نموذج أفضل لعملية التوقع الاقتصادي في ظل الجائحة

5 دقائق

ملخص: تمثّل جائحة "كوفيد-19" مشكلة فريدة بالنسبة للقائمين على عملية التوقع الاقتصادي؛ فهي مشكلة تتفرّد في مدى حاجتها إلى حل عاجل. كيف يمكن مواءمة التوقعات بدقة لتعكس احتياجات المستهلكين ومواقفهم وسلوكياتهم المتغيّرة بسرعة؟ يتمثّل الحل في إدراج ميول المستهلكين في نماذج التوقع الاقتصادي. وقد يتطلب ذلك من خبراء الاقتصاد الجمع بين عمليات الإيداع والسحب وبين البيانات النوعية المستمرة حول ميول المستهلكين. وتقدّم هذه المقالة مثالاً فاعلاً لمثل ذلك النموذج الذي توقع بدقة عادات إنفاق المستهلكين في القطاعات الأكثر تضرراً بين شهري أبريل/نيسان ويونيو/حزيران من عام 2020.

 

عندما فرضت الولايات المتحدة تدابير الإغلاق العام في منتصف شهر مارس/آذار استجابة لجائحة فيروس "كورونا"، برزت التوقعات الاقتصادية إلى دائرة الضوء. واحتلت قضية مستقبل وظائفنا وشركاتنا والاقتصاد بشكل عام المرتبة الثانية بعد المخاوف المتعلقة بالصحة العامة، وزادت تلك القضية من وطأة المشكلات التي تُثقل كاهل دولة متأهبة.

تعرض الجائحة مشكلات فريدة عندما يتعلق الأمر بالتوقع الاقتصادي. وكما لاحظت شركة "فوكاس إيكونوميكس" (FocusEconomics)، وهي مزود للتحليلات الاقتصادية وتُجري استبيانات على المئات من خبراء الاقتصاد من البنوك الرائدة ومراكز التفكير، نمت توقعات النمو الاقتصادي للربع الثاني في الولايات المتحدة من 3.5 نقطة مئوية في أوائل شهر فبراير/شباط إلى 56.8 نقطة مئوية في شهر أبريل/نيسان. وبينما يتوقع معظم خبراء الاقتصاد أن يشهدوا تعافياً في الناتج المحلي الإجمالي في النصف الثاني من العام، فما هو ما مدى ارتياح واضعي السياسات لتوقعات الربعين الثالث والرابع بعد تضارب توقعات الربع الثاني؟ قدّم خبراء الاقتصاد في "البنك الاحتياطي الفيدرالي" الأميركي توقعاً أولياً يظهر تحسناً في الربعين الثالث والرابع مصحوباً بتحذير يفيد "بأن احتمالية صدق التوقعات المتشائمة لا تقل في معقوليتها عن التوقع الأولي". ومن المؤكد أن تلك البيانات لا تبعث على الثقة تماماً.

إن الحاجة إلى وضع توقعات اقتصادية في التوقيت المناسب ويمكن التعويل عليها، أصبحت واضحة وضوح الشمس. لكن بدلاً من ذلك يتزايد توجه واضعي السياسات والشركات إلى مصادر البيانات البديلة الآنية، مثل بيانات انتقالات المواطنين التي يحصلون عليها من شركتي "آبل" و"جوجل"، أو بيانات معاملات بطاقات الائتمان. وعلى الرغم من أهمية مصادر البيانات تلك، تبقى مفتقرة إلى السياق المهم ويتعذر ربطها بالتوجهات الاقتصادية الأكبر. على سبيل المثال، لا تسجل بيانات بطاقات الائتمان تأثير هذه الجائحة على المعاملات النقدية، ولا توضح البيانات المتعلقة بانتقالات المواطنين ما إذا كان المستهلكون ينفقون أموالاً أكثر أو أقل عندما يصلون إلى وجهاتهم.

تطوير نهج يقدم التوقعات الاقتصادية بدقة واستمرار

ومع ذلك، أصبحت عملية وضع توقعات يمكن التعويل عليها ممكنة اليوم إذا ما نظرنا إلى العنصر المفقود، ألا وهو تعزيز فهم احتياجات المستهلكين ومواقفهم وسلوكياتهم المتغيرة. ومع وضع ذلك في الاعتبار، طورنا نهجاً يقدم توقعات دقيقة بشكل مستمر، حتى في أوقات الغموض، وذلك من خلال الجمع بين مؤشر ميول المستهلكين المستقبلية وبيانات المعاملات الآنية.

ابدأ بفهم ميول المستهلك

يشكّل الإنفاق الاستهلاكي الشخصي ما يصل إلى 70% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي حال لم يواصل المستهلكون عادات الإنفاق التي اتبعوها قبل جائحة "كوفيد-19"، أو غيّروا أنماط الشراء التي مارسوها في الماضي، سيكون تأثير تلك العادات على القطاعات الاقتصادية الفردية وعملية التعافي العام كبيراً. وتتمثّل الطريقة الوحيدة لتحسين مصداقية التوقعات الاقتصادية في ظل هذه الجائحة في تعزيز النماذج من خلال إجراء تقييم مستمر لأنماط الإنفاق السابقة والحالية والمتوقعة لدى المستهلكين.

ونظراً لتباين القيود المفروضة على الولايات المتحدة منذ عدة أشهر، ستخلق العادات التي اكتسبها المواطنون بعد فرض تدابير التباعد الاجتماعي والمخاوف الدائمة من التقاط العدوى تحولات طويلة الأمد في سلوكيات الشراء لدى المستهلكين. على سبيل المثال:

  • أصبح لدى المستهلكين الكثير من الوقت لتجربة عادات العمل عن بُعد والتجارة الرقمية واتباع عادات جديدة، إذ قد يستمر نظام العمل عن بُعد فترة طويلة، حتى بعد إعادة فتح الدول.
  • ومع قرب انتهاء تدابير الإغلاق العام واستمرار تغير قيود التباعد الاجتماعي، سيواصل المستهلكون تجربة سلوكيات التجارة الرقمية الجديدة، وبالتالي، ستستمر بعض العادات في التشكل والتطور.
  • ومن دون التوصل إلى حل طبي على المدى القريب، حتى بعد إعادة فتح الدول، سيواصل بعض المستهلكين اتباع تدابير التباعد الاجتماعي لحماية أنفسهم ومن حولهم.

ولا شك أن التأثير المشترك لتلك التغييرات سيؤثر على شكل التعافي الاقتصادي ووتيرته.

انتقل بعد ذلك إلى بيانات المعاملات المالية والتجارية

تتطلّب هذه البيئة المتغيرة باستمرار أن يكتسب خبراء الاقتصاد وقادة الأعمال رؤية واضحة بشأن سلوك المستهلكين في المستقبل من خلال تحليل بيانات معاملات الإيداع والسحب وتفحّص ميول المستهلكين المستقبلية.

يمكننا التركيز على فئات الإنفاق التي قد تتأثر بالتغييرات في سلوك المستهلكين على المدى القريب والبعيد، مثل قطاعات السفر والمطاعم والترفيه والبيع بالتجزئة والبقالة وتحسين جودة المنازل والغاز، وذلك بالاستفادة من قاعدة بيانات تضم 500,000 حساب إيداع وسحب مع إمكانية الاطلاع على أنماط المعاملات بشكل أسبوعي. وتشكّل تلك الفئات مجتمعة ما يقرب من 4 تريليون دولار من الإنفاق الاستهلاكي لعام 2019 أو 30% من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي الشخصي.

أما فيما يتعلق بقياس مقدار الإنفاق المستقبلي، نقوم بإشراك عينات ممثلة وكبيرة من المستهلكين الأميركيين في المقابلات الشخصية المستمرة التي تعقد عبر الإنترنت. ونجمع معلومات حول أنماط الشراء التي ينوي المستهلكون اتباعها في ظل سيناريوهات واقعية متعددة تشمل شروط إعادة الفتح وتوقيته. ونظراً لأن الظروف في حالة تغير مستمر، يجري تحديث تلك السيناريوهات كل شهر لتعكس المعلومات الجديدة بعد أن أصبحت متاحة للعامة.

وتؤكد توقعاتنا على وجود صلة وصل بين أنماط المعاملات السابقة والإنفاق الاستهلاكي المتوقع في الأشهر القادمة. إذ أجرينا من شهر أبريل/نيسان حتى شهر يونيو/حزيران 9,000 مقابلة شخصية مع المستهلكين واستخدمنا هذا النهج لمحاولة وضع توقع دقيق حول معدل التعافي عبر القطاعات الأكثر تضرراً، مثل قطاعي السفر والمطاعم.

يتمثّل أحد تحديات التوقع الفريدة ضمن هذه البيئة في تأثير الجائحة على المستهلكين الذين قللوا من نفقاتهم النقدية. وبالتالي، قد نحصل على توقعات متفائلة حول وضع التعافي عند الاعتماد على بيانات الإيداع والسحب بشكل حصري، لاسيما في القطاعات التي تكون المعاملات النقدية فيها أكثر رواجاً، مثل المطاعم.

ويمكن لخبراء الاقتصاد والشركات تحسين جودة توقعاتهم بشكل كبير، وذلك من خلال الجمع بين أنماط معاملات الإيداع والسحب السابقة وآراء المستهلكين التي يمكن أن نستخلص منها مقدار الإنفاق النقدي وعمليات الإيداع والسحب المتوقعة. على سبيل المثال، توقعنا في شهر مايو/أيار تحسناً بنسبة 13% في مبيعات التجزئة، بينما توقع بقية القطاع ارتفاعاً بنسبة 9% فقط. في النهاية، أفادت وزارة التجارة الأميركية عن تحسن قياسي بلغ نسبة 17.7% في شهر مايو/أيار، بفارق 5% فقط من توقعاتنا.

توقعات الإنفاق الاستهلاكي

كيف يبدو المستقبل في الوقت الحالي؟

مع قيام العديد من الدول بالإبلاغ عن ارتفاع حالات الإصابة بعدوى "كوفيد-19" في وقت كتابة هذا التقرير، لا يمكن لأحد أن يتوقع التأثير طويل الأمد لتلك الجائحة بشكل كامل. ومع ذلك، تُمكننا عملية تقييم ردود فعل المستهلكين على سيناريوهات إعادة الفتح الواقعية والافتراضية من تكوين فكرة حول الرغبة المكبوتة في العودة إلى الحياة الطبيعية. وفي حال أُعيد فتح جميع القطاعات بالكامل، تُظهر بياناتنا رغبة المستهلكين الجامحة في استئناف الإنفاق، حتى في الفئات الأكثر تضرراً، مثل السفر.

المستهلكون سيكونون مستعدين للإنفاق عند إعادة الفتح

واصل عملية القياس في ظل الأزمة

لا شيء ثابت في الوضع الحالي. ومع ظهور معلومات جديدة حول الفيروس، والقيود المفروضة على إعادة فتح قطاعات الاقتصاد المختلفة، وتأثير جائحة "كوفيد-19" على الوضع المالي للمستهلكين، سيستمر مجتمعنا في التكيف مع الوضع الطبيعي الجديد. ويُعتبر القياس المستمر للإنفاق المتوقع جزءاً مهماً من التوقعات الاقتصادية التي تتمتع بمصداقية، وذلك نظراً للطبيعة الفريدة لهذه الأزمة والتأثير الدائم والمحتمل للتباعد الاجتماعي على عادات الاستهلاك. ويمكن للمحللين وضع أساس سليم لعملية توقع المستقبل من خلال ربط بيانات معاملات الإيداع والسحب بميول المستهلكين التي تتيح لنا وضع تقديرات حول معدل الإنفاق المستقبلي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي