لن أدّعي أنه قد كان من السهل عليّ كتابة هذه المقالة. لقد كنت متأكداً بشكل قاطع من أن هيلاري كلينتون لن تفوز فحسب، بل ستحصد فوزاً سهلاً. كما كنت على يقين، من جهة أخرى، أن فوز دونالد ترامب سيكون كارثة لو حصل، وذلك لأنني أولاً لا أتفق مع سياساته، وثانياً لأنني شعرت بأن ما يجتمع في الرجل من ميل لاتخاذ قرارات متضاربة وجهله بأساسيات الإدارة الحكومية لا يمثّل سوى كارثة محتمة. كل ما آمله الآن هو أن أكون مخطئاً في هذا أيضاً.
أرى شخصياً أن هذا الخطأ مؤذٍ حقاً. لقد تناولت في كتابي الأول "لا غنى عنه: حين تكون الحاجة ماسّة إلى القادة" (Indispensable: When Leaders Really Matter) قضيّة القادة الدخلاء الذين لا يتمتّعون بالخبرة ولا ينتمون إلى المجال الذي يديرونه، وكيف ومتى يصل أمثالهم إلى السلطة. ومعظم أجزاء هذا الكتاب تبحث في أمر هؤلاء الرؤساء، وإحدى النقاط الرئيسية في الكتاب هو أن الولايات المتحدة أكثر عرضة لانتخاب رئيس كهذا من أي دولة متطورة أخرى. وقد كان من الممكن أن يكون دونالد ترامب أوضح الأمثلة في صفحات الكتاب على القائد الدخيل. وقد كان حرياً بي أن أتمكّن من التنبؤ بفوزه. إلا أن خوفي من الضرر الذي سيترتب على انتصار الرجل، سواء فيما يتعلق بتهديد نظام التجارة العالمية أو شرعنة التمييز ضد الأقليات، وضعني في حالة إنكار تام منعني حتى من التفكير في احتمالية فوزه. هذا هو تفسيري الوحيد، وهو أمر لا يمنحني التسويغ ولا العزاء لما حصل.
وبما أنني كنت مخطئاً تماماً بشأن هذه الانتخابات، فإنني سأحجم عن تقديم أي توقعات. فما يزيد من فداحة المشكلة في واقع الأمر هو المستوى الهائل لعدم التيقن بشأن ما يريد ترامب فعله كرئيس، ومقدار التفاصيل التي سيولي أمرها لـ "الكونغرس"، بل وحتى فيما يتعلق بالخطوط العريضة لأجندة سياساته. ولكن مهمّتي هي التفكير بشؤون القيادة والسياسة، ولا سيما فيما يتعلق بهذه الانتصارات المفاجئة كما حدث مع ترامب. وسأقدم هنا أفكاري الأولية وسأترك تقدير أهميتها إليكم.
هؤلاء القادة من أمثال ترامب- أي الدخلاء الذي لا يمتلكون أي دعم من النخبة السياسية التقليدية- يمتلكون تفاوتاً كبيراً في أدائهم. فهم يفعلون أموراً لا يسع غيرهم القيام بها، وبسبب ذلك، فإن أداءهم قد يكون في غاية التميّز أو غاية الضعف. كما أن أثر هؤلاء القادة يتضاعف بسبب محدودية القيود على حرية تصرفاتهم، وهذا ما سيحوزه ترامب حتى موعد الانتخابات النصفيّة على الأقل عام 2018. إن سيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ، والذي يُفترض أن يتبعه قريباً تعيين رئيس محافظ للمحكمة العليا الأميركية، سيمنح الحزب الجمهوري السيطرة الكاملة على الحكومة، وهو أمرٌ لم يحققه الحزب منذ العام 2007. وعليه، فمن غير المستبعد أن تكون لإدارة ترامب الكلمة العليا المطلقة في تشكيل سياسة الحكومة. وهذا أمر يقلقني إلى حد كبير، إلا أنه كذلك يمثّل فرصة للبلاد في حال قرر ترامب الاستفادة من الصلاحيات المتوفرة لديه.
ورغم أن ترامب لم يفز بالتصويت الشعبي، فإن ما حصل في العام 2000 مع جورج بوش الابن يشير بشكل كبير إلى أن هذا لن يكبح من حرية ترامب أو حزبه، ولن يعني ذلك سوى تراجع شرعيّته في نظر البعض. وبما أن ترامب قد حصل خلال حملته على تأييد معظم قادة الحزب الجمهوري، وهو الآن يتمتع بالسلطة الكاملة لمؤسسة الرئاسة، فمن المستبعد أن تكون هنالك معارضة جمهورية كبيرة لأجندته. وحتى لو رغب بعض قادة الجمهوريين معارضة ترامب، فإن الرجل قد حقق للتو أعظم خارقة سياسية في التاريخ الأميركي. فما الذي سيفعله أي سياسي جمهوري حريص على موقعه لمواجهة ذلك؟
لنبدأ أولاً بالتحديات التي تنتظر إدارة ترامب ثم سننتقل للحديث عن الفرص. إن الكارثة الأقرب التي قد يلزم ترامب التعامل معها، كما كانت الحال مع أوباما فيما سبق، هي التقلبات التي تعصف بالسوق المالية. فإن كانت المعضلة مؤقتة، فإن الوضع سيستقر بمجرد أن يغادر أوباما "البيت الأبيض". ولكن الأمر يثير الكثير من التخوفات، فالاقتصاد العالمي والنظام المالي لم يتعافا تماماً منذ الأزمة المالية التي عصفت في العالم عام 2008، ولذا فإن علينا التفكير على الأقل باحتمالية مواجهة تراجع اقتصادي طويل المدى.
وما يزيد من خطورة المشكلة هو أن ترامب قد ترشّح بناء على سياسة مالية تدمج بين خفض كبير للضرائب، تنتفع منه بشكل أساسي الطبقة الأغنى من الأميركيين مع خفضٍ كبير أيضاً للنفقات، خاصة على الخدمات الاجتماعية التي ينتفع منها أفقر المواطنين من دافعي الضرائب- وهو الموقف نفسه الذي كان يدعمه الجمهوريون في "الكونغرس" الأميركي. ويبدو أن ترامب سيتبع ذلك بإجراءات احترازية من شأنها خفض حجم التجارة الدولية إلى حد كبير. واعتماداً على مقدار الإنفاق الذي يعتزم ترامب تخصيصه للبنية التحتية (بالإضافة إلى الجدار المزمع إنشاؤه على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك) فقد يكون هنالك أثر سلبي سيلحق بتوقعات النمو في الاقتصاد الأميركي والعالمي. ومع أن التنبؤات الاقتصادية مجازفة خاسرة، كما كانت الحال مع التنبؤات السياسية، إلا أن خطورة شهود كساد عالمي هي اليوم أعلى مما كانت عليه في الأمس، ولعل هذا الأمر تفاقم بسبب عدم الثقة المتزايدة بإمكانات الحكومة الأميركية والتخوف مما تعتزم فعله. وستزداد هذه الخطورة على الأغلب في حال قرر ترامب أن يطبق فعلاً ما اقترحه بخصوص التعامل مع الدين الأميركي العام.
أما فيما يخص السياسة الخارجية، فمن المتوقع أن نشهد قريباً إعادة تقييم الموقف من اليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما من الدول الحليفة للولايات المتحدة والتي تحظى بضمانات حماية منها. فقد تعيد اليابان وكوريا النظر من اعتمادهما على قوة الردع النووي الأميركية وقد تفكران كذلك في الانسحاب من المعاهدة الدولية لعدم انتشار الأسلحة النووية وامتلاك أسلحة نووية. وقد يكون من المبكر جداً معرفة ما إذا كانت هذه الدول ستفعل ذلك أو لا، ولكن المؤكد أن نقاشات جادة تدور حول ذلك في كل من طوكيو وسول بالإضافة إلى عواصم أخرى في العالم. أما حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فهو عرضة للتفكك أيضاً. ويبدو من المرجح أن روسيا، والتي ستكون الرابح الأكبر ربما من انتصار ترامب، ستضع حلف "الناتو" على محك الاختبار قريباً.
ولكن الأسئلة المتعلقة بالسياسات الاقتصادية والخارجية تبدو عديمة الجدوى اليوم. فلو نظرنا بعمق إلى ما جرى فسنجد أن السؤال الملحّ الذي يلزمنا التعامل معه هو سؤال الهوية الأميركية اليوم وما تمثّله أميركا أمام العالم. لقد اقترح ترامب في حملته الانتخابية أنه يريد من الجيش الأميركي تبنّي سياسات تتساهل في استخدام التعذيب واستهداف المدنيين. فهل سيلتزم ترامب بهذه الخطط في أثناء فترته الرئاسية؟ فإن التزم حقاً بذلك فليس لدي شك في أن بعض أفراد الجيش سيلتزمون بما يمليه عليهم القانون. ولكن القانون قابل للتغيير، وفي ظل سيطرة الجمهوريين على "الكونغرس"، سيكون ذلك أكثر سهولة. وهذا يعني أن على منتسبي الجيش الأميركي أن يواجهوا اختباراً أخلاقياً ليس على شاكلة أي أمر واجهوه فيما سبق. فهذا الاختبار الأخلاقي لا يتعلق بمخالفة أمرٍ غير قانوني، وإنما في استعدادهم لتنفيذ أمر غير أخلاقي. وسيكون على العاملين في وكالة "الأمن القومي" أن يسألوا أنفسهم إن كانوا بالفعل سيرحلون السوريين بعد أن تم استقبالهم بشكل قانوني في البلاد. هذان اثنان من التحديات التي فكرت بشأنهما وقد تكون هنالك تحديات أخرى أيضاً.
إلا أن كل ما سبق هو بطبيعة الحال حديث عن السيناريوهات الأسوأ. ولو أردت الالتزام بما توصلت إليه في أبحاثي، وأعتقد أن الواجب يملي عليّ ذلك- فإن ترامب يمتلك إمكانات عظيمة. ولا بد أن أعترف أنه يصعب عليّ تصور نجاح ترامب رئيساً، نظراً لتاريخ الإخفاقات وعدم النزاهة في أعماله بالإضافة إلى ما يبدو من غموض وتناقض في أجندته. ولكن يبقى نجاحه في الرئاسة أمراً وارداً على الأقل، وهذا ما أرجو أن يتحقق. لكن ما شكل هذا النجاح يا ترى؟ وما الفرص المتاحة لترامب والتي لا يملكها الرئيس التقليدي؟ إن هؤلاء القادة الدخلاء يحققون النجاح حين يوظفون المهارات والمعرفة التي لدى خصومهم من أصحاب الخبرة وحين ينظرون إلى الجوانب التي يغفل عنها القادة التقليديون عادة ويتعاملون معها.
لقد كان خطاب النصر الذي ألقاه ترامب باعثاً على التفاؤل من هذه الناحية. فقد وجّه كلامه إلى هيلاري كلينتون ومناصريها بلهجة مختلفة تماماً عن تلك التي اعتدنا على سماعها منه في أثناء الحملة. كما أنه لم يستخدم خطابه للمنافحة عن تلك السياسات التي تميّز ضد مجموعات عرقية أو دينية. أما المقترح الذي بدا متحمساً له في الواقع، فهو ذلك المتعلق بتطوير البنية التحتية، وهو أمرٌ غالبية الديمقراطيين لا يعارضونه، بل وقد يدعمونه أكثر من الجمهوريين أنفسهم.
لا شك أن حملة ترامب الانتخابية كانت تخاطب طيفاً من الأميركيين الذين راودهم شعور عميق بأن الطريقة التي تغيّر بها المجتمع الأميركي قد جعلتهم مهمّشين. وشيء من هذا التغيّر يتعلق بقضايا العرق والنوع الاجتماعي، ولكن الأمر في غالبه لا يتعلق بذلك. ومن الضروري مع ذلك التعامل مع هذه المستويات المتزايدة من الاحتقان وعدم الرضا. وفي حال وجد ترامب السبل المناسبة للتعامل مع ذلك دون الإساءة للقيم الأميركية الجوهرية، فإنني (ومعظم الأمريكيين) سنحيّيه على ذلك. ولن أتظاهر بالتفاؤل هنا، ولكن الاحتمال قائم، وأرجو أن يتمكن هو وحزبه من تحقيق المرجو منهم.
ثم إن رئاسة ترامب ستُنهي على الأقل حالة الشلل التي سيطرت على عمل الحكومة الأميركية طوال السنوات الستة الماضية. ففي السنتين المقبلتين على الأقل، ستكون الحكومة بيد الجمهوريين. والذين لم يلقوا أي اعتبار لأكثر من قرنين من التقاليد في عمل الحكومة الأميركية حين أعاقوا ترشيح ميريك غارلاند لرئاسة المحكمة العليا وذلك بغية أن يحوزوا على السيطرة الكاملة على مفاصل الحكومة الأميركية، وهذا ما تم لهم بالفعل. وليس من الممكن التقليل من أهمية نطاق هذا الإنجاز، وما يمثله من إمكانات ومخاطر. وبغض النظر عما سيحصل لاحقاً، إيجابياً كان أم سلبياً، فإنه سينسب إليهم. فإن نجحوا في استغلال هذه الفرصة، فإن هذا سيضمن سيطرة الجمهوريين على السياسة الأميركية لجيلٍ قادم، وأما إن فشلوا، فإن هذا سيعني سقوطاً مدوياً وفظيعاً لهم.
أما بالنسبة للجمهوريين، فإن عليهم أمام هذه الهزيمة النكراء القيام بعدد من الأمور. فالحزب الديمقراطي حالياً في أضعف حالاته على مستوى مؤسسة الحكم في تاريخ الولايات المتحدة. وفي حال حقق ترامب نجاحاً في رئاسته فسيخسر الديمقراطيون كذلك فرصتهم في استعادة تأثيرهم على المدى المنظور. ولكن ما الذي يلزم الديمقراطيين القيام به في حال أخفق ترامب؟ إن على الحزب في هذه الحالة ترشيح أشخاص أفضل، كما يجب عليه أن يسعى لتحقيق أداء أفضل لمواجهة ما خسره في المجمع الانتخابي. وفيما عدا ذلك، فإن على الحزب أن يلتزم في تلبية مصالح جميع الأميركيين بدل الاكتفاء في تحصيل الحد الأدنى من التحالفات الديمغرافية الرابحة.
وعلى الحزب الديمقراطي كذلك أن يحرص على ترشيح أشخاص يتمتعون بالمصداقية في كل دائرة من الدوائر الانتخابية البالغ عددها 435 دائرة، وأن يقدّموا الدعم لكل مرشح منهم ويزودوه بالمكاتب الميدانية التي تساعدهم على التعامل مع الشؤون الفعلية في الميدان. ولا بد أن يمنح الحزب نفس القدر من الاهتمام بمعالجة قضايا العدالة العرقية دون التنكر في الوقت نفسه للناخبين البيض. وهذه بلا شك مهمة بالغة الصعوبة، ولكن شعبية أوباما والتي بلغت 54% تدل على أن هذا الأمر ليس بمستحيل.
ليس بوسعي أن أخبركم بما سيأتي به المستقبل، فالدول لا تقوم على ما يقوله السياسيون، وإنما على ما يحققونه من أفعال. لقد كانت القيم الأميركية مصدر إلهام لمليارات الناس حول العالم. وحتى لو أخفقنا أحياناً في الالتزام بها فإنه لم يراودني أي شك بأن هذه قيم تمثل الحقيقة وتهبُ القوة حتى في أقسى الظروف وأعصب الأوقات. لا أحد يمكنه معرفة ما سيحدث. ولو سألتني قبل أيام عما أعتقد لأخبرتك بأنني أملك إيماناً راسخاً بربي وبوالدي وبالولايات المتحدة الأميركية ولن يغيّر في هذا الإيمان صدمتي من نتائج الانتخابات في بلادي.