ملخص: قدرة تعامل المؤسسات مع الأزمات ومواجهة الأوقات الصعبة هي ما يميّزها في غالب الأحيان عن المؤسسات "العادية". الرئيس التنفيذي السابق لشركة إنتل أندرو غروف يقول: "الأزمات تحطم المؤسسات الضعيفة، والمؤسسات الجيدة تتكيف معها وتنجو منها، بينما المؤسسات الرائعة تخرج من الأزمات أقوى وتستفيد منها". يسلط المقال الضوء على كيفية تعامل الهيئة العامة للغذاء والدواء بالسعودية مع جائحة كوفيد-19 كمثال على الأزمات الصعبة، وكيف خرجت منها أكثر قوة عبر الاعتماد على عاملين رئيسيين:المرونة والحزم.
خلال الأشهر الأولى لجائحة كوفيد-19، من ينسى صور أرفف البقالة الفارغة بسبب نقص الموارد الغذائية، واستغاثات المؤسسات الصحية بسبب نقص الموارد الطبية اللازمة، حتى لجأ بعض أفراد الطواقم الطبية إلى استخدام أكياس القمامة بديلاً للعازل الطبي (الجاون)، فقد كانت الجائحة أزمة مباغتة حتى بالنسبة إلى أكثر الدول قُدرة وجاهزية للتعامل مع الأزمات. ولكن دولاً استطاعت تخطي الأزمة بنجاح لافت، مثل المملكة العربية السعودية التي لم تشهد أزمة في الغذاء أو الموارد الطبية أو غيرها، بل احتلت المرتبة الأولى عالمياً في استجابة الحكومة للجائحة، وفقاً لتقرير المرصد العالمي لريادة الأعمال (GEM) لعام 2020-2021.
تكاتفت مؤسسات المملكة العربية السعودية في القطاعين العام والخاص لتشكل جميعها غرفة عمليات كبرى لإدارة الأزمة، وفي طليعة هذه المؤسسات كانت الهيئة العامة للغذاء والدواء بالسعودية التي تحول مقرها إلى مركز لإدارة الأزمة في وقت ما إذ استطاعت بقيادة الرئيس التنفيذي تخطي الأزمة بأقل أضرار ممكنة. حينما باغتت الأزمة العالم، لم تكن هناك رؤية واضحة لدى قيادة الهيئة لحجم الأزمة أو كيفية التعامل معها، حالها حال الجميع، فلم تتبع القيادة المسار النظري لقيادة الأزمات، بل اتبعت ما يعرف بالقيادة التكيفية (Adaptive Leadership) ، وهي نوع القيادة المناسب للاستجابة لحالة عدم اليقين، إذ تُعنى بتوقع الاحتياجات المستقبلية والتعبير عنها لبناء الدعم والتفاهم الجماعي وتكييف استجابة المؤسسة بناءً على المستجدات المستمدَّة من التعلُّم المستمر.
إشراك الجميع للإسهام في حل الأزمة
أدركت قيادة الهيئة أن أزمة مثل كوفيد-19 لا يمكن أن تُدار دون حشد العمل الجماعي، وإشراك كل من يمكنه الإسهام في حل الأزمة، وأن الاستجابة الفعّالة لا بد أن تستند إلى التعاون بين مختلف القطاعات والصناعات. ففي بداية الأزمة، ظهرت بوادر أزمة نقص المعقمات، ولا سيما بسبب نقص المواد الخام الذي قاد إلى تقليص عدد مصانع المعقمات من 12 مصنعاً إلى 3 مصانع. استعانت الهيئة بوزارة الصناعة التي أرسلت فريقاً متخصصاً للمساعدة، ووزارة الطاقة التي عقدت غرفة عمليات مشتركة مع الهيئة، وكذلك شركات قطاع البتروكيماويات مثل سابك وأرامكو، واستطاعت خلال أسبوعين استيراد كميات هائلة من المواد الخام من عدة دول في آسيا، ليترفع عدد المصانع إلى 30 مصنعاً مجدداً.
التمكين والتخلي عن التراتبية
يتعين على القادة الاستعداد للتخلي مؤقتاً عن بعض المسؤوليات القائمة على التراتبية، لتمكين الآخرين من إدارة العديد من جوانب استجابة المؤسسة للأزمات. وينطوي هذا المنهج على منحهم السلطة لاتخاذ القرارات وتنفيذها دون الحاجة إلى الحصول على موافقة مسبّقة. فعلى سبيل المثال، كان هناك تحدٍ خاص بإعطاء العاملين في الشركات تراخيص للتنقل بسهولة في ظل حظر التجوال، عمل الفريق التقني مع فريق الموارد البشرية بالهيئة على التفكير في حل فعال، دون الاضطرار إلى استشارة القيادة أولاً، وإطلاق منصة خلال 12 ساعة، وعرضها على القيادة، التي اعتمدتها على الفور، وفي خلال ثلاثة أيام استفاد من المنصة نحو 250 ألف شخص. لقد أعطت القيادة منذ اليوم الأول للفريق الفرصة للانطلاق والتفكير، وبسطت عملية صناعة القرار التشاوري.
الأهداف الكبيرة تحفز الفريق على الإبداع
اجتمع الرئيس التنفيذي للهيئة بالنائب المسؤول عن ملف الكمامات 5 دقائق، كتب على اللوحة البيضاء في مكتبه: "نريد 600 مليون كمامة في ثلاثة أسابيع"، كان الهدف صعباً، في ظل أزمة تواجه العالم كله، ولكنها الطريقة التي تعتمدها القيادة دائماً في الهيئة وهي وضع أهداف كبيرة وجريئة لتحفيز الفريق على الإبداع والبحث عن طرق مختلفة للإنجاز.
نجحت الهيئة في توفير ضعف عدد الكمامات المطلوبة، فخلال المدة المحددة، استطاعت الهيئة بالتعاون مع الجهات الأخرى في توفير مليار و200 كمامة طبية، إذ سلكت عدة طرق، سواء محلياً بحثِّ المصانع على مضاعفة إنتاجها وتوفير التسهيلات لها والبحث عن طرق مبتكرة مثل البحث حول إمكانية مشاركة مصانع المنسوجات في تصنيع الكمامات الطبية، أو دولياً بالبحث عن الموردين العالميين.
ظهر تكاتف مؤسسات الدولة مرة أخرى هنا حينما سخرت الخطوط الجوية العربية السعودية قدراتها تحت تصرف الهيئة، بما فيها طائرات الركاب التي كلفتها بشحن الكمامات المستوردة، ففي مشهد أسطوري، استقبل مطار الملك خالد 18 طائرة يومياً مليئة بالكمامات مشكّلة جسراً جوياً، حيث استقبل قادة الهيئة وعلى رأسهم الرئيس التنفيذي أول طائرة تحمل الكمامات المستوردة.
وعلى ذكر الإبداع والبحث عن طرق خارج الصندوق لحل الأزمة، استعانت الهيئة بأحد مصانع الملابس العسكرية لإنتاج اللباس العازل الطبي للمستشفيات، إذ كان استيراده مكلفاً للغاية، وبفضل تعاون هيئة الغذاء والدواء وهيئة الصناعات العسكرية، أنتجت المملكة ملايين القطع بتكلفة أقل 70% من تكلفة استيرادها وفي زمن قياسي.
لا تقل هذا ليس من شأني: يعلم الجميع خلال الأزمة أن وجود مشكلة في جهة ما دون حل ستعرقل عملهم أيضاً، فيذكر رئيس الهيئة كيف أن مستورداً للكمامات كان يحتاج إلى تمويل من البنك، فاتصل بدوره بنائب وزير التجارة الذي رفع الأمر خلال دقائق إلى رئيس مجلس إدارة أحد أكبر البنوك في السعودية لمساعدة المستورد.
الحزم في اتخاذ القرارات: في قيادة الأزمات، ولا سيما الأزمات على المستوى الوطني، لا يعمل القائد على إرضاء الجهات كافة خاصة مع محدودية الموارد، فلا بد أن يكون حازماً في وضع الأولويات، فعلى سبيل المثال، حينما توافرت الدفعات الأولى للمستلزمات الطبية، كان على القادة اتخاذ القرار بأي الجهات أحق بها أولاً، هل المستشفيات الحكومية أم الصيدليات، أم مراكز المستلزمات، أم المستشفيات الأهلية، وهكذا.
وختاماً، في الأزمات المفاجئة تحديداً، يكون تحرك القائد أولاً هو الطريقة الأكثر فعالية في إجبار الجميع على التحرك، إذ لا تكون الأوامر والتوجيهات هي الطريقة المثلى حينما تتسم الأجواء بعدم اليقين، فعلى سبيل المثال، كان الرئيس التنفيذي للهيئة والقيادات العليا يجرون يومياً زيارات ميدانية للصيدليات والمنافذ ومراكز المستلزمات للتأكد أن كل شيء يسير على ما يرام، بل يرصدون المخالفات بأنفسهم ويبلغون بها جهة حماية المستهلك، ومن ثم سيحذو الجميع حذوهم.