على مدار 10 سنوات، تعاملت مع عدد من مدارس تعليم الفروسية، والتقيت عدداً من الفرسان والمدربين، كنت أتتبع أفضل الخيارات لتعليم ابني الفروسية. في إحدى الدورات المكثفة تفاجأت بالمدرب يقول: "استأذنك، في هذه الدورة سأعمل على تعليمه تقنيات التوقف، وكيف يُدير توقف الحصان بكفاءة"، فلاحظ استغرابي، وقال: "الحصان مخلوق جموح مكتنز بالحركة، وبالتالي التحدي ليس في تركه يتفاعل مع رغبته وخاصيته الفطرية، بل يكمن التحدي -برأي- في أمرين: الأول: كيف تجعله يتوقف في المكان والزمان اللذين تريدهما، والثاني: كيف تضمن مستوى السرعة كما تقرر أنت لا كما يريد هو. وهنا إحدى أهم مهارات إدارة طاقة الخيول في سباقات القدرة والتحمل مثلاً، التي تصل منافساتها إلى قطع 160 كيلومتراً متصلة في يوم واحد، وكيف يمكن أن توزع طاقة الخيل على المسافة كاملة لتضمن الوصول بسلامة أولاً، وبتنافسية ثانياً".
هذا الأمر جعلني أعود إلى عالم الخيل، وأفكر في كيفية الاستفادة منه لتطوير حياتنا المهنية، ووجدت بالفعل عدداً من الأسس والقواعد التي يمكننا أن نستلهم منها لتحسين حركتنا نحو الأهداف في الحياة المهنية، وخصوصاً إدارة الفِرق بطرق أكثر فعّالية:
أولاً: بالقدرة لا بالقوة
لا يقل وزن الخيل غالباً عن 400 كيلوغرام، أضف إلى هذه الكتلة المرونة والقدرة على الحركة بخفة وسرعة، لذلك من الناحية الجسدية والعضلية لا يمكن الدخول مع الحصان في عملية تنافس أو تحكم بالقوة، وليس مشهداً غريباً أن تجد طفلاً ضئيل الجسم، أو شخصاً مسناً ضعيف القوة، يتحكم في حركة الحصان واتجاهه بامتياز، لذلك فهو مسخّر لمن يعرفه جيداً، أكثر ممن يفكر أنه قادر على التحكم فيه.
في هذا المعنى، نستلهم كيف يمكن أن تقودنا المعارف والمهارات الإدارية إلى التفوق في إدارة الفرق الكبيرة، فكلما زاد عدد أعضاء الفرق، أصبحت المهارات المتاحة فيها أكثر وأقوى. فكيف تضمن إدارة فعّالة تستخرج من الفرق المتنوعة أفضل ما فيها دون الحاجة إلى بذل جهد مضاعف؟
في الفروسية، يساعد التعامل مع الحصان وفق خوارزميات عقله على تفاعله الجيد مع الفارس، والسبب ببساطة هو جعله يتحرك من منطلق إدارة قدرته لا السيطرة على قوته.
في الفروسية كما في الإدارة، "القيادة لا تتعلق فقط بمنح الطاقة، بل بإطلاق العنان لطاقة الآخرين". إذ تشير الأبحاث إلى أن القادة الملهمين هم الذين يساعدون الموظفين على تفجير طاقاتهم الكامنة، ويحفّزون الأفراد على إنجاز مهام جريئة من خلال تمكينهم وليس عن طريق السيطرة.
ثانياً: أنت تمتطي طاقة
يمثّل الخيل حالة من الحركة والطاقة، والفارس المبتدئ يتعامل مثلاً مع عنان الحصان كوسيلة للضغط على الفك للوقوف، لكنها أسلوب لنقل رسالة بصرية عصبية يفهم الحصان سريعاً المقصود منها. وبالتالي، يتطلب امتطاء الخيل القدرة على التحكم بحالته العصبية، وهذا لا يتحقق بالقوة، بل بالتعامل معه وفق استراتيجيات القدرة. لذلك عندما يتمكن الفارس من الوصول إلى عصب التوازن للخيل وركوبه، فإنه سيسيطر على غريزته بالكامل، ويتفاجأ بقدرات كبيرة وصعبة يمكن للحصان أن يقدمها نتيجة للتفاعل الصحيح معه.
في هذا الجانب نستلهم كيف يمكن للذكاء التعامل مع الشخصيات وفهم أبعادها، والتفرس في دوافع سلوك الأفراد، وكيف تطورت فرق العمل في المؤسسات بعد أن ركزت على هذا الجانب وفهمته، وتعاملت مع الجانب العاطفي باعتباره ضرورة لا خياراً.
في عام 2016، كشفت جوجل عن وصفة فعّالة للحصول على فريق عمل مثالي، وبعد سنوات من تحليل المقابلات والبيانات لأكثر من 100 فريق، وجدت أن حضور البعد العاطفي والتعامل بذكاء معه يدفع الفرق إلى تحقيق نتائج مثمرة ومبهرة، وأن التواصل الفعال بين فرق العمل يحوّل التحديات الكبيرة التي تتقاسمها الفرق ويفتتها إلى مهام صغيرة.
وبحسب الباحثين المهتمين بالذكاء العاطفي وأثره في عالم الأعمال، هناك 3 شروط أساسية لخلق بيئة عمل تشاركية وتعاونية: الثقة بين أعضاء الفريق، والشعور بهوية المجموعة، وأخيراً الثقة في فعالية عملها.
ثالثاً: الحصان يستمع لرسائل أعصاب الفارس أكثر من حركته الظاهرة
هناك مقاربة ذهنية، ومشهد تخيلي يوضح التصور الذي أريد إيصاله: يُعتبر الهاتف المحمول الخالي من شبكة اتصالات عديم النفع نوعاً ما ويقدم خدمة منقوصة، وكذلك الحصان، حيث يمثل جهازاً تعمل شبكة اتصاله مع الفارس حين يجري تفعيل الإعدادات بطريقة منهجية صحيحة. وعندما تكون التجربة في بداياتها قد يصعب على الفارس التقاط شبكة اتصاله بالحصان، لكن مع الاستمرار في الممارسة، تبدأ عملية التواصل مع الحصان بالتطور والتحسن، وهو ما يخلق نتيجة مُرضية للفارس ومريحة للحصان في الوقت نفسه.
في هذا الإطار، نستحضر أهمية التوافق الاستراتيجي في الأعمال، الذي يركز على الربط الفعال بين مختلف النشاطات والوظائف لتصب في إطار الأهداف الاستراتيجية للشركة، فمن خلال توحيد العقلية السائدة في الشركة ستتمكن من الوصول إلى مستهدفاتها وستحافظ على ميزاتها التنافسية.
رابعاً: لن يتجاوب الحصان إذا لم يوجه بدقة
في مربط مخصص للتدريب، يُخبر أحد المتدربين المدرب بأن الحصان لا ينفّذ المطلوب منه، ليرد المدرب بسرعة وحزم: "لم تقدم الأمر للحصان على النحو المطلوب، لذلك لم يتجاوب معك".
ومن هذه الزاوية، نستلهم أهمية خلق مواءمة الأسلوب في بيئة العمل، إذ من الضروري إجراء محادثات مفتوحة وعميقة حول أسلوب العمل وعدم وضع افتراضات قد تكون خاطئة بشأن سلوك الموظف وتفضيلاته، فعندما تتعامل مع علاقاتك بانفتاح وتعاطف أكبر ستبني حلقة تواصل فعالة مع الطرف الآخر وقد تتجنب أي صراع معه.
كما تقودنا فكرة التوجيه الصحيح إلى أهمية إدارة الانتباه بفعالية للحصول على تجاوب عالي الكفاءة من فريق العمل، فتحفيز الموظفين للتركيز على الأمور المهمة يتطلب منك: التأكد من وضوح الرسالة وبساطتها، وتحديد ما يُفترض أن يأخذ حيز التركيز الافتراضي.
خامساً: لك منه: السرعة والاتجاه فقط
الحصان كائن عصبي وقلق، ويتحرك بحيوية، لذا فإن الرغبة بالسيطرة الكاملة عليه قد تقلل من إمكانية تطوره وتفاعله التصاعدي مع الفارس، لذا غالباً ما يركز الفرسان الجيدون على السرعة والاتجاه المُحددين، وترك مساحة للحصان كي يحرك رأسه مثلاً وفق ما يريد.
وهو ما ينقلنا إلى الحديث عن أهمية الابتعاد عن الإدارة التفصيلية لكسب ولاء الموظفين وضمان نجاح الشركة، إذ أثبتت أبحاث مؤسسة غالوب أن الفِرق التي يرتفع بها مستوى الاندماج في العمل تحقق في المتوسط إنتاجية أعلى بنسبة 18% وربحية أكبر بنسبة 12% من الفرق الأقل اندماجاً في العمل.
تؤدي الإدارة التفصيلية إلى إضعاف قدرات الموظفين وزعزعة ثقتهم بنفسهم وخفض إنتاجيتهم عموماً، ولتجنبها ينصح الخبراء بوضع آلية للتواصل بين الموظفين تضمن عدم التجاوز، وخلق ثقافة التواصل المباشر مع المدير الأول المسؤول، وأن يركز القادة جهودهم على النتائج أكثر من آليات التطبيق.
سادساً: الحصان يكشف أوراقه كلما تطورت العلاقة
خلال السنوات العشرة الماضية، ومن خلال تعاملي مع عدد من مدارس تعليم الفروسية، لفتتني إحدى النصائح والتنبيهات التي وجهها أحد المدربين للفارس المبتدئ، إذ قال له: "إذا لم تجعل حصانك يشعر باستمرار بأنك اكتشفت خصائص جديدة فيه تستطيع تحريكه باتجاهها، فإنه مع مرور الوقت سيتوقف غالباً عند عدد محدود من الخصائص ولن يوفر لك كل إمكاناته وسيقدم لك ما تستحقه فقط". يشير المدرب هنا إلى أن عملية التعلم المستمرة هي الطريقة الفعالة للاستفادة من الطاقة الكاملة للحصان.
وهنا يقودنا علم الفروسية إلى ضرورة تعزيز ثقافة التعليم المستمر داخل الشركات وتشجيع الموظفين على الابتكار عبر التخلي عن القيود البيروقراطية التي تعوق الإبداع وتوفير المرونة والبيئة المناسبة للخروج بأفكار جديدة، ومساعدة الموظفين على فهم كيفية تطوير عقلية النمو للاستفادة من إمكاناتهم غير المحدودة.
أخيراً، كلما زادت سرعة الحصان، شعر الفارس براحة جسدية أكبر، وزادت مستويات الخطورة، والعكس صحيح، كلما كانت خطوته أبطأ، قلت الخطورة وارتفع مستوى التعب الجسدي للفارس. وفي حياتك المهنية يمكنك الحصول على سرعة جيدة عندما تعمل بوعي أكثر.