإنهاء الجدل حول تعريف "الاحتراق الوظيفي" وفيما إن كان يجدر إدراجه كحالة طبية أم لا. والآن، سيُعترف به عالمياً كمتلازمة لا كمرض، وبعد التعريف الواضح الذي وضعته منظمة الصحة العالمية، يحب أن يزداد عدد مقدمي خدمات الرعاية الصحية وشركات التأمين المستعدين للإقرار بهذه الأعراض ومعالجتها وتغطيتها.
اقرأ أيضاً: كيف تكون عطوفاً مع الآخرين من أجل تجنب الإنهاك؟
ورغم أن متلازمة الاحتراق الوظيفي تلك قد تصيب أي شخص، وبأي عمر، وضمن أي قطاع عمل، إلا أنه من المهم الإشارة إلى أن بعض القطاعات والمناصب أكثر عرضة لهذه المخاطر من غيرها، ويعد العمل المدفوع بتحقيق الأهداف - العمل الذي يحبه العاملون فيه ويشعرون بالشغف تجاهه - واحداً منها. ووفقاً لدراسة نُشرت في "مجلة الشخصية" (Journal of Personality)، يولد هذا النوع من العمل شغفاً استحواذياً، على عكس المتناغم، مما قد يزيد مستوى النزاع، وبالتالي الاحتراق الوظيفي. وفي قائمة مايو كلينك، يرتبط اثنان من مخاطر الاحتراق الوظيفي من بين المخاطر الستة المدرجة بهذه العقلية: وهما: "ترتبط كثيراً بعملك لدرجة الافتقار إلى التوازن بين حياتك المهنية والشخصية" و/أو "تعمل في مهنة قائمة على تقديم المساعدة". وقد حلّلت دراسة كندية إجابات 3,715 موظفاً عبر 12 مؤسسة، ووجدت أن الموظفين العاملين في مهَن مدفوعة بتحقيق الأهداف معرضون للتوتر بصورة أكبر وتقلّ لديهم مستويات الرفاهية والقدرة على التحمل والكفاءة الذاتية مقارنة بالعاملين غير المدفوعين بتلك الأهداف. وفي مقابلة لي مع ديفيد وايتسايد، الحاصل على دكتوراه في السلوك التنظيمي ومدير الأبحاث في شركة بلاستيسيتي لابز (Plasticity Labs)، أكّد قائلاً: "على الرغم من الفوائد العديدة لشعورك بالانخراط المجدي بعملك، إلا أن بياناتنا تشير إلى تعقيدات حقيقية وغير مناقشَة مرتبطة بالوظائف المدفوعة بتحقيق الأهداف تؤثر على صحة الموظفين وقد ترتبط بالإصابة بالاحتراق الوظيفي على المدى البعيد".
الأفراد الأكثر عرضة للتعب الشديد
ويعد المسؤولون التنفيذيون الذين يركزون على المهام، والموظفون العاملون في مؤسسات غير ربحية، والمدرسون/مدراء المدارس، والأطباء من الأشخاص الأكثر عرضة لخطر الاحتراق الوظيفي. إذ كتب إدوارد إليسون، مدير طبي ومدير تنفيذي مشارك في الاتحاد الدائم (Permanente Federation)، عن الآثار السلبية الهائلة لإنهاك الطبيب في مجلة سجلات الطب الباطني (Annals of Internal Medicine) قائلاً: "بالإضافة إلى القلق والإحباط والأرق والإجهاد العاطفي والجسدي وفقدان التركيز المعرفي المرتبط بإنهاك الطبيب، ينتحر من 300 إلى 400 طبيب أميركي سنوياً". وهو معدل انتحار أكبر بكثير من معدل انتحار عامة الناس، وهو أعلى بنسبة 40% عند الرجال ونسبة 130% عند النساء. كما وجدت دراسة هولندية أن الطبيبات الإناث تشعرن بمزيد من التعاطف تجاه المرضى، وبالتالي تتعرضن لمستويات أعلى وأعمق من الاحتراق الوظيفي، وهذه واحدة من الفرضيات التي تفسر معدلات الانتحار العالية بصورة مخيفة.
وبعيداً عن المجالات القائمة على تقديم الرعاية، تظهر أيضاً متلازمة الاحتراق الوظيفي عندما يربط القادة ساعات العمل الطويلة بالتقدم في العمل، وعندما يُتوقع ضمنياً من الموظفين القدوم إلى العمل على الرغم من إصابتهم بأعراض جسدية أو نفسية، وعندما تميل بيئات العمل التي تركز على الإنتاج والمبيعات الداخلية والبيئات النائية إلى إهمال جانب بناء العلاقات والذي ثبت بأنه يزيد من شعور الوحدة.
في محاولة للموازنة بين الشغف المتناغم والشغف الاستحواذي، يعتقد الدكتور أليسون بضرورة الاستفادة من التقنيات الجديدة، مثل الابتكارات في مجال الذكاء الاصطناعي والأتمتة، لمساعدته في تبسيط حفظ السجلات الطبية في مؤسسته. ولكن على جانب آخر، فإن التطورات التقنية في أي مجال يمكن أن تكون مفيدة وضارة على حد سواء، بحسب اعتقاد إيمي بلانكسون، المؤسسة والمديرة التنفيذية لبوزيتيف ديجيتال كالتشر (Positive Digital Culture). حيث أوضحت قائلة: "في ثقافتنا التي تفرض ’التواجد الدائم’، نعاني من وضع حدود رقمية" وخاصة عندما نحب وظيفتنا. وأضافت: "يشعر أكثر من 50% من الموظفين الأميركيين بضرورة تفقد البريد الإلكتروني بعد الساعة الحادية عشرة مساءً للمحافظة على العمل. وبالتالي، يزداد الاحتراق الوظيفي ويقل الانخراط". حتى إن إحدى الدراسات وجدت أن تقنية المعلومات في مجال الصحة زادت مستوى الاحتراق الوظيفي عند 70% من الأطباء الذين شملتهم الدراسة.
اقرأ أيضاً: عندما تتعاون الفرق لمحاربة الإنهاك
إذاً ما الذي يمكن أن يفعله القادة للحيلولة دون معاناة الموظفين المدفوعين بتحقيق الأهداف في مؤسساتهم؟ في هذا الشأن، يؤكد الدكتور إليسون، أن هؤلاء القادة يمكنهم الحد من عقلية "التواجد الدائم" من خلال الانتباه حينما يتحول الشغف إلى سلاح ذي حدين. فيقول: "إن كان لديك الإلهام القوي للقيام بما تقوم به، ربما يكون هذا دليلاً على أنك لا تجيد وضع الحدود كما يجب. ينبغي علينا تعليم الناس أنه لا بأس بوضع الحدود. وأن ذلك لا يعد أنانية، إنه حقاً نوع من أنواع الإيثار. لأنه بذلك سيتيح لك أن تكون أكثر فاعلية عند قيامك بعملك، وأن تساعد الأشخاص الذين ترغب بخدمتهم بصورة أفضل".
الاهتمام برفاهية الموظفين
وهنا، تؤكد الدكتورة كارولين إلتون، أخصائية نفسية مهنية ومؤلفة كتاب “وإنسان أيضاً“ (Also Human) على أن "الاهتمام برفاهية الموظفين هي مسؤولية القادة". وتقترح بعض الأساليب التي تتضمن مراقبة "مؤشرات غير مباشرة" مثل غياب الموظفين، ومعدل الدوران الوظيفي، بالإضافة إلى اتباع سياسات واضحة تسمح بالتعامل مع حالات المضايقة والتقويض وحتى الإبلاغ عن المخالفات دون أن يشعر الناس بأنهم يخاطرون بوظائفهم. وتشير إلى أنه على الرغم من أهمية الوعي والوكالة الذاتىَّين، إلا أنه لا ينبغي على الموظفين المجهَدين تحمل عبء حل هذه المشكلة. وتعتقد أنها مشكلة منهجية، وأن القادة قد يرغبون "بالتخلي عن صفة القدرة على التحمل"، لأنها تشير إلى ضرورة تمكّن الأفراد من تجنب الاحتراق الوظيفي أو التعافي منه بأنفسهم. والآن حينما وضعت "منظمة الصحة العالمية" تعريفاً واضحاً للإنهاك الشديد، واعترفت به كتهديد مشروع، يمكن أن تركز المؤسسات على أدوات القياس والبرمجة والدعم التي قد تنشأ عن تعريف هذه المتلازمة.
ففي نهاية يوم شعرنا خلاله بإلهام وإثارة عبر انخراطنا بشغف بعمل مجد وهادف، نرغب جميعنا بالعودة إلى المنزل وإلى حياتنا الشخصية. ومن الواضح أن هذا أفضل من الرتابة والضجر اللذين قد يسببان أيضاً إنهاكاً شديداً. ولكن علينا أن نكون حذرين: عندما تشعر بأن شغفك أو شغف موظفيك تجاه العمل قد أصبح مضنياً، ربما يكون الوقت المناسب لأخد استراحة أو عرضها عليهم من أجل تجنب الاحتراق الوظيفي للفريق وتجاوز مشكلة فقدان الشغف في العمل.
اقرأ أيضاً: متى يكون الإنهاك علامة على ضرورة ترك وظيفتك؟