نموذج جديد من 3 مراحل لإدارة التغيير في المؤسسات

6 دقيقة
عقلية التحول المستمر
ويست إند61/ غيتي إميدجيز

ملخص: في العادة، تُصمم برامج التحوّل وإدارة التغيير على شكل برامج ذات بداية ونهاية محددتين. يستند هذا الأسلوب إلى نموذج التغيير الذي شاع على يد عالم النفس الأميركي الألماني كورت ليفين في خمسينيات القرن الماضي، ويتضمن هذا الأسلوب 3 مراحل: "كسر الأنماط السائدة، ثم تغيير الأنماط بالجديدة، ثم تثبيت الجديدة". وعلى الرغم من فعاليته في المشاريع المنفصلة مثل تنفيذ نظام جديد لكشوف الرواتب، لا يفي هذا النموذج بالغرض في بيئة الأعمال الحالية الدائمة التغير، إذ يستدعي التطور المستمر في المشهد الخارجي إخضاع الشركات لعملية تحول مستمرة من دون إيقافها ولا إعادة تجميدها ولا التراجع عنها. تتناول هذه المقالة الاستراتيجيات الثلاث الرئيسية اللازمة لدعم التحول المستمر، وهي تبنّي عقلية مرنة، والاستناد إلى الطموحات لتحسين المؤسسة وتوسيع نطاقها على نحو مستمر، ودمج التحول في وتيرة عمل المؤسسة.

أصبحت برامج التحول منتشرة في كل المؤسسات، حيث ينشغل أكثر من ثلث المؤسسات الكبيرة في شكل من أشكال التحول على نحو دائم. ولكن النموذج التقليدي الذي يعتمد عليه معظم الشركات للتحول تعثر في ظل بيئة الأعمال الحالية السريعة التغير. يحتاج القادة إلى أسلوب جديد أكثر ملاءمة لطبيعة عالمنا المتطور باستمرار.

يجري تنظيم جهود التحول النموذجية على شكل برامج ذات بداية ونهاية محددتين، ويشرف عليها غالباً مكتب إدارة البرنامج. يستند هذا الأسلوب إلى نموذج التغيير الذي شاع على يد عالم النفس الأميركي الألماني كورت ليفين في خمسينيات القرن الماضي، ويتضمن هذا الأسلوب 3 مراحل: "كسر الأنماط، تغيير الأنماط، تثبيت الأنماط" (Unfreeze, Change, and Refreeze). وعلى الرغم من فعاليته في المشاريع المنفصلة مثل تنفيذ نظام جديد لكشوف الرواتب، لا يفي هذا النموذج بالغرض في بيئة الأعمال الحالية الدائمة التغير، إذ يستدعي التطور المستمر في المشهد الخارجي إخضاع الشركات لعملية تحول مستمرة من دون إيقافها ولا إعادة تجميدها ولا التراجع عنها.

نستعين في هذه المقالة بأبحاثنا وخبراتنا لشرح المحركات الثلاثة الرئيسية للتحول المستمر:

1. تبنّي عقلية مرنة

على عكس النهج التقليدي المتمثل في "كسر الأنماط، تغيير الأنماط، تثبيت الأنماط"، الذي يعني ضمناً أن التغيير يمثل زعزعة مؤقتة فقط، يتبنى التوجه المرن فلسفة "إعادة النظر، إعادة التشكيل، التكرار" (Rethink, Reshape, Repeat)، وهو سعي مستمر نحو التميز. يصبح التحول عبر هذا النموذج رحلة دائمة تتضمن تقييم استراتيجية الشركة وترتيب القضايا الحساسة بحسب الأولوية، والتفكير بعناية في البدائل المحتملة لمعالجة كل قضية واختيار أفضل مسار للعمل وتكييف المؤسسة وفقاً له، ثم الانتقال إلى القضية الحساسة التالية. على غرار تطوير البرمجيات المرن (منهجية أجايل)، حيث تتطور المهام من مهام "يجب تنفيذها" إلى مهام "قيد التنفيذ" إلى مهام "اكتمل تنفيذها"، ينبغي أن يتضمن تطوير الأعمال عملية مستمرة مماثلة لتحديد القضايا ومعالجتها.

تطلق المؤسسات العنان لإمكانات الابتكار والتكيف المستمرين من خلال تبني عقلية مرنة، وبالنتيجة يصبح التغيير المستمر من قدراتها الأساسية. يشكل التحول الذي شهدته شركة ستيت فارم (State Farm) التي تعاونا معها مثالاً رائعاً. لطالما كانت شركة ستيت فارم اسماً موثوقاً به في قطاع التأمين باعتبارها مزوداً رائداً لمختلف خدمات التأمين، مثل التأمين على السيارات والمنازل والحياة والصحة والأعمال التجارية. لاحظت قيادة الشركة في عام 2019 تحولاً في أساسيات التأمين، إذ تطور مشهد التأمين بما يتجاوز تقديم برامج التغطية، وأصبح يهتم بتقديم تجارب ذات طابع شخصي وخدمات سريعة ومعالجة سلسة للمطالبات في بيئة تسعير تتسم بالمنافسة الشديدة، وبدأ العملاء يطالبون بتسهيل الإجراءات، والكفاءة، والحلول المصممة خصوصاً لهم. أدركت شركة ستيت فارم حينها الحاجة إلى إعادة النظر في عملياتها وإجراءاتها وبنيتها التحتية التكنولوجية لتظل قادرة على المنافسة في هذه السوق السريعة التغير.

العامل الحاسم في التحول الناجح للشركة كان تبني قيادتها لعقلية مرنة، إذ كانت الشركة تعتبر جهود التغيير عرضية في السابق، لكن وتيرة التغيير في قطاع التأمين أصبحت تتطلب تحولاً مستمراً. وبناءً على ذلك، عززت شركة ستيت فارم "قدرة التغيير المستمر"، وهي في الأساس مجموعة من الأدوات التي تمكّن المسؤولين التنفيذيين من إعادة تقييم استراتيجية الشركة وعملياتها وإعادة صياغتها على نحو مستمر. بالإضافة إلى ذلك، رأينا من خلال التعاون مع الشركة كيف قدّم مركز التميّز لإدارة التغيير (Change Center of Excellence - CoE) الذي أنشأته الشركة حديثاً الدعم والتدريب لقادة الأقسام ليتمكنوا من تحفيز التغيير التحويلي ومساعدة قوة العمل المتأثرة به على التكيف، كما مثّل هذا المركز مصدراً لأفضل الممارسات والأساليب والأدوات المستخدمة في شركة ستيت فارم لتعزيز مبادرات التغيير المستمرة.

أثمرت رحلة التحول التي خاضتها شركة ستيت فارم فعلاً عن فوائد كبيرة لها ولعملائها، إذ حسّنت تجربة العملاء وعززت الكفاءة التشغيلية وحققت وفورات كبيرة في التكلفة من خلال تبني التكنولوجيا الرقمية وتحديث العمليات. وتجدر الإشارة إلى أنه بين عامي 2018 و2023، نمت القيمة الصافية لشركة ستيت فارم وهي مقياس مهم للقوة المالية في قطاع التأمين من 100 مليار دولار إلى ما يقرب من 135 مليار دولار، وتجاوز النمو في خطوط أعمالها الرئيسية متوسط النمو في القطاعات الأخرى كلها.

2. الاستناد إلى الطموحات لتحسين المؤسسة وتوسيع نطاقها على نحو مستمر

إن الاعتماد فقط على الأهداف التي تحددها القيادة العليا لا يؤدي غالباً إلى تعزيز التحسين المستدام للأداء، حتى إن استندت تلك الأهداف إلى مقاييس معيارية خارجية وممارسات القطاع المثلى. قد تشجع هذه الأهداف على تحسين الكفاءة بادئ الأمر، لكنها تؤدي غالباً إلى القناعة بالوضع الراهن بمجرد تحقيقها، ما يطيل أمد نموذج التحول الجامد "كسر الأنماط، تغيير الأنماط، تثبيت الأنماط".

يجب على المؤسسات أن تنمّي التطلعات التي تحفز التحسن المستمر على المستويات كلها، فالتطلعات تمثل محفزات نشطة للتحسين المستمر على عكس الأهداف الثابتة، التي تتجاوز خطط الشركة الحالية، ولكنها ليست بعيدة المنال لدرجة اعتبارها غير قابلة للتحقيق. تتطور التطلعات مع تطور المؤسسة واستراتيجيتها على عكس الأهداف الثابتة التي تسبب تباطؤ التقدم بمجرد تحقيقها، فهي تدفع المؤسسة باستمرار إلى التكيف مع ظروف السوق المتغيرة والتقدم التكنولوجي واحتياجات العملاء المتطورة، وحتى مع المخاوف البيئية المتزايدة.

خذ مثالاً على ذلك شركة أورستد (Ørsted)، وهي شركة طاقة متعددة الجنسيات مقرها الدانمارك كانت معروفة سابقاً باسم دونغ إنيرجي (DONG Energy). بدأت قيادتها عام 2008 رحلة لتحويل الشركة من شركة طاقة تقليدية تعتمد على الوقود الأحفوري إلى قوة رائدة في مجال الطاقة المتجددة.

كان أساس عملية تحويل شركة أورستد هدفاً جوهرياً وحيداً وجريئاً، وهو نسبة الـ 80%؛ استمدت الشركة تاريخياً 85% من طاقتها من الوقود الأحفوري، مع نسبة ضئيلة تبلغ 15% فقط من مصادر مستدامة. قررت القيادة قلب هذه النسبة بالكامل، مستهدفةً أن تستمد 85% من طاقتها من مصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح والطاقة الشمسية.

لم تمتلك شركة أورستد خطة واضحة لتحقيق هذا الهدف الطموح بادئ الأمر، ولم تكن ثمة مقاييس معيارية لكي تدرسها، ولا ممارسات مثلى في القطاع لكي تحاكيها؛ إذ تجاوز هدف أورستد كل ما شهده القطاع سابقاً. أجبر هذا الطموح الجريء موظفي الشركة جميعهم على مواجهة المشكلات الصعبة في نموذج عمل الشركة، بما فيها الحاجة المُلحة إلى التصدي للتغير المناخي ومحدودية موارد الوقود الأحفوري، وإعادة تشكيل محفظة أعمالها.

استند الرئيس التنفيذي لشركة أورستد في الفترة ما بين عامي 2012 و2020، هنريك بولسن، إلى هذا الطموح الجريء لحشد قوة العمل التي شككت بادئ الأمر في هذا التغيير الهائل، وحفزها لتبني حلول مبتكرة. فباعت الشركة أعمالها في مجال النفط والغاز، وتخلت تدريجياً عن استخدام الفحم لتوليد الطاقة، واستحوذت على شركة ديب ووتر ويند (Deepwater Wind) وغيرها من الأصول لتوسيع مكانتها في قطاع طاقة الرياح البحرية.  حددت شركة أورستد جدولاً زمنياً مدته 30 عاماً لتحقيق هدفها، لكنها أنجزته بنجاح باهر في عقد واحد فقط.

3. دمج التحول في وتيرة عمل المؤسسة

يجب على القادة دمج التحول بسلاسة في وتيرة عمل الشركة من أجل ضمان النجاح في بيئة العمل الحالية السريعة التغير. يتضمن ذلك دمج مبادرات التغيير في عمليات الحوكمة القائمة واجتماعاتها ونقاشاتها لضمان أن يصبح التطور جزءاً طبيعياً من أعمال إدارة الشركة.

كما أن دمج مبادرات التحول في وتيرة العمل يضمن قدرة القادة على المواءمة بين الأهداف الاستراتيجية والأنشطة اليومية، ويؤسس أسلوباً شاملاً لجهود التغيير يمكّن المؤسسات من الاستجابة السريعة لتوجهات السوق المتغيرة ومتطلبات العملاء والضغوط التنافسية. عندما يصبح التحول جزءاً من وتيرة عمل الشركة، تتوزع مسؤولية قيادة التغيير على مستويات المؤسسة جميعها.

خذ مثلاً التطور الملحوظ الذي شهدته شركة ديل تكنولوجيز (Dell Technologies). فعندما عمل الرئيس التنفيذي لشركة ديل، مايكل ديل، بالتعاون مع شركة سيلفر ليك بارتنرز (Silver Lake Partners) على تحويل شركته إلى شركة خاصة في عام 2013، أدرك ضرورة إجراء عملية تحول واسعة النطاق. جاء هذا القرار في وقت كان يتوقع فيه الكثير من الخبراء "زوال الكمبيوتر الشخصي". وقد تطلّب إثبات خطأ هؤلاء المشككين تحوّل شركة ديل كمبيوتر (Dell Computer) إلى شركة تكنولوجيا رائدة اسمها اليوم ديل تكنولوجيز.

وكما ذكرنا في مقالنا الأخير في هارفارد بزنس ريفيو، دمج مايكل ديل التحول في وتيرة عمل شركته. بعد الخصخصة، أنشأ فريق القيادة التنفيذية "نموذج إدارة ديل" (Dell Management Model - DMM)، ليحل محل عمليات التخطيط الاستراتيجي وتخصيص الموارد ومراجعة أداء الأعمال التي كانت قائمة.  شكّل نموذج إدارة ديل أساس جدول أعمال الشركة الذي ضمّ مجموعة من الضرورات الاستراتيجية الأساسية لتحول الشركة. أصبحت معالجة البنود المدرجة في جدول أعمال ديل محور تركيز اجتماعات أعضاء فريق القيادة التنفيذية وجلسات القيادة الأخرى. حافظ جدول أعمال ديل على حيويته، فكلما عالجوا مجموعة من القضايا ودمجوها في استراتيجية الشركة، أضافوا قضايا جديدة لضمان استمرار عملية التحول. وعندما بات نموذج إدارة ديل مدمجاً في وتيرة عمل الشركة، أصبح التحول جزءاً لا يتجزأ من ممارسات القيادة اليومية على مستويات الشركة كافة.

وتحدثت النتائج عن نفسها، إذ حقق التحول المستمر في شركة ديل بحلول نهاية عام 2023 عائداً يبلغ 10 أضعاف الاستثمار الأولي لمايكل ديل في عام 2013، ويكشف تحليلنا لإجمالي عوائد المساهمين للشركات الكبيرة أن هذا الرقم يفوق أداء أي شركة عامة أخرى تتجاوز إيراداتها 30 مليار دولار.

في عالم اليوم السريع الوتيرة، لم يعد من الممكن التعامل مع تحول الأعمال باعتباره مشروعاً لمرة واحدة فحسب، فالتغيير المستمر يتطلب تحولاً مستمراً. يجب أن نستغني عن الأسلوب التقليدي المتمثل في "كسر الأنماط، تغيير الأنماط، تثبيت الأنماط" ونتبنى عقلية جديدة تتمثل في "إعادة النظر، إعادة التشكيل، التكرار". من خلال عملية التحول المستمرة هذه يمكن للشركات أن تطلق العنان لإمكاناتها الكاملة حقاً.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .