قالت العرب قديماً: "الصبرُ صبران، صبرٌ على ما تكره وصبرٌ على ما تحب". هكذا ابتدأ أحمد حديثه المطوّل عن الشركة الذائعة الصيت التي يعمل بها منذ 18 عاماً. فقُلت له بدافع الفضول، وأيهما صبرُك يا أحمد؟ فقال لي مبتسماً: "دمي ينبض بالعروبة يا مانع، لذا اخترت الاثنين معاً. أعمل مع مدير استنزف طاقتي وخارت قواي من العمل معه دون أن أجد دعماً أو تشجيعاً على ما أقوم به طوال هذه السنوات. فلا تضحياتي على حساب عائلتي وحياتي الخاصة أثمرت فيه، ولا الأرباح التي تجنيها الشركة من خلال المشاريع التي أديرها أتت بنتيجة أيضاً". فقُلت لأحمد مستشعراً خطورة المعاناة: "وما صبرك على ما تُحب؟" فأجابني بكلمة واحدة: "المال". بعد ذلك عمَّ الصمت تلك المحادثة المؤلمة، ليكمل أحمد قائلاً: "يا أخي لنكن عقلانيين، الشركة تدفع رواتب طائلة، وليس من السهل أن تجد من ينافسها في تلك الأجور".
بصفتي متخصصاً في الثقافة المؤسسية والصحة النفسية ببيئة العمل، فإن قصة أحمد مألوفة وتكاد تتكرر على مسامعي يومياً، ولكن بأسماء مختلفة. بسبب تركيز شركات كثيرة على تحقيق الأرباح، دون الاهتمام بحقوق الموظف، التي تُمثل في نظرها المرتب السخي الذي تدفعه مقابل الخدمة التي يُقدمها. مُغفلة العوامل الجوهرية الأخرى التي توازي بل وتفوق في بعض الأحيان أهمية العامل المادي بالنسبة للموظف. ولعل أبرز هذه العوامل هو العامل النفسي وأثره على رفاه الموظف.
يشير التقرير الصادر عن مجموعة لينكولن المالية في عام 2021، إلى أن ما يقرب من ثلثي الموظفين تركوا وظائفهم في السابق أو يرغبون في ترك وظائفهم الحالية لأنها لا تناسب صحتهم العقلية وعافيتهم النفسية. أتت هذه النتائج بعد عام من العزلة والقلق نتيجة الجائحة، أدت بغالبية الموظفين بالولايات المتحدة إلى الانضمام لشركات ذات بيئة عمل أقل إرهاقاً حتى وإن قلّت رواتبهم بنسبة تصل إلى 10%. لذا، فالاستثمار في صحة الموظفين العقلية ليس فقط واجباً أخلاقياً، بل أيضاً استراتيجية عمل ذكية من شأنها الإبقاء على المواهب وبالتالي زيادة الأرباح.
ما مدى الاهتمام بالرفاه الوظيفي في السعودية؟
على الرغم من قلة الاستطلاعات المتعلقة ببيئة العمل السعودية، فإن تقريراً صدر مؤخراً عن تطبيق "تهون" بالشراكة مع المركز الوطني للصحة النفسية، سلّط الضوء على الوضع الراهن للعافية النفسية في مكان العمل، إذ أفاد 81% من المشاركين بأنهم تعرضوا لأحد مشاكل الصحة النفسية، وكان الاحتراق الوظيفي على رأس القائمة ومن ثم تبعه كل من القلق والضغوطات العصبية. وفي السياق نفسه، أجرى معهد ماكنزي الصحي استطلاعاً نهاية عام 2022 حول رفاه الموظفين في كل من المملكة العربية السعودية، والكويت، والإمارات، وقطر. وأشارت النتائج إلى أن 2 من كل 3 مشاركين تعرَّضوا لمشاكل نفسية في بيئة العمل، فيما تعرَّض 1 من كل 3 موظفين للاحتراق الوظيفي. مثل هذه الاستطلاعات قد تبدو صادمة في مجملها ولكنها لا تبدو كذلك للمختصين، مع الأخذ بالاعتبار المشاكل الصحية والنفسية التي خلّفتها الجائحة وأثّرت سلباً على بيئات الأعمال في معظم دول العالم.
هل هناك مبادرات إيجابية؟
بلا شك أن رؤية المملكة 2030 ألقت بظلالها على العديد من الشركات في القطاعين العام والخاص. خصوصاً أن رفع مستوى جودة الحياة لدى المواطن والمقيم هو أحد مستهدفات الرؤية. وبالطبع، فإن جزءاً مهماً من جودة الحياة هو الرضا الوظيفي. ولا يتحقق هذا الرضا ما لم تُظهر الشركات اهتماماً بالغاً بموظفيها لضمان عافيتهم. والجيد في الأمر أن التنافسية العالية بين هذه الشركات في الآونة الأخيرة دفعتها إلى تبنّي مبادرات وبرامج تهتم برفاه الموظف. فبعد أن كانت شركات مثل أرامكو السعودية، وسابك، وإس تي سي (STC)، وشركة الكهرباء السعودية تقود هذا التوجه نحو الرفاه الوظيفي منذ سنوات، تحاول شركات كثيرة اللحاق بالركب من خلال وضع استراتيجيات شاملة لكل من العافية النفسية والعقلية ومبادرات مثل ورش العمل الدورية لإدارة الضغوط، وأيام الصحة العقلية المخصصة، وتوفير وصول الموظفين إلى خدمات الإرشاد والعلاج النفسي وغيرها. لنستعرض أبرزها:
شركة البحر الأحمر للتطوير
أحد النماذج المُلفتة هو برنامج "حياة" التابع لشركة البحر الأحمر للتطوير، الذي حاز جائزة (CIPD) الشرق الأوسط لعام 2022 كأفضل برنامج استراتيجي للرفاه الوظيفي. ويُعد البرنامج جزءاً من استراتيجية الشركة للمساهمة في برنامج جودة الحياة المرتبط برؤية 2030، إذ تم تكوين فريق متكامل لتفعيل مبادرات وبرامج متنوعة في بيئة العمل مثل معالجة الأمراض المزمنة والعافية العقلية والاحتراق الوظيفي وغيرها. علاوة على ذلك، يوفر البرنامج لجميع الموظفين وأفراد أسرهم الذين تزيد أعمارهم على 16 عاماً وصولاً سرياً ومجانياً إلى المعالجين النفسيين وخبراء التغذية والمدرِّبين في مجال الحياة والصحة على مدار الساعة. كما يقدم للموظفين إمكانية الوصول إلى تطبيق "كام" (Calm)، وهو تطبيق حائز جوائز في مجال اليقظة الذهنية التأمل وتحسين جودة النوم.
هيئة الزكاة والضريبة والجمارك
ما يجعل هذا التحول أكثر عمقاً أنه ليس مقتصراً فقط على القطاع الخاص، فبدأنا نرى القطاعات العامة وشبه العامة تتنافس بطريقة إيجابية لتنفيذ برامج رفاهية الموظفين. إذ أطلقت هيئة الزكاة والضريبة والجمارك تجربة متكاملة تحت مسمى "برنامج جسور". وبعد اطلاعي المباشر على مجريات سير البرنامج، تأكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن العدوى الحميدة لمستهدفات رؤية المملكة 2030 انتقلت بالفعل إلى القطاع العام والهيئات. فهذا البرنامج الذي بُدئ العمل عليه منذ عام 2019، يحظى بإشراف خاص من رأس المال البشري بالهيئة، ويقدِّم خدماته في مسارات متنوعة مثل المسار الطبي والنفسي والمالي والمهني والرياضي والقانوني. وإذا أخذنا المسار الرياضي على سبيل المثال، توفر الهيئة مستشاراً رياضياً يقدم خدمات مجانية للموظفين على مدار العام تتنوع بين إرشادات ونصائح وممارسات صحية، بالإضافة إلى الفعاليات المتعددة كسباقات الجري والتسلق والدراجات الهوائية. أما في المسار النفسي، فتُقدم الهيئة خدماتها في قوالب مختلفة كالاستشارات النفسية في مقر العمل، أو عن بُعد، أو في العيادات الخارجية بحسب تفضيل الموظف. واللافت في تجربة هيئة الزكاة والضريبة والجمارك هو حرص فريق "جسور" على تقديم خدمات مهنية مثل اختبارات الشخصية وتطوير الأداء والورش وجلسات الإرشاد المهني من أجل تشخيص احتياجات موظفي الهيئة المهنية. وفي أثناء حديثي مع القائم على مشروع "جسور"، راشد الجديعي، أكد لي أن النتائج التي تصلهم مبشّرة وتعزز رفاه الموظف وهناك ارتفاع ملحوظ في مؤشرات الرضا الوظيفي، كما تم رصد مستويات أعلى من اندماج الموظفين واستقرارهم بالهيئة.
تعد هذه النماذج وغيرها محطات مُهمة في رحلة السعودية نحو رؤية 2030. إذ يتم إعادة تشكيل ثقافة المؤسسة حول حقوق الموظفين، مع وضع الرفاه أساساً تستند إليه.
الحذر من الممارسات الخاطئة تحت ذريعة الرفاه الوظيفي
على الرغم من التنافس الذي أشرت إليه فيما يتعلق بتبني برامج رفاه الموظفين؛ لا يزال بعض هذه البرامج سطحياً إلى حدٍ ما ويهتم بأمور أقل جودة. فالرفاه الوظيفي أكثر من احتفال باليوم العالمي للصحة النفسية أو إقامة يوم مفتوح مع إدراج بعض الأنشطة الرياضية فقط، إنه أعمق من ذلك بكثير. فالرفاه الوظيفي هو العلاقة الصحية للموظف في البيئة المحيطة به ابتداءً من زملاء العمل وصولاً إلى المدير المباشر وانتهاءً بأعلى سلطة في الشركة. ويتعلق أيضاً باستقطاب المتخصصين والمستشارين من أجل دراسة سلوكيات الموظفين والتعرف إلى احتياجاتهم والعوامل التي تؤثر سلباً على أدائهم، وبالتالي وضع استراتيجيات تكاملية ذات جانب توعوي وآخر تطبيقي.
كما أن الرفاه الوظيفي يتمثل في الشعور الطبيعي الذي ينتاب الموظف والنابع من ثقافة الشركة التي تعتني به وتوفر له الأمان النفسي القائم على الثقة والإحساس بالعدل والمساواة بين جميع الأطراف، وأنه لا مجال للانحياز لطرف دون الطرف الآخر. الرفاه الوظيفي باختصار هو إضفاء الطابع الإنساني على أعمال الشركات والتخلي عن مبدأ "الأرباح أولاً".
دور القادة في تعزيز الرفاه الوظيفي
بحسب استطلاع أجرته مؤسسة ماكنزي، قال 35% من الموظفين إن عدم اهتمام القادة بهم يُعد من أبرز ثلاثة أسباب تدفعهم للاستقالة. إذ يؤدي القادة دوراً محورياً في تشكيل استراتيجيات الرفاه في مكان العمل وتنفيذها، فهم المسؤول الأول عن خلق ثقافة "الإنسان أولاً".
يقول الخبير الإداري والمدير السابق في شركة أرامكو السعودية، الدكتور عبدالجليل الخليفة، إن جاذبية الأرباح مغرية، ما يجعل الإدارات ورؤساء الشركات يختارون الأرباح على حساب الإنسان، وهذا خطأ فادح لأنهم اختاروا المصالح المادية على القيم الإنسانية. لذا، فإن مصير تلك الشركات هو الاندثار مع مرور الوقت. ومن أجل تشكيل استراتيجيات قائمة على مبدأ "الإنسان أولاً" يجب أن يضع القادة النقاط الآتية في الاعتبار:
- الرؤية والالتزام
يجب على القادة الالتزام التام بجعل الرفاهية أولوية استراتيجية. يبدأ ذلك بدمج الرفاهية في رؤية الشركة، وربطها بأهداف تلك الرؤية، وإيصال أهميتها باستمرار.
- إضفاء سياسات تلائم بيئة العمل الحديثة
يُنشئ القادة الفاعلون السياسات التي تعزز التوازن بين العمل والحياة ودعم الصحة العقلية والسلوكيات الصحية في مكان العمل وتطبيقها. قد يشمل ذلك ساعات العمل المرنة، وسياسات العمل عن بُعد، ومزايا الرعاية الصحية وغيرها. على سبيل المثال، أطلقت شركة علم (elm) التابعة لصندوق الاستثمارات العامة برنامج "أسلوب عمل علم" الذي يتيح للموظفين العمل بساعات مرنة دون الحاجة للحضور إلى مقر العمل. ولم يتم التصريح عن مخرجات هذا البرنامج بعد، ولكن بالنظر في التجارب السابقة، يمكن التنبؤ بنجاح هذا البرنامج وإضفاء فائدة إيجابية على المؤسسة ككل.
- خلق ثقافة داعمة
القادة هم المهندسون الثقافيون للشركة، إذ يمكنهم تعزيز بيئة داعمة من خلال تشجيع الحوار المفتوح حول الصحة العقلية والرفاهية، والحدّ من وصمة العار، وتعزيز سلوكيات طلب المساعدة. وأحد التطبيقات الذي يُوصى به في هذا الخصوص، هو إشراك الموظفين في اتخاذ القرارات، خصوصاً تلك التي تتعلق بهم، ما يسهم كثيراً في بناء الثقة بين القائد وفريقه.
القياس والتحسين
يتطلب التنفيذ الناجح تقييماً منتظماً لمبادرات الرفاه وبرامجه. يجب أن يكون القادة سبّاقين في قياس نتائج برامج الرفاه. مع التشديد على ضرورة تعيين فريق لمواكبة أحدث الأبحاث والدراسات، لأن الرفاه الوظيفي من المواضيع التي يتم تناولها بحثياً ودراسة جميع جوانبها بشكل دوري من أجل إجراء التحسينات اللازمة.
القادة هم حجر الأساس في تبنّي أي استراتيجية بما فيها رفاهية الموظف. وعندما يجعلون الإنسان أولوية، فإن ذلك لا يجعل فقط موظفيهم أكثر سعادة وصحة، بل يسهم أيضاً في إنشاء بيئة عمل أكثر إنتاجية واندماجاً وولاءً، وبالتالي هذه هي البيئة المنشودة عندما يتعلق الأمر بجودة الحياة التي تستهدفها رؤية 2030.
مواكبة التطور أو البقاء في المؤخرة؟
حان الوقت الآن لكي تقود الشركات في المملكة العربية السعودية مسيرة التغيير، وتدافع عن رفاهية الموظفين كاستراتيجية عمل متكاملة مثل أي استراتيجية أخرى. على الشركات أن تستلهم من تجارب أرامكو السعودية وقادة الصناعة الآخرين برامج الرفاه الفعّالة. فقد برهنت هذه البرامج أن إعطاء الأولوية لرفاهية الموظف لا يسهم فقط في إسعاد الموظف وزيادة إنتاجيته، بل يخلق أيضاً شركة أكثر نجاحاً واستدامة على المدى الطويل.
أخيراً، فإن مواءمة استراتيجيات الرفاهية في الشركات مع إطار رؤية 2030 ستكون ذات أبعاد إنسانية واجتماعية واقتصادية؛ فهي التزام عميق بوضع الإنسان في المقام الأول، والإقرار بأنه جوهر نجاح الأعمال والتقدم المجتمعي.