يُقال إن "كوفيد-19" يضعنا جميعاً في مهب الريح، ولكنه لا يضعنا في القارب نفسه، بمعنى أن الجائحة تؤثر على البعض أكثر من غيرهم على الصعيد المادي والاقتصادي والنفسي بسبب شبكة العلاقات المهنية المتغيرة بينهم، إذ إن بعضنا يعيشون في مجتمعات فقيرة أو ينتمون إلى أقليات نالها من الوفيات والدمار ما يفوق نسبتها في المجتمع، ويعمل بعضنا في قطاع الخدمات الأساسية ويتعرض بعضنا لمخاطر جسدية علاوة على الاستنزاف عاطفياً، وقد يكون البعض الآخر من العاملين في القطاع الخدمي يصارعون من أجل البقاء بعد تسريحهم من العمل، هذا بالإضافة إلى عدد أكبر من المدراء رفيعي المستوى الذين فوجئوا بمعاناتهم انعدام الأمن الوظيفي، فيما لم يغير الوباء حياة البعض الآخر إلا قليلاً.
اقرأ أيضاً: أسئلة القراء: كيف أُُحدث تقدماً في مسيرتي المهنية أثناء تغيّر القيادة؟
وسواء وجدنا أنفسنا على طوف أو يخت، فإن الجميع لا يزالون بحاجة إلى التواصل مع الآخرين خاصة إبان الأزمات، وبمقدور الحكومة والمؤسسات التي نعمل بها والمجتمعات التي ننتمي إليها أن تقدم لنا بعض الدعم، لكن الثغرات الموجودة في شبكات الأمان المؤسسية والعملية غالباً ما تكون من الكثرة بمكان، وقد نجد أنفسنا غير مرتاحين لها تماماً إبان الاضطرابات، كما هو الحال بعد فقدان الوظائف، ذلك أن شبكاتنا الشخصية المكونة من أصدقائنا وأفراد أسرنا وزملائنا ومعارفنا هي التي تسد هذه الثغرات إبان الأزمات في نهاية المطاف، وتحمينا بالتالي من السقوط العنيف مالياً وعاطفياً.
كنا قد أجرينا بحثاً قبل اندلاع هذه الجائحة تناولنا من خلاله تباين المكانة الاجتماعية والاقتصادية للأفراد وأثره في تنشيط شبكات علاقاتهم المهنية عند مواجهة المخاطر الوظيفية (مقارنة بالمواقف التي تشهد الاستقرار الوظيفي). ودرسنا على وجه التحديد أثر المواقف التهديدية في تفكير الأفراد بدوائر مختلفة من الأصدقاء وأفراد الأسرة والمعارف إثر تعرضهم لهزات اقتصادية عنيفة تؤثر عليهم بدرجات متفاوتة، وذلك من خلال تحليل بيانات استقصاء أُجري على مستوى البلاد وإجراء التجارب الحية، ويمكننا القول من واقع هذه النتائج إن التحدي الأساسي الذي تطرحه هذه الأزمة بالذات يتمثل في السؤال التالي: كيف نستمد الدعم من الروابط الاجتماعية ونقويها خاصة في ظل وجود العقبات التي يفرضها التباعد الاجتماعي؟
تأمل هاتين الاستجابتين لفقدان الوظائف خلال جائحة "كوفيد-19". فُصلت بريانا ديفيس فجأة من العمل بعد أن كانت قد تخرجت مؤخراً من "جامعة ولاية أريزونا" والتحقت بالعمل كاتبة محتوى في شركة "ستيودنت بينز" (Student Beans) لتكنولوجيا التسويق، فسارعت بنشر الخبر على صفحتها بشبكة "لينكد إن"، ما أدى إلى تلقيها دعماً عاطفياً من صديقين على الصفحة وبضعة روابط لشركات عاملة في القطاع ذاته. نطلق على هذه الاستجابة اسم "الإفشاء" أو توسيع نطاق الشبكات خارج دائرة المعارف الداخلية.
على النقيض من ذلك، كانت تارا بيرنز طاهية في مطعم "كليفلاند" الذي تعرض للإغلاق بسبب الجائحة، وبعد فقدان وظيفتها، لجأت إلى دائرتها الداخلية ممثلة في المدراء الذين وصفتهم بـ "أسرتها الثانية"، فسمحوا لها بالحصول على الطعام القابل للتلف من المطعم وساعدوها في التقديم للحصول على إعانة البطالة، وأصدقائها الذين قدموا لها الدعم المالي، إضافة إلى صاحب العقار الذي قدَّر ظروفها. نطلق على هذه الاستجابة اسم "الانتقاء" أو الانجذاب نحو الداخل إلى شبكات أصغر وأكثر قرباً.
اقرأ أيضاً: 3 طرق يستخدمها المسؤولون التنفيذيون لإدارة تحدياتهم المهنية
أردنا خلال بحثنا دراسة أسباب لجوء البعض إلى الانتقاء ولجوء البعض الآخر إلى الإفشاء إبان الأزمات، وما إذا كان للمكانة الاجتماعية والاقتصادية دخل في هذا الشأن. قمنا أولاً بتحليل البيانات المستقاة من الاستقصاء الاجتماعي العام (عينة تمثيلية ضخمة من الأميركيين)، ووجدنا أن الأشخاص ذوي المكانة الاجتماعية والاقتصادية المتدنية الذين يواجهون مخاطر وظيفية يميلون إلى الانتقاء (وذلك بنقل الخبر إلى شبكات أصغر وأكثر تقييداً)، بينما يميل الأشخاص ذوي المكانة الرفيعة إلى الإفشاء (وذلك بنقل الخبر إلى شبكات أكبر وأقل تقييداً). واستطعنا تأكيد هذه الأنماط بالتجربة العملية، فقد أفادت المجموعتان أن إحساسهما بخطر فقدان الوظيفة كان متساوياً، إلا أن كلاً منهما لجأ إلى أقسام مختلفة من شبكات علاقاتهم المهنية استجابة لهذا الخطر.
ماذا يعني تباين هذه الاستجابات، وما أسباب أهميتها؟ نحتاج جميعاً إلى المواساة من دوائرنا الداخلية إبان الأزمات، ولكن عندما يفشي الأفراد الذين يتمتعون بمكانة اجتماعية واقتصادية رفيعة مثل بريانا خبر فصلهم من العمل ويبلغون معارفهم بالمعلومات والفرص الجديدة، فسيستطيعون وقاية أنفسهم من شر هذه المخاطر، وفق ما أشار إليه بحث مارك غرانوفتر حول قوة الروابط الضعيفة.
ولكن، لماذا تزداد احتمالات الإفشاء من قبل الأشخاص ذوي المكانة الاجتماعية والاقتصادية الرفيعة تحت تهديد المخاطر؟ أشارت أبحاث المتابعة التي أجريناها إلى أن الأشخاص الذين يشعرون بالسيطرة على بيئاتهم، مثل أولئك الذين يتمتعون بالمكانة الرفيعة، يمكنهم التواصل بثقة خارج منطقة راحتهم الاجتماعية مع أشخاص يغلب على ظنهم أنهم سيتجاهلونهم ويرفضونهم مقارنة بالأصدقاء المقربين أو أفراد الأسرة، كما تستند حسابات الفقراء على الخبرة المكتسبة، فقد أثبت بحث أُجري بمعرفة ساندرا سوزان سميث الأستاذة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي أن الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية الذين ينتمون إلى الطبقة الفقيرة يجدون صعوبات في الاستفادة من المساعدة المقدمة من معارفهم ذوي المكانة الرفيعة الذين نأوا بأنفسهم عن المخاطرة بسمعتهم وتزكية مرشحين غير موثوق بهم. وهذه وصمة عار: فقد كان للفقراء معارف، لكن هؤلاء المعارف تأففوا من الارتباط بهم.
بناء شبكة العلاقات المهنية
تطرح هذه الأزمة أمام كل منا تحديات تختلف من شخص لآخر، إلا أن علاقاتنا تمثل طوق النجاة للجميع، لذا يجدر بك التفكير في الطرق الأربع التالية لتطوير شبكات الدعم أياً كان وضعك في هذا الظرف الصعب.
عزز أكثر علاقاتك متانة
أدى التباعد الاجتماعي الذي نعيشه اليوم إلى إضعاف قدرتنا على تقديم الدعم أو تلقيه حتى من أقرب أقربائنا، حتى أننا صرنا نحتفل بأعياد الميلاد وحفلات الزفاف والولادة وغيرها من المناسبات الأسرية المهمة عبر دردشة الفيديو، وهو ما أرغم الناس على الارتجال بحثاً عن طرق مبتكرة للتواصل عن بعد. لكن، وعلى الرغم من هذه العقبات، فإن الأزمة الحالية تتيح فرصة غير مسبوقة لتعزيز أكثر علاقاتك متانة. ثمة أهمية خاصة في هذه اللحظة لجهود آدم غرانت في العمل الخيري، وخاصة رؤيته الثاقبة بأن المانحين سيجنون مكاسب حقيقية على المدى البعيد، فها هو زوج صديقتنا مصاب بالسرطان، لكنها تشتري البقالة لجيرانها البالغين من العمر 90 عاماً، على سبيل المثال، وكم سمعنا من قصص لا تعد ولا تحصى عن الكرم وإنكار الذات بهذه الصورة. يقوي الكرم علاقاتك في أوقات الحاجة ويغرس بذور المنفعة المتبادلة مدى الحياة.
وسّع الشبكة
أصيبت قدرتنا على التوسع بالشلل أيضاً، وبات الطلاب يتخرجون في بيئة تشهد تجميد أي تعيينات جديدة، بل ويواجهون إلغاء عروض العمل، وعلى الرغم من محاولاتهم الحثيثة للتواصل مع الغير على أوسع نطاق ممكن، فإنهم يعجزون عن تكوين شبكات تتيح لهم الحصول على وظائف في وقت تعاني فيه الشركات أشد المعاناة لعلاج مشكلات أخرى، وفي ظروف كهذه لا يمكن للأشخاص حضور المؤتمرات والتجمع في الأماكن العامة وبالتالي دخلت شبكات علاقاتهم المهنية في حالة من الجمود. وبالمثل، يعتمد فقراء الحضر على "العلاقات المتاحة" مع أشخاص يقدمون يد العون، لكن تربطهم بهم علاقات ضعيفة ويدخلون حياتهم ويخرجون منها بسرعة لمواجهة تحديات الفقر اليومية.
يبدو تكوين شبكات علاقات مهنية مسألة مزعجة بحق، حتى في الأوقات العادية لأن المرء يتواصل مع الآخرين بغرض تحقيق منفعة معينة وليس من أجل التواصل في حد ذاته، ويبدو طلب الخدمات في ظل أزمة عالمية كهذه نوعاً من التبجّح، لكن الأزمات تتيح فرصة لتوسيع سلسلة المعاملات التبادلية من زاوية الأخذ والعطاء. أراد أحد والدينا (طبيب متقاعد يبلغ من العمر 80 عاماً يعاني من مرض في القلب) العودة إلى العمل لمساعدة الكوادر الطبية المثقلين بالأعباء، ولكن ثمة فكرة أفضل. فبدلاً من ذلك، تم توجيه هذه الرغبة في الإسهام بالجهود المباشرة إلى التطوع لتقديم المشورة للكوادر المنهكة، وهو ما أدى إلى تشكيل مجتمع جديد تماماً من أشخاص لم يكن ليعرفهم أبداً.
الانتقاء ثم التوسّع لبناء شبكة العلاقات المهنية
لا نستطيع جميعاً محاكاة بريانا، فنهرع إلى "لينكد إن" بعد دقائق من تلقي قرار الفصل من العمل وننشر على هذه المنصة مشكلتنا، إذ إن هذه اللحظات كفيلة بتدمير ثقة أي شخص في نفسه، لكنها قد تكون أشد وطأة على ذوي المكانة المتدنية فتكللهم بالخزي وتجعلهم يشعرون بالضعف الشديد. وقد توصل بحثنا الآخر إلى استراتيجية "الانتقاء ثم الإفشاء" للتخفيف من حدة هذا الشلل حتى نتمكن من الحصول على المساعدة في ظل الأخطار المحدقة. فقد طلبنا من أفراد العينة البحثية إطراء أنفسهم أولاً، اعتماداً على بحث أستاذ علم النفس كلود ستيل، ويمكن تحقيق هذا المطلب من خلال التفكير ببساطة في الأصدقاء المقربين وأفراد الأسرة الذين نلمس منهم التشجيع على الدوام. بعد أن طلبنا من المشاركين إطراء أنفسهم، وجدنا أنهم أصبحوا أكثر استعداداً للتعامل مع مصادر المعلومات المهدّدة وتوسيع شبكات علاقاتهم المهنية، وبدلاً من استنزاف قواهم بفعل المخاطر والتهديدات الماثلة أمامهم، ذكّروا أنفسهم بأن لديهم الموارد النفسية والاجتماعية التي يمكنهم اللجوء إليها، وبذلك امتلكوا الشجاعة الكافية لالتماس المساعدة.
حاول إحياء العلاقات القديمة
تتيح الأزمة الحالية فرصة غير مسبوقة لإحياء "العلاقات الخاملة" بدلاً من الانكفاء على المعارف الجدد في شبكة العلاقات المهنية من خلال الاتصال بهم دون ترتيب مسبق وغيره من الأساليب المتبعة في هذا الشأن، وذلك بتحديد الأشخاص الموجودين في شبكتك ولكنهم غابوا عن ذاكرتك، مثل مدير سابق لم تعد تتواصل معه منذ زمن أو زميل قديم تراه يظهر على وسائل التواصل الاجتماعي من حين لآخر. صحيح أن ثمة حرجاً في إرسال رسالة بالبريد الإلكتروني إلى أحدهم فجأة ودون سابق إنذار، ولكن هذه الأزمة تقدم مبرراً منطقياً (كما أن الدخول دون استئذان يستند إلى وجود علاقة صداقة حقيقية بكل بساطة)، وهو ما يسمح لنا بإنعاش علاقاتنا الوطيدة والداعمة المستمدة من ماضينا السالف.
في غياب هذه التفاعلات المباشرة مع الآخرين حول شبكة العلاقات المهنية في العمل، صرنا عرضة لتحديات الصحة العقلية والاضطرابات الاقتصادية، أياً كان القارب الذي نستقله. صحيح أن العلم لم يستطع التوصل إلى لقاح للمرض حتى الآن، لكننا نستطيع تحصين أنفسنا ضد المخاطر الأخرى من خلال تعزيز علاقاتنا، على الرغم من بُعد المسافات.
اقرأ أيضاً: