6 دروس مستخلصة من كتاب الوزير توفيق الربيعة “الوقوف على أطراف الأصابع” 

شارك

استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية

“ما زلت أذكر تلك اللحظة في ذروة الجائحة، أي بعد مرور شهرين أو ثلاثة من اكتشاف أول حالة، عندما التفت إليّ أحد الأصدقاء هامساً: ‘أبا محمد، هل تدوّن ما يجري، ربما تحتاج -لاحقاً- إلى أن تتذكر كل هذه اللحظات بتفاصيلها‘”. كانت هذه اللحظة التي قرر فيها وزير الصحة السعودي السابق، الدكتور توفيق الربيعة، تدوين أحد أهم أحداث العصر الحديث، وتوثيق الأزمة التي حضرت بشكل سريع ومُفاجئ وتوسّعت لتغيّر مجرى حياة العالم، ففي كتابه “الوقوف على أطراف الأصابع” الذي تناول مذكراته الخاصة في التعامل مع جائحة كوفيد-19 عام 2020، كتب: “كان اليوم عبارة عن دقيقةٍ في سرعته، عام في أحداثه”، هكذا يقدّم الدكتور توفيق الربيعة هذه الوثيقة للتاريخ والحاضر، إذ يروي للحاضر التفاصيل المهمة غير المرئية عن بعض أسرار القرارات الجريئة، فيما يقدم للتاريخ قطعة من العمل الإداري التكاملي الحيوي، وكيف أثمر هذا العمل تفوقاً دولياً للسعودية في إدارتها لجائحة كوفيد-19.

في هذا المقال، أستعرض بعض الدروس المستفادة من مذكّرات الربيعة في التعامل مع الجائحة، حول كيفية التصرف بسرعة وصواب ومواجهة الأشياء غير واضحة المعالم، وكيفية “الإصابة بالظن والحدس”، والتوقع المبكّر، والتحوط المثمر، وتحريك الكل، والتحرك قبل الكل، وكذلك عن فِرق العمل وإدارة الأزمات، ومهارة الاقتراب من خط المواجهة بأكبر قدر من الأمان، والبيانات ودورها في تصويب القرار، وكفاءة الرأي.

كيف نستفيد من تجربة السعودية في التعامل أزمة كوفيد-19؟

تعكس سردية “الوقوف على أطراف الأصابع” مسيرة عمل، وسيرة عامل وطني وضع التجربة بكل وضوح، ليخبر الحاضر والمستقبل، عن وطن جعل شعار المرحلة صحة الإنسان وسلامته أولاً! والآن لنستعرض الدروس المستفادة من هذه السردية:

أولاً: التعامل مع صنمية الاجتماعات المتكررة

“صباح الاثنين الثابت منذ أول يوم لي في الوزارة حتى آخر يوم، اجتماع لا تغيّره الأيام ولا تلغيه، إلا في الحالات الطارئة جداً، اجتماع يبدأ بتمام الساعة السابعة والنصف، مع قيادات الوزارة، وهم قرابة الثلاثة عشر، ليمتد إلى أكثر من ساعتين ونصف، أستعرض فيها، مع فريقي المبدع، كل المهام والخطط والأهداف التي رسمناها معاً، ولأنه طويل وأسبوعي، فإنني أحاول أن أضفي عليه بعض الأشياء الطريفة، ساعياً لأن أجعله اجتماعاً محبّباً للنفوس، بعيداً عن صنمية بعض الاجتماعات الروتينية، هذا الاجتماع بموعده لم يتغير إلا في اشتداد الأزمة وقسوتها”.

وهذه العادة تترسخ عندما تكون مع فريقك على خط المواجهة للأزمة، وكان واضحاً تركيز معالي الدكتور توفيق الربيعة على فكرة أنسنة اجتماعات العمل ومنحها المزيد من الضبط والأريحية لتصبح مثمرة وأكثر فاعلية.

ثانياً: قبل التحرك للخارج، التفت للداخل

لا يمكن الوثوق بشبكة صيد فيها خلل وثقوب تعرقل عملية الصيد، كما أن الاعتماد على إصبع واحد يجعل القبضة بمستوى أقل، وتبرز أهمية هذه المعاني والمبادئ للحصول على فريق حيوي متناغم في أوقات الأزمات.

يقول الدكتور الربيعة: “قبل أن تسمع شكاوى المستفيدين، من المهم أن تسمع شكاوى الموظفين”، وهنا يشير إلى عدد من الأفكار التي من المهم أخذها بالاعتبار في قيادة الفرق في مثل هذه الظروف:

قدسية الوقت، “وكنت حريصاً على أن أكون دقيقاً في مواعيدي، وذلك لبناء ثقافة الالتزام داخل أروقة الوزارة، لينعكس على عملها الخارجي، خصوصاً أننا نتعامل مع المرضى، والمريض ربما تُنقذ حياته دقيقة”. وهنا معنى مهم، وهو التناغم بين ما تلتزم به، وترغب في انضباط الآخرين تجاهه.

الانصات للفريق، إحدى أهم الأدوات الاتصالية في الأزمات، لأن الأزمة بطبعها تجهِد من يعمل على مواجهتها، بالتالي لربما انشغل الكل بالمهام، وقلّ الحديث، والنقاش، وصار التوجيه أحادي الاتجاه، وهنا قد تبدأ تسربات القرارات غير المدعومة بالحوار والنقاش.

الشورى مهمة جداً، وفي الأزمات واجبة، “تُعلّمك الأيام أن جودة التوقيت وسرعته لاتخاذ القرار، واستشارة المختصين، أهم ركيزة للنجاح. هناك قرارات رائعة لكنها اتُخذت في الوقت الخطأ، أو من دون استشارة أهل الاختصاص، كان ثمنها الفشل. أؤمن دائماً بالاستشارة قبل اتخاذ القرار، ثم المبادرة وعدم التأجيل”.

ثالثاً: “الأزمة التي تعتقد أنها ستحِلّ بك ليست هي التي ستقع”

أوردت السيرة معنىً ملفتاً وهو “الإصابة بالظن” وكيف يمكن للقيادة في الأزمة أن تتحرك بأقل قدر من الإضاءة، وبحذر، واحتمالية صواب أعلى، وعُنون هذا المعنى في فصل: “الأيام الهادئة ليست للراحة”.

وفيه موقف غير عابر “حصل خلال زيارة لأميركا في أبريل/نيسان 2018، وتحديداً لمركز جون هوبكنز الطبي، من أجل التعرف إلى بعض الأشياء التي تتميز بها هذه الجهة المعروفة عالمياً، وبالفعل رأينا عدة أشياء جميلة، لكن الأكثر تميزاً كان مركز القيادة والتحكم، الذي تم بناءً على الشراكة بين جون هوبكنز وشركة جنرال إلكتريك، ويعتبر هذا المركز من أفضل المراكز في المجال الصحي عالمياً، لكنه يظل على مستوى منظومة جون هوبكنز، أي محدود الإطار في دائرة صغيرة من بعض المستشفيات والمراكز القليلة جداً مقارنة بالجهات الحكومية الأخرى. كان المركز مميزاً بتنظيمه وأدائه، وقتها كانت لدينا دائرة بيانات صغيرة، ومركز بسيط جداً غير مفعّل، تحدثت حينها للوفد المرافق، ووجهت الكلام للزميل الدكتور محمد العبد العالي، وقلت له: دكتور نريد شيئاً مميزاً يتفوق حتى على هذا المركز الرائع، عليك أن تسأل عن كل التفاصيل الصغيرة، وأن تمد جسور الاتصال معهم، واصلنا الجولة بصحبة ممثلي المركز، ورأينا أشياء كانت مميزة بالفعل، وفي كل مرة ألتفت إلى الدكتور محمد وأقول لا تنسَ هذه الجزئية، وفي الختام، وكعادة الزيارة لمثل هذه المنشآت والجهات، توقفنا لأخذ صورة جماعية، وفي لحظة انتظار المصور ليلتقط صورته، تحدّث الدكتور محمد للأميركي الذي بجانبه، وقال له ممازحاً مع بعض الثقة إن الصورة الجماعية الأخرى ستلتقط في مركزنا الجديد بعد إنشائه في السعودية قريباً.

عدنا إلى الوطن محملين بالآمال والطموحات وملفات عريضة جداً، نتيجة هذه الزيارة الثرية لعدد من القطاعات هناك، وعادة، وبعد أي زيارة أتحدث مع فريقي لمناقشة ما تم في تلك الزيارة، ومن ثم نضع الخطط والمستهدفات. كان من ضمن المشاريع التي أعطيناها أهمية قصوى البدء ببناء مركز قيادة وتحكم على مستوى عالٍ وفعال، والسرعة في إنجازه، وبالفعل تم البدء بتجهيزه على قدم وساق، لم تمضِ إلا سنة وخمسة أشهر على زيارتنا لأميركا وكنّا قد دشنّا المركز بأجهزته واتصالاته وبياناته، كان ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2019. إذاً انتهت مستهدفات الإنشاء، وجاء دور وضع مؤشرات على كيفية تشغيله بالطاقة القصوى له، طلبت من الفريق حينها وضع مؤشرات تشغيلية، مثلاً كم شاشة ستعمل الأسبوع المقبل، كم طاولة ستكون مشغولة، كم تدفق للبيانات، كم وكالة سيكون لها ممثل، وغيرها من النقاط التي هي ركائز المركز الأساسية. حددنا لهذه المؤشرات أسبوعين، بحيث يتحول هذا المركز إلى مركز فعال ويعمل تحت أي ظرف”.

رابعاً: الاعتماد على البيانات

إن جرأة القرار؛ خلفها معلومة واضحة، وتحليل منطقي جعل لمركز القيادة والتحكم قصة خاصة في جائحة كوفيد-19 في السعودية، إذ شكّل هذا المركز ترسانة من البيانات التي تتصدى للتوقعات غير المنهجية، وتدعم التنبؤات المنطقية.

“مركز تجتمع فيه البيانات، وليس الهدف فقط هو جمع البيانات، بل ما يصدر عنه من قرارات وحلول فورية ومتابعة على مدار الساعة، حول ما يجري في الداخل، أو في العالم فيما يتعلق بالشأن الصحي، والاستفادة من كامل الإمكانيات الموجودة في الوزارة وتوابعها”. وهنا ربما نعرف أن القرارات الكبرى الجريئة والاستباقية التي اتخذتها المملكة في أثناء الجائحة، كانت نابعة من وجود اهتمام عالٍ بالبيانات وتحليلها.

خامساً: القرار السليم من الجسم السليم

من المعروف أن للنشاط البدني فوائد وأثراً إيجابياً في رفاه الفرد، لكنه أيضاً يساعد على تحسين نتائج الأعمال، فالجسم السليم يحسّن مستوى التركيز على إنجاز المهام واتخاذ القرارات ويطوّر الحس الإبداعي، وعُرف كاتب سيرة “الوقوف على أطراف الأصابع” بعلاقة ممتدة مع رياضة المشي منذ كان وزيراً للصحة والعمل على إشاعتها بين الناس، ولم يكن غريباً أن يشير إلى المشي حتى في أصعب اللحظات حين قال: “أكملت نصابي اليومي في المشي، أكثر من عشرة آلاف خطوة، والذي لم أتركه إلا في أيام نادرة جداً واستثنائية”.

سادساً: الأيام الجيدة، صنعتها قرارات صعبة

أفضل طريقة لتوفير السلام، الاستعداد للحرب، في الحديث عن فن القيادة يشار كثيراً إلى أهمية البعد الإنساني للقائد، لكن يصعب عليك ذلك حين تقع بين عقل صريح، وقلب يصيح، ولكنها طبيعة الأزمات تكون “أصوات العاطفة حادّة وعالية بطبعها، لكنها لا تصلح أبداً لأن تتولى دفة القيادة، إنسان واحد يفكّر بعقل ومنطق في الأزمات، خير من ألف تحركهم العاطفة” بهذا النص ختم الحديث عن جدال حاد دار في أثناء التحضير لقرار تعليق الدراسة الحضورية، وكيف كانت القرارات الأصعب صانعة للظروف الأفضل، وكيف أن النقاشات الحرة الحادة العاملة على صنع القرارات، من شأنها إنضاج مميز للخطوات.

“في الربع الأخير من عام 2021، وتحديداً في 15 أكتوبر/تشرين الأول، تم توجيهي لقيادة وزارة الحج، وتعيين أخي المهندس فهد الجلاجل وزيراً للصحة”. بهذه الجملة ودّع الدكتور توفيق الربيعة القارئ ليضع بين يديه إحدى أهم الوثائق الحديثة الصادرة من مسؤول بالصف الأول المواجه لأحد أهم الأحداث المعاصرة، التي يمكن الاستفادة منها في التعامل مع أزمات لاحقة، فالتفاصيل الصغيرة وقت الأزمات هي دروس كبيرة فيما بعد.