في هذه المقالة سنتحدث عن عالم ما بعد كورونا فالكثير يتساءل ماذا بعد كورونا وكيف سيكون العالم ما بعد كوفيد 19؟
في خريف عام 1918، وبعد أيام من تراجع الموجة الثانية من الإنفلونزا الإسبانية والتي كانت الأكثر إبادة للبشر، ظهر فيلم تشارلي تشابلن الجديد "أسلحة الكتف"، ودعا المسرح الرئيسي في مدينة نيويورك الناس لحضور الفيلم، بينما العالم خارج المدينة ما زال يعزل نفسه في غرف الحجر المنزلي.
وبالفعل تدفق الناس وحضروا عرض الفيلم، ورحب بهم مدير المسرح هارولد إيدل واعتبر في كلمته أن "ما هو أعظم من هذا الفيلم هو حضور الناس وهم يحملون أرواحهم على أكفّهم"، كما جاء في كتاب (Pale Rider) للباحثة لورا سبيني.
ما حصل بعد ذلك، أن مدير المسرح مات بعدها بأسبوع إثر إصابته بالإنفلونزا الإسبانية نفسها، ثم ضربت هذه الإنفلونزا موجتها القاتلة الثالثة والتي امتدت حتى منتصف العام 1919.
وعلى الرغم من ذلك، فإن ما حصل بعد انتهاء هذه الإنفلونزا هو أن الناس عادوا لارتياد المسارح ودور السينما والمطاعم والمباريات الرياضية بذات النموذج السابق، بعد أن كانت بعض الآراء تراهن على تغير في هذه الأعمال.
وما حصل بعد الإنفلونزا الإسبانية، هو بالضبط ما حصل بعد انتهاء المقاطعة العربية لتصدير النفط إلى دول الغرب بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، فقد كانت يومها "أزمة" اضطرت الكثير من الموظفين الأميركيين للعمل من المنزل على الرغم من صعوبة هذا الأمر في ظل عدم توفر الإنترنت، غير أنه كان الحل الأمثل لتوفير الوقود الذي بات شحيحاً.
وما إن عاد النفط للتدفق حتى عادت الأعمال كما كانت، على الرغم من أن الأصوات كانت تتعالى للاستفادة من ميزات العمل عن بعد في مرحلة ما بعد المقاطعة.
وبعد انتشار فيروس سارس في عام 2003، وإنفلونزا الطيور والخنازير وإيبولا، فإن العالم لم يتغير، ولم يفكر حتى بالاستعداد للطوارئ (انظر مقال هارفارد بزنس ريفيو الذي نشرناه عام 2017 بعنوان: العالم غير مستعد تماماً لتفشي وباء عالمي). العالم غير مستعد بكل بساطة لأن الناس ينسون بسرعة، ولا يحبذ غالبيتهم التغيير والخروج من منطقة الراحة.
لكن هل سيتغير العالم بعد فيروس كورونا أم سيعود إلى سابق عهده؟
الفرق في هذه المرة هو عامل "التكنولوجيا"، والذي لم يكن متوفراً بهذه الإمكانيات لمساعدة العالم على التغيير النوعي، على الرغم من أنه ساعد في حالات متفرقة على خروج نماذج عمل غيرت العالم جزئياً عبر شركات عملاقة زعزعت الدول التي عملت بها وقذفتها سنوات إلى الأمام.
منها شركة "علي بابا" التي ظهرت في عزّ أزمة فيروس سارس في الصين لتنقذ المتسوقين من التجمع في المراكز التجارية المزدحمة عبر التسوق الإلكتروني. ثم تحولت "علي بابا" عبر شركاتها ومنها "علي باي" إلى نموذج حياة بعد سارس، ساهمت بنقل الصينيين سنوات إلى الأمام في التسوق والدفع الإلكتروني والخدمات الحكومية.
ومثلها شركة "نتفليكس" التي كانت نقطة التحول في حياتها هي أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، حينما انكفأ كثير من الأميركيين في بيوتهم وتجنبوا التجمعات وارتياد الأماكن العامة، وهنا سارعت "نتفليكس" لتقديم أفلام الفيديو عبر التوصيل إلى منازل الأميركيين ثم قدمتها لاحقاً عبر الإنترنت لتدمر بذلك الشركة العملاقة "بلوك باستر" والتي كانت تسيطر على سوق تأجير الفيديو آنذاك، ولتخلق عالماً جديداً يسمى (البث الشبكي) والذي ما زال مستمراً في نقل العالم إلى آفاق ستقضي على نماذج العمل التقليدية للتلفزيون والسينما، وتضطرها لإعادة ابتكار نفسها بشكل أفضل.
وفي عزّ الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، كان العامل التكنولوجي حاضراً عندما ظهرت شركة "إير بي إن بي"، لتستخدم التكنولوجيا في تحويل أي غرفة فارغة في أي منزل إلى غرفة فندقية تدر دخلاً لصاحبها. وما عملته هذه الشركة الناشئة كان أيضاً قفزة في المستقبل بالنسبة للعالم، لأنها وفرت التكاليف على المستهلكين وأوجدت مصادر دخل جديدة، واضطرت قطاع الفنادق التقليدية لتطوير خدماتها وعرّضتها للمنافسة الحقيقية.
واليوم حينما نتساءل عن عالم ما بعد كورونا فقد حقق العالم اليوم بفضل عوامل التكنولوجيا مكاسب تعتبر قفزات في المستقبل مثل العمل الإلكتروني عن بعد والتعليم عن بعد والرعاية الصحية عن بعد والخدمات الحكومية عن بعد، لكنها مكاسب ربما لن تستمر كما سأكشف لاحقاً، لأن ثمة صراعاً حقيقياً بين نوعين من البشر في هذه الأثناء، واحد يجر العالم نحو الوراء وواحد نحو الأمام.
وبالتوازي مع معركة البشرية ضد فيروس كورونا تجري معركة صامتة بين التقليديين والمجددين من البشر، وتتعلق بمستقبل عالم ما بعد كورونا . وخلاصة المعركة ليست بالسؤال الذي يكرره الكثيرون؛
كيف سيكون عالم ما بعد كورونا على صعيد العمل والتعليم والاقتصاد والرعاية الصحية والخدمات الحكومية، بل كيف نريده أن يكون؟
والفكرة الجديدة التي سأحاول إثباتها في هذا المقال، هي أننا جميعاً بدأنا نشكل مواقفنا ونتمسك بها بعد هذه التجربة من العزل المنزلي، ومرور ما يبدو أنه الموجة الأولى من فيروس كورونا. حيث سنبدأ الآن بالبوح بقناعاتنا والدفاع عنها علناً بعد بدء إجراءات تخفيف العزل، والعودة إلى الحياة الطبيعية ولو بشكل تدريجي.
مالذي يتحكم في مستقبل العالم ما بعد كورونا
على مدار الشهرين الماضيين، وبعد النقلة المفاجئة التي قفز بها العالم فجأة قرابة العشر سنوات نحو المستقبل، انقسم العالم فيها إلى ثلاثة أقسام، وحددوا اصطفافاتهم ضمناً تجاه فكرة تغيير العالم في مرحلة ما بعد كورونا، وكل يجرّ العالم نحو المستقبل الذي يناسب مؤهلاته وقدراته:
1- قسم لم يستطع التأقلم:
فاعتبرها مرحلة مؤقتة، بل واعتبر هذا النقلة في الأعمال "أزمة" ملازمة لأزمة "كوفيد-19" الصحية، فقرر هؤلاء وقف التعليم ووقف العمل ووقف تقديم الرعاية الصحية غير المتعلقة بهذه الجائحة إلا بالحد الأدنى.
بالنسبة لهؤلاء كانت هذه النقلة التكنولوجية في العمل عن بعد والتعليم عن بعد والاستشارة الطبية عن بعد والمؤتمرات عن بعد، والخدمات الحكومية عن بعد، لا تعني لهم شيئاً سوى أنها مرحلة تعطيل جزئي للعمل والتعليم وباقي مرافق الحياة بانتظار مرور هذه الأزمة.
وهذه الفئة بالمناسبة كبيرة وتضم دولاً ومؤسسات اقتصادية وتعليمية عريقة وضخمة، لكنها ببساطة حددت موقفها بصمت، وأقرت ضمناً أنها ليست مستعدة ولا مؤهلة لتعيش في عالم من التكنولوجيا الرقمية كان يتوقع أن تصله تدريجياً بعد عشر سنوات.
2- قسم ثان تأقلم بشكل جزئي:
فقد انخرط في النقلة الإلكترونية عبر تطبيق العمل عن بعد والتعليم عن بعد والصحة وغيرها، لكنه ما زال يديرها ويتعامل معها بعقلية إدارة الأعمال التي كانت سائدة ما قبل زمن الكورونا، فهم يديرون الموظفين في العمل عن بُعد عبر طلب تحديد المواقع الجغرافية للموظفين وتتبع هواتفهم، والطلب منهم ارتداء اللباس الرسمي والجلوس أمام كاميرا مفتوحة طيلة الوقت.
كما أن المؤسسات التعليمية ومنها جامعات عربية عريقة تبنت "مرغمة" التعليم عن بعد، لكنها تديره بعقلية عصر ما قبل كورونا، حيث لم تكلف نفسها عناء تطوير طرق اختبارات عصرية إلكترونية تناسب مختلف المناهج، ويسلّم هؤلاء ببساطة بالفكرة التقليدية التي يحبونها وترتاح لها مخيلاتهم، والتي مفادها، أن التعليم عن بعد يمكنه إيجاد اختبارات غير تقليدية من نوع (بحث، أو مشروع عملي، أو حتى إلغاء الاختبار والاكتفاء بمعدل درجات متراكمة لمهام ووظائف الطالب على مدار الفصل الدراسي)، هم ربما يقرّون بهذه الاختبارات في بعض المناهج، لكنهم يعتبرونها غير ممكنة إطلاقاً في العلوم التطبيقية مثل الرياضيات والهندسة والطب وغيرها، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث عن طرق اختبارات تناسب هذه المناهج إلكترونياً وعن بعد.
بل ويطرح أصحاب هذا الرأي الطريقة التقليدية في مراقبة الامتحانات عبر استخدام التكنولوجيا بطريقة سخيفة لمراقبة حركات الطالب أثناء تقديم الامتحان ومراقبة تعابير وجهه وحركة عينيه، لتكشف فيما إذا كان يسترق النظر إلى هاتفه أو لمعلومة يمررها له من حوله.
ولا تختلف في هذه الفئة مؤسسات الرعاية الصحية من مستشفيات وعيادات، والتي طبقت مؤقتاً الاستشارة عن بعد لكنها أدارتها عبر طرق بدائية مثل الإيميل والاتصال الهاتفي وتحويل الدفع عبر الهاتف، دون التفكير بتحويل هذه العملية إلى منصة أو تطبيق هاتفي ذكي يستمر إلى ما بعد كورونا، وبما يساهم في مأسسة هذه النقلة النوعية.
وخلاصة الوصف لهذه الفئة هي أنها لا تختلف في مواقفها عملياً عن الفئة الأولى، إذا إنها عملياً تصطف خلف من يرى هذه النقلة التكنولوجية باعتبارها أمراً مؤقتاً لا يستحق ولا نحتاج لتحويله إلى عمل ممنهج، والسبب الذي ربما يعتبر مسكوتاً عنه في وصف الفئتين الأولى والثانية هو ما ذكره مجموعة من خبراء شركة ماكنزي العالمية في مقال نشرناه في هارفارد بزنس ريفيو من أن العقبة الرئيسية في وجه التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي هي ثقافة البشر وليست التقنية، فالمسألة بكل بساطة هي أن هؤلاء البشر غير مستعدين.
لماذا؟
لأن التغيير هو أمر لا يفضله غالبية الناس عادة، ولأن قادة التغيير دوماً هم أقلية في العالم على مرّ العصور، فهم عادة ما يُسمّون متمردين وربما يتهمون بالجنون حتى يتحولون إلى رموز وأبطال لاحقاً.
3- الفئة التي تأقلمت سريعاً مع تغييرات ما بعد كورونا
وتلقفت هذه الفرصة الفريدة للتحول الرقمي، واكتشفت كم كان العالم سخيفاً وهو يضيع على نفسه فرص استخدام تقنيات متاحة كان يمكن أن توفر علينا الأموال والوقت والجهد. كانت هذه النقلة التقنية السريعة بالنسبة لهؤلاء هي الصحوة التي أيقظتهم من سبات، فقرروا التمسك بها وتثبيت مكاسبها، وباتوا يحضّرون قواعد العمل عن بعد والتعليم عن بعد والرعاية الصحية عن بعد، وكذلك الخدمات الحكومية عن بعد لتكون نماذج تستمر، بل واعتبر هؤلاء أن هذه اللحظة هي التي يجب أن تجعلنا نبدأ عمليات عصر الذكاء الاصطناعي والبلوك تشين والعملات الرقمية. إنها بالنسبة لهذا الفريق بمثابة السفر عبر الزمن سنوات إلى الأمام، حيث اكتشفوا أننا نحن البشر كنا كمن كان يركب القوافل التي تجرها الخيول والبغال، بينما توصل العالم لاختراع الطائرة والسيارة ونحن عنها غافلون. بل يضحك هؤلاء عندما يتذكرون كيف كانوا يسافرون لحضور مؤتمرات واجتماعات أو محاضرات أو لمجرد الحديث مع الطبيب، بينما كان يمكن للاتصال عبر تطبيق "زوم" أن يؤدي الغرض ويوفر الوقت والجهد والمال، وهذا الأمر ذاته ينطبق على السفر والتعرض للازدحام وتضييع الوقت للحصول على خدمة حكومية كان يمكن أن تتم بضغطة زر.
الخلاصة "ماذا بعد كورونا"
وخلاصة تحليل هذه الفئات الثلاث أننا أمام فئتين فقط عملياً؛ واحدة ستجرّنا نحو العودة كما كنا قبل كورونا، واعتبار هذا العام أو العامين هي سنوات ضائعة من حياة البشرية، وفئة ترى أن هذه الفترة هي مختبر التجريب لتحسين تجربتنا مع التحول الرقمي في كل شيء ووضع قواعد له ثم الانطلاق. وتجربتنا خلال الشهرين الماضيين خير دليل، فلقد تحسنّا جميعاً فيما نقوم به من عمل عن بعد وتعليم وصحة وخدمات حكومية وكل شيء. وبدأنا نتعلم ونضع قواعد ونقرأ عن أفضل التجارب.
قد تكون نتائج هذه المعركة الصامتة، بأن يعود العالم إلى نقطة الصفر ويخسر هذه المكاسب إضافة لخسارة عام من عمر العمل والتعليم والنمو في مختلف نواحي الحياة، وقد يكون أفضل ما يمكن تحقيقه عبر دعم هذا التحول هو أن نصل على الأقل لمرحلة وسط تسمى "المرحلة الهجينة المتقدمة"، حيث ينتقل جزء كبير من العمل للعمل عن بعد، وجزء كبير من التعليم عن بعد وأن تعترف به العقليات البيروقراطية التقليدية، وكذلك تقديم نصف الخدمات والاستشارات الصحية على الأقل عن بعد، وتقديم أغلب الخدمات الحكومية عن بعد كما تفعل دولة مثل إستونيا والتي تقدم فيها أكثر من 95% من معاملات المؤسسات الحكومية والخاصة "أونلاين" ومنذ سنوات.
حدد موقفك. وساهم بإقناع أصحاب القرار في المؤسسات الحكومية والخاصة بتثبيت المكتسبات، فقد منحت بعض الحكومات تراخيص العمل عن بعد والتعليم عن بعد والرعاية الصحية والخدمات الحكومية عن بعد بقرارات مؤقتة، وبعضها القليل منحها بصفة دائمة. بعض الحكومات مثل دبي باتت تدرس تصوراتها لعالم متكامل وجديد بعد "كوفيد-19"، فقد أصدرت مجموعة تقارير عن رؤيتها حول عالم ما بعد كورونا بحيث يتم تثبيت المكتسبات في مجال التجارة والتعليم والعمل والاتصالات، ويتعاون العالم لإعادة التفكير في قراراته واستراتيجياته السابقة تجاه كل شيء.