سُئل رجل الأعمال السعودي المخضرم عبد العزيز العثيم عن الكلمة التي يمكن أن يعتبرها مفتاح النجاح، فأجاب بأنها "الإصرار". وفي تجربة العثيم فإن هذه الكلمة لا تعني مجرد شعار أجوف قد تسمعونه من بعض مدربي تطوير الذات بل إنها تعني "العناد" قولاً وفعلاً، وقد اتسم هذا الرجل بإصرار عجيب لتحقيق أهدافه. وسأروي لكم هذه القصة التي نستنتج منها أن العثيم اعتبر أن كلمة واحدة مفتاح النجاح، وفي هذا المقال سنتعرف أيضاً على رحلة هذا الرجل الملقب بملك اللؤلؤ، وكيف عمل على تأسيس أكبر شركة عربية للمجوهرات هي لازوردي، التي كانت في البداية محل ذهب لا يختلف عن أي محل آخر في سوق الذهب بالرياض.
في ثمانينيات القرن الماضي، كان عبد العزيز صالح العثيم يمتلك محلاً لتجارة الذهب في المملكة العربية السعودية، يشبه في أعماله محال مئات وربما آلاف تجار الذهب في المنطقة. لكن الشاب المتحمس آنذاك كان تاجراً تحركه عقلية رائد الأعمال أكثر من الطريقة التقليدية في إدارة التجارة. يذكر العثيم في إحدى المقابلات الصحفية، أن لديه قناعة مطلقة بضرورة الاستمرار في الابتكار والإبداع وإلا فإنك ستنتهي، ويعبّر عن ذلك بقوله: "إذا لم تبتكر فاخرج من السوق".
وفي حين يحذّر الباحثون من ظاهرة يقع فيها العاملون في قطاع الأعمال في فخ يطلقون عليه "بريق الألفة الدافئ"، الذي يجعلهم يعتادون المألوف في أسواقهم وقطاع أعمالهم، يبدو العثيم واعياً لهذا الفخ، فهو في حالة ابتكار مستمرة جعلته محل استغراب واستنكار من كثير من زملائه التجار بسبب أفكاره الغريبة ومخالفته لعادات السوق التقليدية.
ترند الأميرة ديانا
وبمتابعة مسيرة العثيم، تجدون أول ملامح الابتكار والإصرار في عقليته المتقدة، عندما تعلمون أنه مثل أي شاب يواكب الأحداث ويلتقط الترند واتجاهات السوق وأذواق الناس، فقد ألهمه حفل زفاف الأميرة البريطانية الراحلة ديانا، الذي بثته محطات التلفزة حول العالم بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وما لفت نظر العثيم في هذا الحفل البهيج، هو بالضبط ما لفت نظر زبائنه الذين يرتادون محله لشراء الذهب، لقد كان عقد اللؤلؤ الذي ارتدته الأميرة ديانا حول عنقها هو الذي أسر قلوب النساء حول العالم، وخاصة في منطقة الخليج العربي.
وعندما وجد العثيم هذا الاهتمام باللؤلؤ، فكر بعقلية رائد أعمال في كيفية توفيره بأسعار رخيصة أو تطبيق ما يسمى بـ "دمقرطة السلعة"، أو زعزعة الأسواق؛ أي جعل السلع بمتناول الجميع، وهذا ما قصده المفكر الإداري كلايتون كريستنسن بنظريته الشهيرة عن الابتكار المزعزع (Disruptive Innovation)، التي أشارت إلى رواد أعمال وشركات ناشئة صغيرة تزعزع الأفكار التقليدية للشركات العريقة وتهز عرشها بابتكارات ومنتجات خارجة عن المألوف.
استشعر العثيم الاهتمام والطلب على اللؤلؤ، لكنه لم يجد في السعودية سوى مصادر لبيع اللؤلؤ الطبيعي، الذي يتسم بأسعاره المرتفعة ولا يناسب الشريحة الواسعة من الناس، فقرر البحث عن اللؤلؤ الصناعي ذي المنشأ الزراعي الذي سمع عنه. وهنا بدأت رحلة الإصرار، ولم يكن هناك إنترنت أو جوجل للبحث، بل كان السفر والبحث في الأسواق هو الحل الوحيد. قالوا له ربما تجد اللؤلؤ الصناعي في دبي، فسافر إلى هناك ولم يجد سوى الطبيعي، ثم قالوا له ستجده في الهند، فواصل سفره من دبي إلى الهند، وجال هناك في عدة مدن ولم يجده، ثم قالوا له ستجده في هونغ كونغ، فسافر من الهند إلى هونغ كونغ، وهناك بحث ولم يجد من يبيع اللؤلؤ الصناعي بالجملة، وضاقت الأمور بالعثيم في هذه الرحلة، لدرجة أنه لم يعد يملك المال الكافي لدفع أجرة الفندق، لذلك اتصل بأهله وساعدوه، ثم انتقل إلى اليابان، حيث وعده كثيرون في هونغ كونغ بأنه سيجد فيها هدفه. وبالفعل، بعد أن جال في اليابان حتى كاد ييأس، وجد اللؤلؤ الذي كان يبحث عنه، فافتتح أول مصنع في السعودية لصناعة المجوهرات من اللؤلؤ، وركز فيه أعماله بعدما كان متخصصاً بالذهب كسائر التجار في هذا القطاع.
وفي الأسبوع الأول باع العثيم كل اللؤلؤ الذي اشتراه من اليابان، ما أثبت أن إصراره لم يذهب سدى، وأن طموحه في زعزعة السوق كان في محله.
أول من وظّف المرأة السعودية في قطاعات جديدة
كان أول قرار غير مألوف اتخذه عبد العزيز العثيم هو دخوله قطاع اللؤلؤ الصناعي وعدم الاكتفاء بقطاع الذهب واللؤلؤ التقليدي، وكانت تلك بداية تفكيره بعقلية رائد أعمال يخرج عن المألوف في أفكاره. ومن خلال هذا القرار استطاع فتح أسواق جديد لم تكن متوافرة في السعودية والخليج، وذلك من خلال رؤيته لقلادة الأميرة ديانا على شاشة التلفزيون. وهذا ما يصفه الباحث من جامعة سلون الأميركية مايكل شريغ بأنه ميزة "أفضل رواد الأعمال"، وهم الذين يفكرون على مستوى عالمي، وليس على مستوى محلي محدود.
لقد أسهم رجل الأعمال الخارج عن المألوف عندما أدخل اللؤلؤ الصناعي إلى السعودية في أوائل الثمانينيات، في خلق ثقافة لم تكن موجودة من قبل، إذ أتاح للنساء في المنطقة العربية من مختلف الطبقات الاجتماعية ارتداء اللؤلؤ، وتبعه بعد ذلك صناعيون وتجار آخرون في تبنّي صناعة وتجارة مجوهرات اللؤلؤ الصناعي لأول مرة.
ولم تكن فتوحات العثيم الريادية هي العمل الوحيد الذي قام به لتمكين النساء في السعودية والمنطقة من التحلي باللؤلؤ لأول مرة على هذا النطاق الواسع، بل قدم أيضاً فتحاً جديداً لدعم المرأة السعودية، فكان أول من أدخل المرأة السعودية إلى قطاع الصناعة بكثافة في الثمانينيات، كما يقول في إحدى المقابلات. وكان رائداً في توظيف المرأة السعودية في قطاعات غير القطاعات التقليدية التي كانت سائدة، مثل الصحة والتعليم. وعلى الرغم من عدم وجود أجواء مشجعة في قطاع الأعمال آنذاك لمثل هذا الانفتاح على عمل المرأة في الصناعة، يتحدث العثيم عن هذا الأمر في إحدى مقابلاته بأنه تلقى انتقادات من زملائه في قطاع الأعمال ومن المجتمع المحيط، لكنه اتخذ القرار بتوظيف المرأة السعودية في مجال الصناعة، مدفوعاً بالتعاون مع جمعية النهضة النسائية السعودية، حتى وصل عدد الموظفات السعوديات في شركته إلى 300 امرأة، إضافة إلى 300 فتاة سعودية متدربة.
زعزعة الأسواق
لم يكن قرار توظيف المرأة السعودية بكثافة، خلافاً للسائد في تلك الفترة، هو الحالة الوحيدة التي خرج بها العثيم عن المألوف، بل إنه أحدث زعزعة إيجابية لأسواق الذهب والمجوهرات في السعودية والخليج العربي عبر قرارات ريادية مجنونة تذكّرنا بجرأة إيلون ماسك وستيف جوبز.
وقد سبقت جرأة العثيم ونظرته الاستشرافية عصره، تماماً مثل غيره من رواد الأعمال العالميين الذين خرجوا عن المألوف. فقد اتصف الرجل بالتفكير الاستشرافي، وهو المفهوم الذي تصفه هارفارد بزنس ريفيو، بالتفكير خارج الصندوق، الذي يعتمد قراءة المستقبل قبل حدوثه. وهذه الصفة واحدة من أبرز سمات رواد الأعمال التي تمتع بها العثيم.
كما أن عقليته المتمردة والمبتكرة دفعته إلى اتخاذ قرارات تخالف "السنع" أو العرف التجاري في السعودية والمنطقة آنذاك، كما يقول. وفي إحدى مقابلاته يروي قصة حدثت في عام 1996، عندما وجد كساداً غير مسبوق في المحال التجارية التي تشتري بالجملة منتجات شركته، وتبيعها في منطقة الخليج العربي، وعندما استفسر عن السبب وجد أن الدفعة الأخيرة من المنتجات تخللها بعض العيوب في التصميم والجودة، فقرر خلافاً للمألوف سحب كل المنتجات من الأسواق على حسابه.
وأثار هذا القرار استغراب موظفي شركته ورفضهم، إضافة إلى رفض الكثيرين من تجار الذهب في السعودية، الذين أخبروه بأن الذهب لا يُسترجع، وأن هذه سابقة خطيرة ستفتح عليهم أبواباً غير مرغوبة من التجار. لكن العثيم الذي يتصف بالإصرار "أصرَّ"، وسحب البضاعة من كل المحال في الخليج على حسابه، وأعاد تذويب الذهب وتصنيعه مرة أخرى. وعلى الرغم من أن هذه العملية غير المألوفة كلفت الشركة، كما يقول، نحو 6 ملايين ريال آنذاك، فإن إعادة تصنيعها بجودة أفضل فتحت المجال أمام زيادة مبيعات شركته بنسبة 35% في العام التالي.
وكما بدأ العثيم بقرار غير مألوف في تجارة اللؤلؤ، ثم لحقه التجار، كذلك فإن قرار استرجاع الذهب، الذي استنكره تجار الذهب في البداية، اتبعوه بعد ذلك، وغيّروا "السنع" الخاص باسترجاع البضاعة غير الجيدة.
شيخ التجار
إن الدور المؤثر في القطاع الذي يؤديه عبد العزيز العثيم يشبه دور شيخ التجار أو ما يسمى في بلاد الشام بـ "شهبندر التجار" في قطاع المجوهرات، أسهم في تحويل ثقافة قطاع الأعمال بأكمله في مجال تجارة المجوهرات في السعودية والمنطقة.
ولم تقتصر عقلية العثيم في الزعزعة على الأسواق، بل كانت حاضرة في بيئة العمل وثقافة الشركة، وفي تحفيز الموظفين، الأمر الذي جعلهم "يسبقون الآلات في العمل"، كما يروي. وفي لقاء تلفزيوني يتحدث عن قصة حدثت عندما بدأ في صناعة مجوهرات اللؤلؤ.
في أحد الأيام قررت الشركة اختبار تصميم عقد مكون من مجوهرات اللؤلؤ، وهو عقد لا يمكن صناعته إلا يدوياً، ويقول كانت سرعة العامل في إنتاج هذا النوع من العقد أو سلاسل اللؤلؤ بطيئة مقارنة بما تنتجه الآلة التي لا تستطيع صنع هذا العقد بالجودة المطلوبة، لذلك طلب العثيم من مدير الإنتاج تشجيع العمال على إنتاجها وزيادة الإنتاج، لأن العمل اليدوي عادة ما يكون بطيئاً، ويقول دخلت المصنع في اليوم التالي ووجدت مدير الإنتاج يوزع على العمال "الكيك" أو الحلويات لتشجعيهم على الإنتاج. لكن العثيم الذي يتمتع بالعقلية الريادية والتفكير الواقعي استنكر على مدير الإنتاج هذه الطريقة في التحفيز، وأخبره بأن العمال في هذا المصنع جاؤوا من بلادهم البعيدة بحثاً عن المال، وليس بحثاً عن "الكيك"، وهؤلاء العمال لديهم عائلات ومسؤوليات.
قرر العثيم منحهم مبلغاً إضافياً لإنتاج هذه العقود اليدوية، وذلك بدفع ريال سعودي لهم عن كل غرام ينتجونه يومياً. ويقول إن إنتاجية العامل زادت من 8 غرامات في الساعة إلى 15 غراماً ثم إلى 30 غراماً، في حين لم تتجاوز إنتاجية الآلة في أنواع أخرى من المنتجات 25 غراماً في الساعة.
وبعد هذا التحفيز الذي أطلقه العثيم يقول إن العمال تحمسوا وانخرطوا في زيادة الإنتاج لدرجة أن معظمهم توقفوا عن شرب الحليب الذي نقدمه لهم عادة في العمل، حتى لا يذهبوا إلى الحمام فيقل إنتاجهم في اليوم.
لقد تمتع عبد العزيز العثيم بعقلية خلق أسواق جديدة لم تكن مألوفة في السعودية والمنطقة، كما ساعد في خلق ثقافة جديدة في بيئة العمل وفي قطاع تجارة المجوهرات عبر المساهمة في تشكيل مناخ عمل (Ecosystem) في المملكة والمنطقة المحيطة.
مثل هذه الحالات التي يستطيع فيها رجل أعمال خلق ابتكار بهذه الدرجة من التأثير في سوق ناشئة (Frontier Markets)، هي ما اعتبرها المفكر الاقتصادي العالمي كلايتون كريستنسن بأنها ابتكارات منشئة للأسواق (Market-making innovations). وهي صفة تضع رجلاً مثل عبد العزيز العثيم في مصاف الشخصيات الأكثر تأثيراً في تاريخ قطاع الأعمال في المملكة العربية السعودية والمنطقة.
هذا الرجل الذي أسهم في صنع التغيير وتحفيز الشركات لفتح أبوابها لاستثمارات وابتكارات جديدة خلقت فرص عمل تستحق التوثيق، يقدم نصيحة للراغبين في تطوير أنفسهم ليكونوا رواد أعمال ناجحين، بالتمسك بالإصرار وعدم الاستسلام، فيقول: "تابع وتابع واستمر في المحاولة، لأنه عندما (يفزّ) حظك أو ينهض، يجب أن تكون واقفاً وجاهزاً لاقتناص الفرصة".