يؤمن كثير من الأفراد بضرورة أن يتبنى القادة نهجاً صارماً في إدارة مؤسساتهم وقيادتها في الاتجاه الصحيح، أو أن يتمتعوا بالهيبة وأن يكون لديهم ميولاً استراتيجية للتنمر. في الواقع، غالباً ما تُعتبر العقلية الصارمة ضرورية لتولي قيادة الشركات الكبيرة، خاصة تلك التي تضم أعضاء في الهيكل التنظيمي يتصفون بالتمرد، أو تلك التي تمتلك أنظمة إدارة صارمة، أو بيئات عمل مضطربة. وتعكس هذه المعتقدات جزءاً من الواقع، لكن هذا لا يعني أن ممارسات القيادة المسيئة هي ممارسات ناجحة، أو أن المدراء الذين يعتمدون التخويف في إدارتهم هم الأفضل، بل على العكس تماماً.
فعلى الرغم من أن تلك الممارسات قد تسفر عن نتائج مفيدة على المدى القصير، إلا أن عواقبها على المدى الطويل قد تكون أكثر ضرراً على الموظفين أو على المؤسسة بالكامل.
أجريتُ دراسة على العلاقات بين المدراء والموظفين في الولايات المتحدة والصين، ووجدت أنه عندما أساء القادة التعامل مع مرؤوسيهم لفظياً، لجأ المرؤوسون إلى التفكير في أساليب أفضل لأداء مهامهم اليومية وتعزيز أدائهم اللاحق. وبالمثل، وجد بحث سابق أن أسلوب الإذلال العلني الذي يتبعه المدراء قد يدفع الموظفين إلى حل مشكلات عملهم خوفاً من التعرض إلى الترهيب والعقاب.
لكن للقصة جانب آخر، إذ لم تتحقق الفوائد التي وثّقتها إلا بشكل مؤقت، وكانت موجودة بين عدد قليل فقط من المرؤوسين الذين اعتقدوا أن القادة يعتزمون تحقيق نتائج أعمال أفضل. والأهم من ذلك، عندما جمعت التقييمات حول الأداء اليومي لأولئك المرؤوسين، وجدت أن أداءهم في المتوسط كان أسوأ بكثير من أداء المرؤوسين الذين لم يتعرضوا لسوء معاملة من المدراء خلال فترة الدراسة التي دامت أسبوعين. وفي مشروع بحثي منفصل يدرس العلاقات وفق نطاق زمني يمتد من شهر إلى عام، وجدت بالمثل أن الموظفين الذين يتعرضون لسوء المعاملة، حتى وإن كانت مرات قليلة، يكون أداؤهم أقل بكثير مما هو متوقع على المدى الطويل، ويبدون مستوى منخفضاً من الالتزام تجاه مدرائهم وشركاتهم، وقد ينخرطون في سلوكيات عمل غير منتجة وعدائية في كثير من الأحيان. ومن الواضح أن الآثار الوظيفية قصيرة الأجل التي تنتج عن السلوك المسيء الذي يتبعه المدراء، يسفر عن عواقب كبيرة وطويلة الأجل على المؤسسات.
ومن المثير للاهتمام، أن المدراء غالباً ما يكونون غير مدركين لتلك العواقب الوخيمة والضارة، والتي تكون خفية في العادة. وكثيراً ما يفشل المسؤولون التنفيذيون والمدراء أيضاً في إدراك التداعيات السلبية لسوء المعاملة، والتي يكون أثرها تراكمياً. نتيجة لذلك، كانت الشركات الكبرى فاعلة إلى حد ما في تطوير حلول مناسبة للحد من إساءة المدراء وأسلوب الترهيب الذي يمارسونه. قد تنطوي بعض البرامج التي تسلط الضوء على المعايير السلوكية الإلزامية، مثل التدريب على التنوع، على نتائج عكسية، إذ من المحتمل أن يشعر المدراء بالخوف من اضطرارهم إلى كبح سلوك الاستقلال الذاتي الذي يتمتعون به وحرية العمل التي يمارسونها، وهو ما يمثل تعارضاً مباشراً مع تلك المبادئ التي تتيح لهم التمتع بالاستقلال الإداري.
ويشير بحثي وبحوث الآخرين إلى أنه على الرغم من تلك الصعوبات، يمكن كبح سلوكيات القيادة المسيئة عندما تستخدم أماكن العمل نظام "ترغيب" جماعي قوي في السلوكيات الفاعلة، بمعنى أن يلجأ كل من المسؤولين التنفيذيين والموظفين في مستويات مختلفة من التراتبية التنظيمية في ذلك النظام إلى تعزيز سلوك القيادة البنّاء لدى المدراء باتباع ثلاث طرق، وهي برنامج تقييم القيادة الموجه نحو العملية وبرنامج التدريب على القيادة القائم على المواقف وبرنامج الحماية الذاتية للموظف. إليكم آلية عمل تلك البرامج والدليل الذي يبرهن نجاحها.
تطوير القدرات القيادية للترغيب في ممارسات السلوك البناء
برامج تقييم القيادة الموجهة نحو العملية. تواجه الشركات في الغالب صعوبة في تحديد هوية القادة المسيئين أو الذين يمارسون أسلوب الترهيب في الوقت المناسب، ويعود سبب ذلك إلى أن معظم الشركات تقيّم أداء القادة وفقاً للمقاييس المالية والتصورات الذاتية، متجاهلة الأسلوب الذي يتبعه المدراء للحصول على تلك التقييمات. وغالباً ما يحظى العديد من المدراء المسيئين بتقييمات مذهلة حول مهاراتهم في الأداء والإدارة.
ولمعالجة تلك القضية، يركز برنامج تقييم القيادة الموجه نحو العملية على جميع الإجراءات المرتبطة بالعمل وبالعلاقات مع الآخرين التي اتخذها المدراء لتحقيق أداء جماعي أفضل. وقد يساعد البرنامج في إبراز حقيقة تلك التقييمات وفي توضيح ماهية التدخلات الضرورية للقيادة. ويقدم برنامج التقييم والملاحظات للرؤساء التنفيذيين لشركة "آرو إلكترونيكس" (Arrow Electronics)، مثالاً جيداً على ذلك النوع من البرامج، وجاء ذلك بحسب الرئيس التنفيذي السابق للشركة في مقالة نشرت في موقع "هارفارد بزنس ريفيو" عام 2008.
أولاً، التقى مدراء إدارة شركة "آرو إلكترونيكس"، المستقلون بشكل فردي مع ثلاثة مسؤولين تنفيذيين لمناقشة الأسلوب الذي اتبعه الرئيس التنفيذي في قيادة فريقهم التنفيذي وتحفيزه، وما إذا كان الرئيس التنفيذي قد ساعد في خلق ثقافة تدعم مهمة الشركة وقيمها وغيرها من القضايا المتعلقة بعملية القيادة. ثم قارن مدراء الإدارة المستقلون الملاحظات والقضايا المشتركة مع الرئيس التنفيذي في اجتماع مجلس الإدارة. ولم يكتفوا بإبلاغه بالمشكلات التي لاحظوها فحسب، وإنما قدموا له أفكارهم واقتراحاتهم لمساعدته في تطوير سلوكياته.
ويتوافق النهج الذي اتبعته شركة "آرو إلكترونيكس"، مع الأفكار الرئيسة لنظريات تطوير القدرات القيادية، التي تسلط الضوء على أهمية إجراء عمليات التقييم وتقديم الملاحظات المستمرة والمرتكزة على الإجراءات والعمليات في منع السلوكيات القيادية غير الملائمة والترغيب في اتباع سلوكيات القيادة البناءة. حيث كانت الملاحظات المستمدة من برنامج التقييم، مفيدة في تزويد الرئيس التنفيذي بإرشادات مناسبة وآنية حول كيفية تعديل سلوكيات القيادة لتطوير قدرات الفريق التنفيذي وتحقيق نتائج أفضل، وساعدته أيضاً في منع تصعيد بعض مشكلات القيادة الخفية والمؤثرة ومنع تطورها إلى أزمة إدارية.
وتدعم البحوث مقدار الفارق الذي أحدثه البرنامج، حيث وجدت دراسة أجريت على 60 مديراً من المستويات الوسطى والعليا من المؤسسة أعدّها الأستاذان سكوت ديرو ونيد ويلمان، أن الآراء التقييمية العملية والمتكررة على عمليات القيادة من الزملاء، تساعد المدراء الذين يواجهون تحديات صعبة في العمل ليكونوا أكثر وعياً بسلوكياتهم القيادية غير الفاعلة. وتُتيح لهم أيضاً تعديل أساليبهم في التعامل مع أداء موظفيهم ومشكلاتهم الشخصية بانتظام وبطريقة أكثر ملاءمة، وهو ما يقود في النهاية إلى فرق عمل حسنة القيادة.
برامج التدريب على القيادة القائمة على المواقف. تجد معظم الشركات أن مبادرات التدريب على القيادة غير ناجحة، لأنها نادراً ما تشهد أثر التحولات المتوقعة من المدراء والمسؤولين التنفيذيين. والسبب في ذلك، هو أن المدراء يجدون أنفسهم غالباً في صراع هدفه تطبيق الخبرات التي اكتسبوها في البرامج التدريبية في مكان عملهم الحقيقي. في المقابل، تتصف البرامج التي تركز على التعلم المستدام وعلى كيفية تطبيق المهارات في مكان العمل، والتي توضح دور القادة في سياقات الإدارة المختلفة بأنها برامج ناجحة، وتأتي فائدتها المثلى في حثّ المدراء على الكف عن استخدام أسلوب الإساءة والترهيب.
وينطوي النهج البسيط والعملي الذي أستخدمه غالباً في دورة تطوير القدرات القيادية على إمعان التفكير في طبيعة القيادة والتدخل غير المباشر. حيث أطلب من المدراء بداية تذكر وقت أساؤوا فيه إلى موظفيهم وكتابة ما فعلوه وسببه وماهية مشاعرهم آنذاك. ويكتب المدراء بعد ذلك جميع العواقب التي خلفتها سلوكياتهم على كل من أنفسهم ومرؤوسيهم المستهدفين، سواء كانت تلك العواقب وظيفية أو غير وظيفية. وأطلبُ منهم بعد ذلك كتابة ثلاثة بدائل أفضل للتعامل مع ذلك الموقف في حال واجهوا موقفاً مماثلاً مرة أخرى. علاوة على ذلك، أجمع المدراء معاً وأطلب منهم مشاركة تجاربهم والبدائل التي توصلوا إليها؛ ولا بدّ على المدير الذي يستمع من تقديم ملاحظاته واقتراحاته حول تلك البدائل أو تقديم بدائل أخرى قد تكون أكثر فاعلية وتحفيزاً.
وقد وثّقت فائدة تمرين التأمل الذاتي للقيادة في دراسة شبه تجريبية دامت 9 أشهر مع 173 عاملاً من العمال الذين شاركوا في سلسلة من أربع عمليات محاكاة لتطوير القدرات القيادية باعتبارها جزءاً من برنامج التدريب على ماجستير إدارة الأعمال. حيث عقد المشاركون جميعهم خلال تلك الدراسة اجتماعات فردية مع الباحثين بعد كل عملية محاكاة دامت مدة 40 دقيقة تقريباً. وبيّن الباحثون للمشاركين في مجموعة التجريب أهمية دورهم بصفتهم قادة في عملية المحاكاة، وأوضحوا لهم السلوكيات غير اللائقة التي اتبعوها وكيفية تحسين أدائهم. ووضعوا لهم أيضاً إجراءات محددة قرروا اتخاذها لتحسين عملية المحاكاة القادمة.
في حين أجرى المشاركون في مجموعة التحكم نقاشات عشوائية حول ما فعلوه بشكل عام في المحاكاة الأخيرة. ووجد الباحثون أن المشاركين في المجموعة الأولى كانوا أكثر قدرة على تعديل سلوكيات القيادة السابقة غير الفاعلة، وتمتعوا بمستوى أعلى من مهارات القيادة في نهاية أربع جلسات من المحاكاة. وقد تكون برامج التدريب على التأمل المماثلة مفيدة للغاية في حث المدراء على تعديل سلوكياتهم المسيئة تجاه مرؤوسيهم وتطوير مهاراتهم القيادية.
برامج الحماية الذاتية للموظفين. يمكن للشركات أيضاً تقديم برنامج استباقي يسهل على الموظفين التعامل بشكل جماعي مع سلوكيات القيادة المسيئة التي قد يتعرضون لها. وتشير الأبحاث حول السلطة الاعتمادية والتبعية إلى إمكانية توحد الموظفين الخاضعين لسلطة قائد مسيء معاً، في سبيل إعادة تحديد ديناميكيات السلطة مع القائد واتباع أساليب الإدارة الفاعلة للحد من سلوكياته المسيئة.
وتتألف إحدى الطرق الفاعلة لتحقيق ذلك الهدف، في تشكيل الموظفين تحالفات مع زملائهم الذين يعانون من سوء معاملة مماثلة من المشرف، والتنسيق مع بعضهم البعض لمنع مدرائهم من الحصول على الدعم والموارد الكافية والفورية بغية بلوغ أهدافهم. ويمكن للشركات المساعدة في تشكيل التحالف من خلال تنظيم فعاليات لتدريب الموظفين وإنشاء برامج الدعم المتبادل أو التشجيع على تطوير تلك البرامج. ومن الضروري أن تكون تلك البرامج مستقلة عن المدراء ومخصصة للموظفين، بحيث تتيح لهم مشاركة خبرات العمل وتطوير استراتيجيات جماعية للحد من سلوكيات القيادة المسيئة. على سبيل المثال، يمكن للموظفين تنظيم مواعيد استراحات الغداء للتعبير عن سوء المعاملة من قبل مدرائهم ومناقشة كيفية تقليل شعور المدراء بالسلطة ومنعهم من إساءة معاملتهم في المستقبل. وكلما طور الموظفون قوة جماعية أقوى، نجحوا في حث المدراء على اتخاذ إجراءات تقويمية تتيح لهم تعديل ديناميكيات العلاقات المتوترة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للموظفين التعلم من الآخرين من خلال تلك البرامج واكتساب مهارات العمل والمعرفة والقدرات القيمة، ما قد يعزز من قيمتهم ويزيد من اعتماد مدرائهم عليهم. وتأتي أهمية تلك الخطوة، في أنه كلما تزايد اعتماد المدراء المسيئين على الموظفين، يصبح الموظفون أكثر قوة في المطالبة بتعويضات عن الأخلاق غير اللائقة التي يُبديها مدراؤهم وفي ترغيبهم في سلوكيات القيادة البنّاءة. وتكشف نتائج الأبحاث المستندة إلى بيانات استطلاع الرأي التي أجريت على مدى فترات زمنية مختلفة على ما مجموعه 343 مديراً من المستويات الوسطى والعليا وموظفيهم، أنه عندما يستخدم الموظفون الاستراتيجيات المذكورة أعلاه لتعزيز قوة تأثيرهم، قد يواجهون معاملة أقل إساءة من مدرائهم في المستقبل.
ويمكن للمؤسسات أيضاً تنفيذ برامج تدريب التطوير الذاتي لمساعدة الموظفين في استخدام بعض أساليب التأثير الضمني للرد على إساءة مدرائهم بطريقة مناسبة عند تعرضهم لسوء المعاملة. ويتمثل أحد الأساليب الممكنة استناداً إلى بعض النتائج البارزة من أحد مشاريعي البحثية الجارية في استخدام نهج الترغيب القائم على الحقائق. فعند الانخراط في مشكلات سوء المعاملة والترهيب، يميل الموظفون تلقائياً إلى اتباع أسلوب المواجهة أو التزام الصمت. لكن لا تعتبر تلك الاستجابات فاعلة. بدلاً من ذلك، يمكن تدريب الموظفين على تهدئة الموقف من خلال إبراز عدم قدرتهم على أداء مهامهم بفاعلية بسبب سوء المعاملة. ومن المؤكد أن تلك الخطوة ليست بالأمر السهل؛ لكن يمكن لنهج الترغيب المعتمد على الحقائق ذلك، مساعدة المدراء الذين يتّبعون أسلوب الترهيب في إدراك مدى سوء سلوكياتهم والاعتراف أنها سلوكيات مرفوضة، ويسفر أيضاً عن التقليل من العواقب المترتبة على سلوكياتهم تلك.
الآثار الممتدة لسوء المعاملة
تمتد عواقب سلوكيات القيادة المسيئة لتتجاوز الموظفين؛ ذلك أنها تسفر عن عواقب نفسية غير متوقعة لدى المدراء أنفسهم. لاحظت وزملائي في دراستين من الدراسات اليومية التي تهدف إلى تحديد كيفية استجابة المدراء لسلوكهم القيادي المسيء، ميل أولئك المدراء إلى الشعور بالذنب وانعدام الأخلاق بعد الصراخ على المرؤوسين أو إذلالهم. ولتخفيف مثل تلك المشاعر السلبية حول أنفسهم، قد يسعى المدراء إلى اتباع إجراءات تقويمية مختلفة، مثل إيلاء مزيد من الاهتمام باحتياجات الموظفين الذين يتعرضون لسوء المعاملة وتوفير موارد إضافية لهم، إضافة إلى دعمهم وإرشادهم في العمل. وعلى الرغم من أن مثل تلك الإجراءات التقويمية الشخصية اللاحقة قد تكون مفيدة للمدراء وتساعدهم في تعزيز أخلاقهم، لكنها قللت في النهاية من كفاءة المدراء، إذ دفعتهم إلى تركيز أوقاتهم وطاقاتهم على أعمال أخرى بدلاً من أداء ما هو مهم حقاً.
وهو ما يقودني إلى نقطتي الرئيسة، وهي أن سوء المعاملة والترهيب (التخويف) من قبل المدراء لموظفيهم ليسا ضمن أساليب التأثير المجدية بالنسبة للقادة، حتى مع من يتمتعون بكاريزما رائعة. وعلى الرغم من وجود كثير من المواقف التي تكون إقالة قائد ما فيها خطوة ضرورية، يمكن للشركات في كثير من الحالات، إعداد مجموعة من البرامج لتغيير سلوك المدراء الذين يمارسون أسلوب الترهيب، من خلال ترغيبهم في سلوكيات القيادة الواعية والتطويرية والملهمة. فبرامج الترغيب تلك مبنية على الجهود الجماعية لأعضاء المؤسسة عبر مستويات مختلفة من التراتبية وتهدف إلى تطوير ديناميكيات تفاعلية بناءة بين المدراء والموظفين، بدلاً من فرض عقوبات شديدة على هؤلاء القادة "العظماء" ولكن المسيئين.