انقلبت الأمور بالنسبة للقادة بين ليلة وضحاها. فمنذ وقت ليس ببعيد، أي قبل انتشار فيروس كورونا، كنا نعيش في عالم يبدو مستقراً، فيه عوامل معروفة يمكن توقعها، وكان تحقيق النجاح فيه يبدو سعياً لتحقيق الكمال. لكن في الأزمات، يتغير الواقع كل يوم أو كل ساعة، وليس هناك من سبيل لمعرفة ما سيحصل بصورة مؤكدة أو تحديد أفضل مسار يمكننا اتباعه في تحركنا. لذا، ليس هناك مكان من أجل طلب الكمال في الأزمة.
أصبح طلب الكمال عائقاً على حين غرة. شارك الدكتور مايكل رايان، المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ الصحية في منظمة الصحة العالمية، في الخطوط الأمامية في مواجهة عدد من الأزمات الصحية التي واجهها العالم، بما فيها جائحة "إيبولا"، وهو يشارك في مكافحة جائحة فيروس كورونا التي نشهدها اليوم. يقول بشأن الإدارة في الأزمات: "إن كنت تريد أن تكون على حق من قبل أن تتحرك، ستخسر. فالأولوية للسرعة، لا للكمال. وطلب الكمال هو عدو الخير في إدارة الطوارئ".
اقرأ أيضاً: بحث: كيف فاقمت الأزمة المالية من عدم المساواة في الثروة داخل أميركا؟
في الحالات التي يكتنفها الغموض، يقوم القادة في مختلف القطاعات بإجراء تعديلات على الاستراتيجيات وسلاسل التوريد، ويعيدون صياغة قوانين التشغيل، ويضعون قوانين جديدة أحياناً. وهذا النوع من القيادة يتطلب الرشاقة الذهنية. لكننا نواجه بعض التحديات في هذا الخصوص، إذ إن عقولنا ليست مبنية على الرشاقة بطبيعتها.
نتيجة للتطور، أصبحت عقولنا قادرة على الاستجابة لعوامل تشتيت الانتباه، لأن التنبه المستمر للمخاطر الكثيرة في البيئة المحيطة بالإنسان كان وسيلة نجاته في العصور السابقة. بالإضافة إلى أن عقولنا معدة بطبيعتها للتعاطف، لأنه ساعدنا على التجمع وإنشاء المجتمعات. وهي معدة للتعامل مع "الغرور"، الذي يعتبر أول آلية أساسية للحفاظ على النفس.
طلب الكمال في الأزمة
ومن أجل تبني عقلية مرنة، يجب التعامل مع هذه "الإعدادات" المثبتة في عقولنا بطريقة مناسبة. لذا، سنناقش كل تحد منها مع قليل من التفصيل، ونقدم أفكاراً لتطوير هذه العقلية وإدارة الأزمات بأسلوب يحقق نتائج أفضل.
تحدي عوامل تشتيت الانتباه
في أثناء هذه الأوقات المليئة بالغموض والشك، يجب أن تكون قادراً على النظر من الزاوية الأوسع من أجل فهم الصورة الكبيرة المتغيرة، ثم العودة إلى التركيز على تنفيذ التدابير قصيرة الأمد.
قد يبدو ذلك مستحيلاً وأنت غارق في طوفان من المعلومات التي تأتيك من كل حدب وصوب، إذ تتلقى مزيداً من الرسائل الإلكترونية وتعقد مزيداً من الاجتماعات وتسمع مزيداً من الأخبار. يرفع الحمل الزائد من المعلومات خطورة تشتيت الانتباه، ما يصعّب الحفاظ على الوعي والتركيز. وقابلية التشتت، أي عندما يتنقّل عقلك من أمر لآخر، ليست رشاقة. بل هي ملاحقة أي شيء يلفت انتباهك من دون تركيز استراتيجي أو ترتيب ثابت للأولويات.
اقرأ أيضاً: عندما تضرب الأزمة، تذكر أن تشحن عقليتك الإدارية بالإنسانية
ومن أجل التغلب على قابلية التشتت، نحن بحاجة إلى الرشاقة الذهنية التي تمكننا من التنقل بين التركيز والوعي. التركيز هو قدرتنا على الحفاظ على توجيه انتباهنا إلى المهمة التي نعمل على إنجازها وتنفيذ أولوياتنا بكفاءة. أما الوعي فهو قدرتنا على النظر إلى الصورة الأكبر، والمستقبل، والتغييرات المقبلة. يسمح لنا الوعي بملاحظة التغييرات في البيئة من حولنا وتقييمها، والتمسك بصورة مؤسستنا والفصل بين الإشارات ذات المعنى والضوضاء التي تسبب التشويش. بعد تقييم الصورة الأكبر، يكون التركيز ضرورياً للاستجابة بحزم واستخدام الإمكانات المناسبة وتنفيذ الإجراءات على نحو منتظم.
اقرأ أيضاً: فن الطلب من الآخرين
من أجل اختبار مرونتك بين التركيز والوعي، يمكنك تجربة الطريقة التالية: وأنت تقرأ هذه الجملة، حاول أن تنقل تركيزك بسرعة من هذه الكلمات إلى الوعي بمجمل أولوياتك في هذا اليوم. كيف سار الأمر؟ هل تمكنت من الانتقال فوراً، أم احتجت بعض الوقت؟ هل بقي جزء من ذهنك عالقاً بالكلمات التي قرأتها للتو؟ إذا لم تكن واثقاً من تجربتك، جرب ثانية: انقل تركيزك من أمر مفصل إلى وعي يشمل الصورة الأكبر.
ومن أجل تخفيض قابلية التشتت، وزيادة الرشاقة الذهنية، فكر بأعمال قيادتك الآن على أنها مجموعة سباقات قصيرة سريعة، تجتمع لتشكل سباق ماراثون كبيراً، ولكن كلاً منها هو سباق مستقل بذاته. وما بين السباق والآخر، اسمح لنفسك ببضع دقائق من الراحة، دع ذهنك يهدأ ولو لدقيقة. خذ عدة استراحات صغيرة أثناء اليوم عندما لا يكون لديك ما تنجزه، فهذه الاستراحات ستؤدي إلى تعميق تركيزك ووعيك على حد سواء، وتساعدك على تقييم ما إذا كنت تركز على الأمور المناسبة أم لا.
وعلى فكرة، هناك علاقة وثيقة بين الرشاقة الذهنية وممارسة اليقظة الذهنية التي تبني قدرة العقل على التركيز والوعي. وهناك كثير من التطبيقات الذكية المجانية التي تساعدك على ممارسة اليقظة الذهنية.
اقرأ أيضاً: تسويق العلامات التجارية خلال أزمة كورونا
تحدي الغرور
في الوقت الراهن، يتغير العالم بسرعة، ويتحرك القادة بسرعة أيضاً للحفاظ على استقرار شركاتهم وإعادة توجيهها. وللأسف، يمكن أن يعيق الغرور هذه التغييرات اللينة. إذ يتمسك غرورنا بنجاحاتنا السابقة والأمور كما اعتدنا عليها في الماضي، وعندما ينقلب كل شيء، وتفقد نجاحاتنا السابقة وأساليبنا المعتادة أهميتها، يجرح ذلك غرورنا، فيبدأ بالتمسك أكثر بالعالم الذي اعتدنا على معرفته وفهمه. يقتل الغرور قدرتنا على التفكير برشاقة.
وعلاج الغرور هو الإيثار، واستبعاد غرورنا لفترة من الزمن وعدم اصطحابه معنا إلى العمل كل يوم. ويعني الإيثار أن نتساءل عن الطريقة التي تمكننا من خدمة رسالة الشركة من دون الاهتمام بالشهرة والثروة والنفوذ. وهذا يعني بالنسبة للقادة الاعتراف بعدم معرفة الأجوبة المطلوبة، وطلب نصح الآخرين والآراء الخاصة بهم ودعمهم بكل صراحة، وإدراك أن التفكير بالمستقبل المجهول والتعامل معه يحتاج إلى التعاون.
هناك كثير من الأمثلة المذهلة عن الإيثار نراها في استجابة الشركات لأزمة فيروس كورونا. خذ مثلاً قادة إحدى شركات الصناعات التقنية الحيوية الذين يزيلون الجدران بين مكاتبهم كي يتمكنوا من التعاون ودعم بعضهم البعض في سباقهم لتطوير لقاح مضاد لفيروس "كوفيد -19". وتتيح إحدى الشركات، وهي "جينكو بايو ووركس" (Ginkgo Bioworks) إمكانية الوصول المجاني لمنصتها الخاصة بقسم البحث والتطوير من أجل مساعدة الشركات الأخرى على تسريع تطوير وسائل تشخيص المرض واللقاح المضاد له والعلاج المناسب له.
بالطبع، يجب أن يكون هناك توازن بين الإيثار والثقة بالنفس. ويجب أن يشعر فريقك بثقتك حاضرة في الاستراتيجية التي يتبعونها، وعندما تتمكن من جمع اليقين مع التحرر من الغرور، فستغرس إحساساً عميقاً بالثقة والأمان النفسي في مؤسستك، وعندئذ، سيتمتع كل قسم فيها بالقوة اللازمة للقيام بالمجازفات المدروسة والتكيف والابتكار والتحرك بنفس سرعة حركة الأزمة.
تحدي التعاطف
التعاطف هو القدرة على إدراك عواطف الآخرين وفهمها، وهو أمر حيوي في القيادة الجيدة. لكن في الأزمات، يمكن أن يصبح التعاطف عائقاً في وجه اتخاذ التدابير المناسبة، كما يمكنه أن يعيق رشاقتك الذهنية.
قدم خوان إنريكيز، المدير الإداري لشركة "إكسل فينشر مانجمنت" (Excel Venture Management)، نصيحة للقادة في هذه الأزمة، قال فيها: "عليك أن تبدأ بالتفكير كالطبيب الجراح، فهو لا يفكر أن العملية الجراحية ستكون مؤلمة، وأن فترة التعافي على مدى الشهرين التاليين ستكون مؤلمة. بل يقول: ’يجب أن أجري هذه العملية الجراحية كي أنقذ حياة المريض أو أجعله في حال أفضل بكثير مما هو عليه اليوم‘. وهذا تحديداً ما يجب على القادة التفكير به".
غالباً ما يجبر القادة على اتخاذ قرارات صعبة بشأن تسريح العمال وتخفيض الأجور وإغلاق المنشآت، وغير ذلك. وتؤثر قراراتهم هذه على حياة الموظفين على نحو سلبي. ونحن على اعتبارنا أشخاصاً متعاطفين، لا نحب جرح مشاعر الآخرين، ولهذا السبب فنحن معرضون لخطورة عدم فعل ما يجب علينا فعله.
والتراحم هو علاج الشلل الذي يتسبب به التعاطف. التعاطف والتراحم أمران مختلفان تماماً من الناحية النفسية والعاطفية والعصبية. فنحن نشعر بالتعاطف عندما نرى شخصاً يعاني، ولكن يبقى هذا الشعور داخلنا. أما التراحم فهو شعور بنّاء أكثر، لأنه يبدأ تعاطفاً، ثم يخرج على شكل عزم على المساعدة.
ولتوضيح التراحم في الأفعال، لنأخذ أفعال آلان جوب وتصريحاته، وهو الرئيس التنفيذي لشركة "يونيليفر" (Unilever). إذ عبر عن تعاطفه الشديد مع مرضى فيروس كورونا، ومن يعتنون بهم ويقدمون لهم الرعاية الصحية. وترجم مشاعره هذه إلى خطة عمل على درجة كبيرة من الوضوح والجرأة، وهي تشمل المساهمة في عدد من الدول بتقديم سلع تزيد قيمتها عن 100 مليون يورو، وتقديم مبلغ 500 مليون يورو أخرى لإغاثة تجار التجزئة الصغار والموردين الضعفاء، وإعلان الثاني عشر من شهر مايو/أيار "يوماً للخدمة" في الولايات المتحدة لتقديم كل المواد الأساسية التي تنتجها معامل شركته في الولايات المتحدة كتبرعات لمؤسسات الشراكة المجتمعية.
كي تزيد التراحم في أسلوب قيادتك والرشاقة في تفكيرك، حاول طرح أسئلة بسيطة على نفسك عندما تكون مع الآخرين، مثل: كيف يمكن أن أكون مفيداً لهذا الشخص؟ فعندما يتكرر هذا السؤال البسيط عدة مرات في اليوم، سيعيد صياغة طرق تفكيرك وتصرفك بصورة تدريجية.
وفي ختام الحديث عن طلب الكمال في الأزمة، سيتمكن القادة الذين يعملون في الأزمات، وفي أي وقت آخر، من الحفاظ على وعيهم وزيادة رشاقتهم الذهنية عن طريق التغلب على هذه التحديات الثلاثة بواسطة التركيز والوعي، والإيثار، والتراحم.
اقرأ أيضاً: الميزة التنافسية التي تتمتع بها الشركات ذات بيئات العمل المتكاملة في ظل الأزمات