التوقّعات الاقتصادية وأسباب صعوبتها في ظل جائحة فيروس كورونا

4 دقائق
التوقّعات الاقتصادية في ظل جائحة فيروس كورونا

كيف تُحدد التوقّعات الاقتصادية في ظل جائحة فيروس كورونا تحديداً؟ تسببت جائحة فيروس كورونا في موجة عنيفة من الغموض طالت المجتمع بكل مكوناته تقريباً، فهل ستصمد أنظمة الرعاية الصحية؟ وهل سينجح العلماء في تطوير لقاح (مصل)؟ وهل تتوافر عوامل الأمان للعاملين في قطاع الخدمات الأساسية؟ ومتى تستطيع العمالة المنتظمة العودة إلى مقرات عملها؟ يبدو أن إجابة هذه الأسئلة تتغير من يوم لآخر، إذا توافرت لها إجابة في الأساس، ومع كل تغيير ترتفع أو تنخفض مؤشرات سوق الأسهم (وآمالنا معها).

التوقّعات الاقتصادية في ظل جائحة فيروس كورونا

منذ ظهور جائحة كورونا (كوفيد-19)، والغموض يسود المشهد الاقتصادي ويلقي بظلاله القاتمة على توقعات الاقتصاد الكلي التي تباينت تبايناً مفاجئًا وهائلًا، فعلى سبيل المثال في بداية فبراير/شباط كان الفارق بين توقعات النمو الاقتصادي للربع الثاني في الولايات المتحدة 3.5 نقطة مئوية وفقاً لبيانات مؤشر "فوكاس إيكونومكس" (FocusEconomics)، وبحلول 29 أبريل/نيسان، أكد أكثر التوقعات تفاؤلاً بين 28 مؤسسة في استقصائنا الأسبوعي حول الأوضاع في ظل فيروس كورونا أن الاقتصاد الأميركي سينكمش بنسبة 8.2%، فيما حذر أكثر التوقعات تشاؤماً من انكماش هائل بنسبة 65.0%، بفارق بقيمة 56.8 نقطة مئوية، وبمتوسط -31.4%، وفي حين توقعت معظم المؤسسات حدوث انتعاش اقتصادي في الربع الثالث، فقد توقع البعض المزيد من التراجع، وعلى الرغم من توقع جميع خبراء الاقتصاد نمواً بطريقة ما في الربع الرابع، فقد تراوحت التوقعات بين الحد الأدنى بنسبة +1.1% والحد الأقصى بنسبة +70.0%، وتعتبر الفروق الملحوظة في الأسابيع الأخيرة أكبر نسبة مسجلة منذ أن بدأنا مزاولة نشاطنا في الولايات المتحدة قبل عقد من الزمان.

وبإلقاء نظرة على الدول التي عملنا فيها لمدة زمنية أطول، نجد أن التوقعات الحالية المتباينة بين المحللين أكبر بكثير من أي مرحلة خلال الأعوام العشرين الماضية، وأعلى بكثير من تلك التي لوحظت خلال ذروة الأزمة المالية التي كانت آخر الفترات المشوبة بالغموض الشديد والمطول على مستوى العالم، حيث شهدت كلٌ من البرازيل والمكسيك خلال الأزمة المالية لعام 2008، على سبيل المثال، اتساع الفارق في توقعات الناتج المحلي الإجمالي السنوي بما يقرب من 6 نقاط مئوية قبل أن يعود الفارق إلى أقل من ثلاث نقاط مئوية في معظم فترات 2010، أما الآن فقد بات فارق النقاط المئوية أكبر من 7 نقاط.

لماذا هذا التباين الشاسع؟

يمكن الإجابة باختصار عن هذا السؤال أن سبب هذا التباين الشاسع هو أنه لا يوجد أحد يعرف يقيناً ما سيحدث، وإن شئنا التعمق أكثر في التفاصيل، فهناك ثلاثة عوامل رئيسية تتسبب في صعوبات خاصة أمام خبراء التوقعات.

أولاً: لم يسبق للعالم أن تعرّض لأزمة كانت آثارها الاقتصادية بهذه الدرجة من العنف وأدت إلى تغيير السياسات بهذه السرعة، ففي الظروف العادية تحاول معظم الحكومات على الأقل تشجيع النمو الاقتصادي والحفاظ على معدلات التوظيف، أما اليوم فهي تتعمَّد الدفع نحو الركود الاقتصادي في سبيل إنقاذ حياة مواطنيها وتتخذ تدابير الاحتواء التي تسحق النشاط المحلي سحقاً، وببساطة يؤدي خطأ واحد في حساب تاريخ انتهاء الإغلاق على مستوى الدولة بفارق أسبوعين اثنين إلى حدوث خلل كبير في توقعات الناتج المحلي الإجمالي السنوية، وعلاوة على ذلك فإن القوانين التي كانت تستمر مناقشاتها عادة لأشهر طوال في قاعات البرلمانات ما بين أخذ ورد، يجري الآن استعجال إصدارها خلال أيام معدودات عبر الهيئات التشريعية بسبب تسابق الحكومات والبنوك المركزية للاستجابة للانتشار السريع للفيروس، حتى إن العديد من الحكومات أعلنت حالة الطوارئ التي تسمح لها بالحكم بإصدار قرارات لها قوة القانون، أضف إلى ذلك حزم الحوافز المالية والنقدية التي يتم الإعلان عنها لتخفيف حدة الانكماش الذي ظهر خلال الأزمة المالية. وبالنسبة إلى خبراء التوقعات الاقتصادية، فإن مواكبة سلسلة الإجراءات المتوالية ودمجها بشكل صحيح في نماذج التوقعات الاقتصادية يشكلان تحديات يصعب التغلب عليها.

ثانياً: يقوض الوباء موثوقية البيانات الاقتصادية، وهي الأساس الذي يقوم عليه أي نموذج جيد للاقتصاد الكلي، ولاسيما أننا نعاني نقصاً في البيانات المستندة إلى الدراسات الاستقصائية للشركات والأسر بسبب إجراءات الإغلاق التي تحد من معدلات الاستجابة، وهو ما يؤدي بدوره إلى تضخيم أخطاء العينات المأخوذة، فقد شهدت بيانات شهر مارس/آذار الصادرة عن مكتب إحصاءات العمل الأميركي، على سبيل المثال، انخفاض معدلات استجابة المؤسسات والأسر بنسبة تسع و10 نقاط مئوية على التوالي مقارنة بآخر متوسطات.

وأوضح بول دونوفان، كبير الخبراء الاقتصاديين في مؤسسة "يو. بي. إس لإدارة الثروات العالمية" (UBS Global Wealth Management) هذه المشكلة قائلاً: "إذا أقدمت على ملء نماذج الاستقصاء في ظل الإغلاق الذي تمليه الظروف الحالية، فستملؤه غالباً وأنت في غير حالتك المعتادة، وقد تكون غير مؤهل للإجابة عن بعض الأسئلة، إذ تؤثر المشاعر على إجابات الاستقصاءات، وهناك بيانات -مثل تضخم أسعار المستهلك- تشمل أسعار المطاعم، ولكن المطاعم مغلقة، فماذا يحدث عندما تستقصي شيئاً غير موجود؟ وسيرتفع في الغالب سقف الإنفاق على الإنترنت خلال فترات الإغلاق، وقد يظل الإنفاق عبر الإنترنت عند أعلى مستوياته بعد انتهاء فترات الإغلاق، ولكن قد تعجز البيانات الرسمية عن رصد هذه الظواهر بشكل صحيح".

أما السبب الثالث لتباين النماذج بصورة ملحوظة فيتمثل في اضطرار خبراء التوقعات الاقتصادية إلى الخوض في عالم علم الأوبئة الغريب عليهم من أجل فهم التطور المحتمل لتفشي فيروس كورونا في كل دولة على نحو أفضل، إلا أن هذه المسألة تشكل تحدياً حتى لخبراء الصحة أنفسهم، وذلك بسبب صعوبة التنبؤ بنطاق التدخلات الصحية العامة وفاعليتها في المستقبل، أو كيفية استجابة أنظمة الرعاية الصحية حال تعرضها لضغوط غير معتادة، خاصة في الدول التي تتعامل مع المراحل المبكرة من الجائحة. لا يوجد جدول زمني محدد للتوصل إلى علاجات أو لقاحات قادرة على تغيير مجرى الأحداث، كما نفتقر إلى الوضوح بشأن احتمالية ظهور الموجة الثانية لتفشي الفيروس أو مدى شدتها.

التعامل مع حالة الغموض

يجب تضييق دائرة تباين التوقّعات الاقتصادية إلى حد ما في المستقبل. صحيح أن فاعلية الحوافز التنشيطية التي طُبّقت مؤخراً ستتضح على نحو أكثر جلاء بمرور الوقت، وستتضاءل الإجراءات المالية أو النقدية على الأرجح خلال الفترة المقبلة، وسيسهل جمع البيانات الاقتصادية بالتزامن مع الرفع التدريجي لحالة الإغلاق، وستتحسن معرفتنا بالفيروس وسبل انتشاره، لكن يجب التريث حتى يتم التوصل إلى حل دائم للوباء، كالتوصل مثلاً إلى لقاح للمرض، قبل الحديث عن العودة إلى مستويات اليقين الاقتصادي في زمن ما قبل الفيروس.

وفي حين أن جائحة كورونا تشكل تحدياً غير مسبوق لخبراء توقعات الاقتصاد الكلي، فقد واجه القائمون على هذا التخصص صدمات لا تقل عنفاً في الماضي وخرجوا منها أكثر قوة، حيث أخذت الأزمة المالية العالمية لعام 2008 معظم خبراء الاقتصاد على حين غِرَّة، لكن الرؤى الثاقبة المكتسبة في مجالات مثل اقتصاديات العدوى المالية وأثر التدابير النقدية غير التقليدية أدت إلى تحسين جودة نماذج التنبؤ الحالية، وبالطريقة نفسها، سوف يلقي مرض "كوفيد-19" الضوء على زوايا جديدة لمجالات مثل الاقتصاد السلوكي، كسبل تأثر إنفاق المستهلكين بالخوف من العدوى، والآثار الاقتصادية للسياسة المالية الراديكالية، كما أن المعرفة المكتسبة قد تجعل الغموض الذي يكتنف الأزمات الاقتصادية في المستقبل أقل تطرفاً متى حلت وكيفما حلت.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي