يمر العالم بالعديد من المتغيرات التي أثرت وستؤثر على حياة المجتمعات في شتى بقاع العالم، ولعل أبرز تلك المتغيرات هي تلك المتعلقة بالقطاعات الحيوية المهمة لضمان استمرار عملية التنمية. وتبرز قضية الغذاء من بين أهم القضايا المطروحة بشكل دائم على طاولة اجتماعات حكومات العالم، فالغذاء مصدر أساسي لحياة الإنسان والضامن لاستكمال مسيرة الحضارة البشرية. وكان لزاماً على الحكومات حول العالم الاهتمام بقضية الغذاء ووضعها على رأس الأولويات. ويعد الاعتماد على الخبرات والكفاءات البشرية أول خطوة في طريق النجاح والوصول إلى هدف تحقيق الأمن الغذائي والقضاء على الجوع (وفق أهداف التنمية المستدامة لمنظمة الأمم المتحدة) سواء داخل الإمارات أو أي دولة حول العالم، لما يمثله الكادر البشري من أهمية في ابتكار وإيجاد الحلول المتقدمة المعتمدة على التكنولوجيا الحديثة لتوفير الغذاء وزيادة إنتاجه وإنقاذ العالم من خطر الجوع الذي تفشى في العديد من مناطق العالم.
انطلاقاً من هذه القاعدة الراسخة، أدركت دولة الإمارات العربية المتحدة أهمية إعداد كوادر وطنية مؤهلة لخدمة كافة القطاعات الحيوية داخل الدولة، وتم إطلاق برنامج "خبراء الإمارات" ليكون خير ممارسة لتواكب تطلعات الدولة في تحقيق التنمية المستدامة بكافة المجالات، وتوفير كل سبل الدعم على المستويين الاستراتيجي والتنفيذي من أجل تحقيق الأمن الغذائي لدولة الإمارات، لقد لمس البرنامج الطموح بالفعل وسيساهم في تحويل دولة الإمارات إلى مركز عالمي للأمن الغذائي القائم على الابتكار.
يقودنا ذلك إلى إثارة أهم ما يتعلق بتحقيق الأهداف الوطنية والعالمية في أجندة الأمن الغذائي من خلال توفير غذاء كافي وصحي بأسعار مقبولة لكل فرد في المجتمع وفي كافة الظروف، ويواجه العالم - الذي نحن جزء منه - عدداً من التحديات أبرزها تنامي عدد السكان العالمي ووصوله إلى 9.7 مليار نسمة بحلول 2050، مما يحتم زيادة معدلات الطلب بنسبة تصل إلى 50%، إضافة إلى ذلك يواجه العالم قضية التغيرات المناخية، وما تسببه من ندرة في الأراضي الزراعية وحدوث الجفاف في مناطق واسعة من العالم، وهو ما نواجهه في دولة الإمارات بسبب طبيعة البيئة الصحراوية، وهو ما يتطلب منا إيجاد حلول تقنية وتكنولوجية مستدامة لإنتاج الغذاء.
وبفضل الاطلاع على أحدث النظم التكنولوجية العالمية والاعتماد على الكوادر الوطنية في التطوير والبحث العلمي، استطاعت دولة الإمارات تنفيذ عدد من المشروعات الخاصة بالزراعة والاستزراع السمكي الرائدة والتي نعول عليها لأن تكون نواة لإنتاج غذاء كاف بصورة مستدامة، وهو ما يصب في الوقت نفسه في صالح التنمية المستدامة وتحقيق عوائد ومنافع اقتصادية عديدة على المدى الطويل، حيث اعتمدت الدولة الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي المتضمنة لعدد (41) برنامج عمل موزعة على خمسة محاور استراتيجية بهدف تعزيز الأمن الغذائي، وهذه المحاور تتباين في طابعها بين التركيز على التعاون الدولي والتبادل التجاري لتقليل الفجوة بالميزان التجاري وبين التركيز على الأنظمة الداخلية لتعزيز الأمن الغذائي، وهذه التوجهات هي:
1- تسهيل تجارة الغذاء وتنويع مصادر الاستيراد.
2- تطوير إنتاج محلي مستدام ممكن بالتكنولوجيا لكامل سلسلة القيمة.
3- الحد من فقد وهدر الغذاء.
4- ضمان سلامة الغذاء وتحسين نظم التغذية.
5- تعزيز القدرة على مواجهة المخاطر والأزمات المتعلقة بالأمن الغذائي.
ستساهم الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي في تحقيق العديد من المكاسب النقدية والاقتصادية من خلال خلق أكثر من (16) ألف فرصة عمل في مجال الزراعة الحديثة، وزيادة الناتج الإجمالي الزراعي بقيمة (100) ألف طن من الأغذية مما يوفر مكاسب نقدية بقيمة 22 مليار درهم.
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: مكونات الميزان التجاري
وتعتمد الاستراتيجية على خمس مقومات لتساهم في تحقيق رؤية وأهداف الدولة بهذا المجال، ويبرز بها مقوم بناء القدرات ورأس المال البشري الذي يتواكب مع برنامج "خبراء الإمارات" من خلال خلق المعرفة المتخصصة في مجال الأمن الغذائي عند الكوادر البشرية المواطنة والشابة الطموحة لخدمة الوطن، هذا البرنامج الذي يعتمد على مختلف أساليب نقل المعرفة منها التوجيه المباشر بين المسؤول والمتدرب يضمن شفافية وسهولة التحاور بين الأطراف المعنية، مما يؤدي إلى تحقيق مستويات عالية من الفهم والنضوج بين ما ترسمه الدولة من استراتيجيات وخطط وما يتطلبه من خبرات وكفاءات، يجب أن يكتسبها الشباب لضمان دفع عجلة التنمية المستدامة والاستمرار في قصة نجاح هذه الدولة الفتية.
لقد عشنا في هذه التجربة وتعلمنا منها الكثير ونلخص أهم دروسنا المستفادة وهي:
1- ضرورة البحث والتطوير والاطلاع على ما يقوم به العالم من منظور إيجابي وبمنظور بيئتنا المحلية، فالمعرفة يجب أن ترتبط بالتطبيق والتنفيذ والموائمة بالظروف المحلية لتعظيم الفائدة.
2- العمل بروح الفريق الواحد وبأسس التكامل والتنافس الإيجابي فكل منا لبنة في هذه المنظومة.
3- الاستمرارية وبذل الجهد بهمة فنحن بسباق الألف خطوة.
4- اكتساب وتنويع المهارات والخبرات ضروري وبشكل مستمر لأن البحث والتطوير يحتم علينا معرفة الجديد وتقبله عوضاً عن الخوف من المجهول.
لقد كان للكوادر الوطنية والاستشارية المؤهلة دور حيوي في تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي، من خلال العديد من المشروعات والجهود المشتركة التي تجلت في برنامج المسرعات الحكومية لتبني التكنولوجيا الحديثة الزراعية الذي يهدف إلى تعزيز استخدام التقنيات المستدامة وتبني نظم الزراعة المغلقة، بالإضافة إلى تنمية وتطوير استزراع الأحياء المائية عبر تربية الأسماك والأحياء المائية في بيئات المياه العذبة والمالحة، حيث عززت الدولة مكانتها في هذا القطاع باستثمار أكثر من 100 مليون درهم لتطوير مزارع الأسماك.
كما تشكل نظم الزراعة المغلقة ومنها المزارع العمودية محوراً مهماً من خطط دولة الإمارات للارتقاء بالزراعة وزيادة الإنتاج الزراعي للدولة من خلال تطبيق التكنولوجيا والحلول المستدامة التي تراعي استخدام كميات أقل من المياه. فضلاً عن الزراعة دون الحاجة إلى أراض زراعية، فالزراعة العمودية هي الحل لأكبر تحديات الزراعة في دولة الإمارات. وقد تم افتتاح مزرعة الفوز الرأسية بمساحة 8,500 قدم كأول مزرعة رأسية تجارية ذات تكنولوجيا متطورة على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، وهي تتبع لـ "مزارع بادية" في إمارة دبي. وتنتج المزرعة المحاصيل الزراعية دون مواد كيميائية ومبيدات على مدار 365 يوماً في السنة، كما تستنبت في منشأة داخلية تعتمد على وسائل تقنية متطورة تمكن المزارعين من الزراعة دون الحاجة إلى التربة وبكميات أقل من المياه بنسبة 90% مقارنة بحقول الزراعة المفتوحة.
ليست الأمثلة السابقة سوى بداية لطريق طويل من الإنجازات على مستوى الأمن الغذائي، فبالاعتماد على كوادرنا البحثية والاستشارية، بخاصة المؤهلين من برنامج "خبراء الإمارات"، يمكننا صناعة مستقبل الغذاء في الإمارات والعالم، فالشباب والعلماء والباحثين هم ثروة الوطن الذين نعول عليهم في إحداث التغيير وذلك التغلب على التحديات وتحويلها إلى فرص تعزز من مكانة الدولة في كل المجالات.
اقرأ أيضاً: تقبل الانتقاد