إنها الحادية عشرة ليلاً في أحد الأيام. فجأة تنتبه إلى أن هناك خطوة ضرورية يتعيّن على فريقك القيام بها لإنجاز المشروع الحالي الذي تعملون عليه. لذلك تسارع إلى كتابة رسالة إلكترونية إلى أعضاء فريقك مستغلاً فرصة أن الفكرة لا تزال ساخنة في رأسك. ما تأثير هذا على التواصل الجيد مع الفريق؟
"اطرق الحديد حامياً"، هذا ما يقوله المثل الشعبي، أليس كذلك؟
لا. هذا الفعل خاطئ. فخلال تجربتي بصفتي مدربة متخصصة في زيادة الإنتاجية من خلال التعامل على نحو أفضل مع التركيز والانتباه، لاحظت خلال العقد الماضي كيف أن الرسائل الإلكترونية المرسلة بعد ساعات الدوام الرسمي تسهم في تسريع ثقافة العمل في المؤسسات، وهذا بدوره يؤثر على الإبداع والابتكار والإنتاجية الحقيقية.
سلوكيات التواصل الجيد مع الفريق
فإذا كنت واحداً من الناس المعتادين على هذه السلوكيات الشائعة، فإنك بذلك من الأشخاص الذين تفوتهم فرصة المحافظة على مسافة معيّنة مع العمل، وهي مسافة في غاية الأهمية والضرورة لك لتكوين آراء جديدة ستكون محتاجاً إليها في موقعك القيادي. وعندما يعمل المدير، فإن أعضاء فريقه يشعرون أنه يجب عليهم أيضاً العمل.
فكر في الرسالة التي "ترغب" في إرسالها. فهل تريد من فريقك الرد على رسالتك فوراً؟ أم أنك تريد إرسال تلك الرسالة لمجرد أن فكرتها قد خطرت لك الآن، وتريد الانتهاء من هذه المهمة قبل أن تنساها؟ إذا كانت إجابتك عن السؤال الأول هي "نعم"، فإنك بذلك تتعمد أسر موظفيك وتقييدهم بالمكتب على مدار الساعة وعلى مدار أيام الأسبوع. إذا كانت إجابتك عن السؤال الثاني هي "نعم"، فإنك (دون أن تتعمد ذلك) تأسر موظفيك وتقيدهم بالمكتب على مدار الساعة وعلى مدار أيام الأسبوع. وهذا ليس بالأمر الجيد لك أو لموظفيك أو لثقافة العمل في شركتك. واتصالك ببريدك الإلكتروني خارج ساعات الدوام الرسمي خلال الفترات المزدحمة بالعمل، يدل على أنك شخص متفوق في الأداء. ولكن عدم فصل الاتصال ببريدك الإلكتروني على الإطلاق، فهذه علامة على أنك شخص مدمن على العمل. وهناك فرق بين الاثنين.
المراسلات الليلية عبر البريد الإلكتروني
وبغض النظر عن نيّتك من إرسال رسائلك، فقد اكتشفت من خلال تجربتي مع مئات الشركات، بأن هناك سببين لانتقال العادات المتعلقة بإرسال الرسائل الإلكترونية في أوقات متأخرة ليلاً من المدير إلى أفراد فريقه:
الطموح
فإذا أرسل المدير رسالة إلكترونية في ساعة متأخرة من الليل أو خلال عطلة نهاية الأسبوع، فإن معظم الموظفين سيعتقدون بأن الردّ على الرسالة في ذلك الوقت المتأخر هو أمر مطلوب، أو بأن ردّهم الفوري سيجعلهم يتركون لديك انطباعاً رائعاً. وحتى لو أن موظفين فقط من أفراد فريقك يؤمنان بهذه الفكرة، فإن هذا الشعور يمكن أن ينتقل بالعدوى إلى بقية أعضاء الفريق بأكملهم. وكل ما يحتاجه الأمر ببساطة هو ذكر العبارة التالية في أحد الاجتماعات: "عندما كنا نرسل الرسالة الإلكترونية البارحة...". ففي نهاية المطاف، كل الناس يبحثون عن الارتقاء في حياتهم المهنية.
الانتباه
هناك الكثير من الناس الذين لا ينوون "العمل" عندما لا يكونون في مكان العمل. لكنهم لا يجيدون تركيز انتباههم. فهم معتادون على إنجاز عدة مهام في وقت واحد ومعتادون على التعرّض للتشتت الدائم، إلى حد أنهم وبغض النظر عن أي شيء آخر يفعلونه، يجدون أصابعهم، ودون انتباه منهم، تنقر على الأيقونات الموجودة على هواتفهم الذكية التي تربطهم ببريدهم الإلكتروني ورسائلهم النصية القصيرة ووسائل التواصل الاجتماعي. وبالتالي، فإن رسالتك التي تردهم في أواخر الليل تغذي تلك العادة السيئة لديهم.
لكن بقاء المرء في حالة "اتصال دائم" هو أمر يؤذي النتائج. فعندما يراقب الموظفون بريدهم الإلكتروني باستمرار بعد ساعات الدوام الرسمي، سواء كان ذلك بسبب خوفهم من تفويت شيء مهم يرد منك، أو لأنهم مدمنون على استعمال أجهزتهم، فإنهم بذلك يفوتون وقتاً مهماً يجب أن يكون مخصصاً للراحة يحتاجه الدماغ. فقد أظهرت التجارب العلمية بأننا نحتاج إلى وقت للراحة لا نفعل فيه شيئاً لكي نقدم أفضل ما لدينا في العمل. فهذا الوقت الذي نقضيه بعيداً عن أي شيء يساعدنا في توليد أفكار وآراء وتصورات جديدة. لكن موظفيك لا يستطيعون إبعاد أنفسهم عن رسائلك الإلكترونية الواردة بما أنهم يحاولون دائماً تفقد أجهزتهم ليروا ما إذا كنت قد أرسلت إليهم رسالة أم لا. كما أن الإبداع والإلهام والدافعية هي ما يمنحك الميزة التنافسية مقارنة بغيرك، لكنها موارد قابلة للنضوب وينبغي دائماً إعادة شحنها. وبالمناسبة، هذا الأمر ينطبق عليك أيضاً، لذلك من المفيد مراجعة عاداتك الشخصية في مجال التواصل.
إن قادة الشركات يمكن أن يسهموا في ترسيخ الافتراضات والعادات غير الصحية المتعلقة بالبريد الإلكتروني وغير ذلك من أشكال التواصل الأخرى. لذلك كن واضحاً بخصوص توقعاتك المتعلقة بالبريد الإلكتروني وغير ذلك من أشكال التواصل الأخرى، وحاول وضع سياسات تعزّز وجود ثقافة سليمة تعترف بأهمية الانكباب على إنجاز مهمة واحدة فقط وليس عدة مهام في الوقت ذاته، وتعترف كذلك بأهمية التركيز، وأخذ الوقت للراحة والاسترخاء الكامل. لقد وضعت "فيناميك"، وهي شركة استشارية ناجحة في مجال الرعاية الصحية في فيلادلفيا، سياسة تثني الناس عن إرسال أي رسالة إلكترونية بين العاشرة ليلاً والسابعة صباحاً خلال أيام الأسبوع، وطوال اليوم خلال عطلة نهاية الأسبوع. لا تمنع هذه السياسة الناس من العمل خلال تلك الأوقات، كما أنها لا تحظر على الناس التواصل فيما بينهم. فإذا ما استدعت الضرورة إرسال رسالة بعد ساعات الدوام، فإن الموظف مضطر إلى إجراء تقييم لمعرفة ما إذا كان الأمر مهماً إلى درجة تستدعي إجراء اتصال هاتفي. وإذا اختار الموظفون العمل خارج أوقات الدوام، فإن سياسة الشركة تلك تثنيهم عن فرض عاداتهم على الآخرين وعن إرسال رسائل إلكترونية خلال ذلك الوقت؛ حيث يمكنهم ببساطة حفظ الرسالة بعد كتابتها في قائمة المسودات ليتم إرسالها يدوياً لاحقاً، أو بوسعهم تعيين الإعدادات في برنامج البريد الإلكتروني بحيث يجري إرسال واستلام الرسائل تلقائياً خلال ساعات الدوام الرسمي فقط. وتحاول هذه السياسة المواءمة بين وقت الراحة الذي يعرف الجميع مدى أهميته، وسلوكيات الموظفين التي تسهم في تحديد ثقافة المؤسسة.
تعالوا نجري أيضاً مراجعة دقيقة لآراء القادة بخصوص بيئة العمل التي تفترض أن يظل الموظف متصلاً مع بريده الإلكتروني في جميع الأوقات. فليس من السهل التغلب على الاعتقاد السائد بأن العمل الأكثر يعني نجاحاً أكبر (وهو اعتقاد يكون موجوداً في لاوعي الموظفين على الأغلب)، لكن الحقيقة تظل بأن هذا الأمر ليس مفيداً وهو غير مستدام أيضاً. فساعات العمل الطويلة تؤدي عملياً إلى حصول "تراجع" في الإنتاجية وفي التفاعل مع العمل. وغالباً ما كنتُ ألاحظ بأن القادة يؤمنون نظرياً بأهمية وجود وقت للراحة بعيداً عن أي عمل، لكنهم يريدون في الوقت ذاته المضي إلى الأمام ودفع أهداف الشركة قدماً، وهم يعتقدون بأن ذلك يحتاج إلى حالة من التواصل الدائم.
إن البيئة التي تفترض رد موظفيك على الرسائل الإلكترونية في جميع الأوقات لا تجعل هؤلاء الموظفين أكثر إنتاجية، لأن ذلك لا يفعل شيئاً سوى أنه يزيد من انشغالهم ومن درجة تشتت انتباههم. فأنت عندما تتخذ قراراً بتعيين الموظفين، فإنما تعيّنهم بناءً على معارفهم وخبراتهم ومواهبهم الفريدة، وليس بناءً على عدد المهام التي بوسعهم إنجازها في وقت واحد، أو استناداً إلى عدد الرسائل الإلكترونية التي يمكنهم الرد عليها خلال اليوم الواحد.
"إدارة الانتباه"
لذلك يتعيّن عليك إيجاد بيئة مشجعة يمكن للموظفين فيها استعمال طاقاتهم الذهنية بطريقة مفيدة:
حاول التخلص من عبارة "إدارة الوقت" واستعمل بدلاً منها عبارة أنسب هي "إدارة الانتباه"، وحاول أن تجعل تدريب موظفيك على هذه المهارة الأساسية جزءاً من عملية تطويرهم. تجنّب عمليات التواصل التي تحصل خارج أوقات الدوام الرسمي. حاول أن تكون نموذجاً يُحتذى لموظفيك في الانتباه غير المشتت و"الحضور الذهني"، من خلال وضع كل أجهزتك جانباً عندما تتحدث مع موظفيك، وناقشهم في هذا الأمر، وحاول أيضاً تفعيل سياسة "منع إدخال الأجهزة الإلكترونية" إلى غرف الاجتماعات من أجل الترويج لفكرة التركيز على مهمّة واحدة فقط وكذلك فكرة التفاعل الكامل مع المحيط. غيّر بيئة العمل التي تفترض أن يكون المرء جاهزاً دائماً للرد على الرسائل الإلكترونية، لأن هذه البيئة تثبط الإبداع، وذلك من خلال التشديد على أهمية التركيز. ومن المستحسن تصميم المبنى بطريقة تسمح للناس بالعمل في طوابق مفتوحة على بعضها البعض، ولكن يجب في نفس الوقت موازنة ذلك الانفتاح بتوفير الكثير من المساحات الهادئة، وإتاحة المجال للموظفين بإنجاز جزء من المهام المطلوبة عن بعد، وخاصة في حالة المهام والمشاريع التي تحتاج إلى تركيز كبير.
إن هذه السلوكيات سوف تسهم في تحسين جودة النتائج، سواء في عملك أنت شخصياً أو في عمل موظفيك، وستساعد أيضاً في الترويج لثقافة عمل أكثر إنتاجية من أجل الحرص على التواصل الجيد مع الفريق.
اقرأ أيضاً: