معظم المدراء التنفيذيين الذين أتحدث إليهم يفهمون جيداً أن التقنيات الرقمية تتخلل كل وظيفة، وفي كل شركة تقريباً. مع ذلك، يقع العديد منهم فريسة لخرافتين مؤذيتين.
الخرافة الأولى: من دون استراتيجية رقمية، لن تستمر. غالباً ما تترافق هذه الخرافة مع قصص مخيفة، مثل قصة كيفية "التهام" شركة "أمازون" (Amazon) شركة "سيرز" (Sears). لكن التقنيات الرقمية ليست استراتيجيات أكثر من الطاقة الكهربائية، والاتصالات الهاتفية، أو أي تقنية متطورة أخرى. إنها أدوات فعالة تستحق مكانة بارزة في صندوق الأدوات، إلا أنه لا ينبغي أن تُستبدل بها جميع الأدوات الأخرى، أو واضعو الاستراتيجيات الماهرون، الذين يعلمون كيفية استخدام تلك الأدوات ودواعي استخدامها. في الواقع، تفشل الأعداد الضخمة لما يُعرف بالمزعزعات الرقمية (digital disruptions) كل عام لسبب محدد هو افتقارها إلى الاستراتيجيات المؤثرة. فكّر في "إي تويز" (eToys)، و"نابستر" (Napster)، و"بيكسلون" (Pixelon). ويتوقع المحللون انفجار فقاعة رقمية أخرى، ينجم عنها موت العديد من وحيدات القرن. ويجادل عدة أشخاص بأن رهانات شركة "سيرز" المبالغ بها على التقنيات الرقمية تُعجّل فعلياً بانهيار هذه الشركة، بدلاً من تجنب ذلك.
لذا، حاول نسيان هذه الخرافة. إن مفتاح النجاح الدائم هو استراتيجية فاعلة للأعمال، مدعّمة بتطبيقات ماهرة لأدوات تمكينية، باتت تشمل التقنيات الرقمية.
الخرافة الثانية: يجب علينا جميعاً أن نصبح خبراء في التقنيات الرقمية. والمغالطة هنا تكمن في الاعتقاد بأن على كل فرد، أو وحدة تنظيمية، التكيف ذاتياً فيما يتعلق يالتقنيات الرقمية. وينشئ المدراء التنفيذيون الذين يؤمنون بهذه الخرافة مؤسسات خاصة بهم لتكنولوجيا المعلومات، مدخلين بذلك تعقيداً استثنائياً إلى الهندسة الرقمية. ثم يندهشون حين يواجهون فجأة مشكلات في الدمج وأمن الشركة وخصوصية الزبون والامتثال للأنظمة، وهي جميعاً أمور ينبغي أن يقلق منها خبراء تكنولوجيا المعلومات في الشركات.
من الواضح أن على الناس والوحدات التنظيمية أن يتعلموا اكتشاف فرص الحصول على تقنيات رقمية، وكيفية توظيف خبراء فعليين، والتعود على استخدام الأدوات الرقمية. ولكن هذا مختلف جداً عن تعلم تصميم برمجيات الكمبيوتر وتطويرها.
وما هي أفضل مقاربة بعد تخلصك من هاتين الخرافتين؟ هناك صفحة من قواعد اللعبة التي تتبعها الشركات الرقمية الأصلية الأكثر نجاحاً. حاول بناء استراتيجيتك على أساس الابتكارات المتواصلة، من حيث المنتجات والإجراءات الجديدة. اختبر تلك الابتكارات بسرعة، وتابع ما ينجح منها فقط. ادمج مهاراتك الرقمية بالعمليات والتسويق وجميع أنواع الخبرة الوظيفية الأخرى التي يحتاج إليها العمل.
ومفتاح هذه المقاربة فريق "أجايل" (Agile).
تُعد "أجايل" منهجية نظامية للابتكار، لقد شاعت منذ زمن طويل في مجال تطوير برمجيات الكمبيوتر، وتشمل أنواعها المختلفة السكرم (scrum)، والتطوير الرشيق، والكانبان (Kanban). تنشئ الشركة فريقاً مصغراً من أشخاص يعملون على مشروع محدد. ويدير الفريق نفسه بنفسه وهو متعدد الوظائف، لذلك يشتمل على جميع المهارات التي يحتاج إليها العمل. يقسّم الفريق المشروع إلى وحدات صغيرة، ويعالج الأجزاء الأكثر أولوية في شكل اندفاعات محددة زمنياً تُعرف بـ "الإسراعات المفاجئة". وبعد إتمامه العمل على وحدة، يختبر الفريق النتائج على زبائن داخليين، أو مستخدمين نهائيين، أو كلتا الفئتين معاً. يرصد الفريق بعناية إنجازاته وإخفاقاته، وغالباً ما يتم تقييم التقدم المحرز كل يوم في اجتماع يومي موجز يُعقد وقوفاً، كما يتحمل الفريق وحده المسؤولية عن النتائج.
في معظم الحالات، يُظهر البحث أنّ منهجية "أجايل" أكثر فاعلية من الأساليب التقليدية لإدارة المشاريع، فهي أسرع، وأقل عرضة للفشل الذريع. وتدعم "أجايل" سعادة الفريق والإنهاك في العمل، وهو أمر ليس بتافه في حقبة حرب المواهب هذه. تُحقق هذه المنهجية نتائج أفضل في الأعمال، لا سيما في الصناعات شديدة الدينامية. على سبيل المثال، تعتمد خدمة "سبوتيفاي" (Spotify) الرائجة للعرض المتواصل للموسيقى، على ابتكارات فرق "أجايل" ذاتية الإدارة، التي تُعرف بالـ "زمر"، للتنافس بنجاح مع خصوم أقوى وأفضل تمويلاً.
وغالباً ما تكتشف الشركات التي لا تنتمي إلى عالم التقنيات الرقمية، أن "أجايل" ليست غريبة تماماً عنها، فلطالما كانت موجودة في قسم تكنولوجيا المعلومات في تلك الشركات. ومثال ذلك شبكة الراديو الوطنية الأميركية العامة (إن بي آر). على مدى أكثر من 40 عاماً، طورت هذه الشبكة برامج جديدة بالطريقة القديمة، فجاء المنتجون بأفكار وطرحوها على المدراء التنفيذيين للشبكة. وقد وظف المنتجون الذين حصلوا على الضوء الأخضر فريق العمل الذي يحتاجون إليه، وأنشؤوا برمجة شاملة، واستعدوا لإطلاق كبير، كل ذلك في سرية تامة. في تلك الأثناء، حاول ممثلو شبكة الراديو تلك بيع العرض الإذاعي إلى محطات الراديو المحلية، أملاً في أن يشتريه عدد كافٍ منها لتغطية تكاليف العرض. كانت العملية بطيئة ومكلفة ومحفوفة بالمخاطر.
وسعياً إلى المزيد من الابتكار وتحسين الجودة، طلب مجلس إدارة الشبكة من قسم البرامج وضع مقاربة جديدة لتطوير العروض. وكان إيريك نوزوم، نائب مدير قسم البرمجة حينها، مفتوناً بالتحسينات المذهلة في قسم الإعلام الرقمي في الشبكة، الذي جدد بالكامل الموقع الإلكتروني للشبكة في وقت قصير نسبياً. لذا، لجأ نوزوم إلى زملائه في ذلك القسم طلباً للإلهام، وشرحوا له مقاربة "أجايل". بدأ نوزوم وعدة أشخاص آخرين بالتفكير في كيفية تطبيق مبادئ "أجايل" على البرمجة ومشاريع أخرى في الشبكة.
واليوم، تُنتج فرق "أجايل" كل أنواع الابتكارات في "شبكة الراديو الوطنية الأميركية"، مما يساعد هذه المؤسسة في الحفاظ على مكانتها الفريدة في الإعلام الأميركي. وقد تبنى فريق تطبيق "أجايل" الإدارة لإنشاء أرشيف رقمي جديد لأكثر من 75 ألف تسجيل صوتي، في حين طبّق فريق آخر أساليب هذه المنهجية، لتحسين أمثل لساعة التوقف عن العمل النموذجية بين نشرة الأخبار الوطنية والمواد المحلية، مثل نشرة الأخبار المحلية وحالة السير والنشرة الجوية.
وفيما يتعلق بالبرمجة، تُعد الشبكة الآن عدداً قليلاً من العروض التجريبية، بواسطة عدد أقل من الموظفين، ثم تبدأ بإعادتها، في حين يجمع مبتكرو العروض الآراء من مدراء البرامج المحليين. وهم يطلبون من المستمعين الإدلاء بانتقاداتهم ومقترحاتهم، غالباً عبر مواقع التواصل الاجتماعي. هذه العملية سريعة وعامة ورخيصة نسبياً. وابتكرت "شبكة الراديو الوطنية" برامج مثل ساعة "تيد" للأحاديث الإذاعية، وكيف تفعل كل شيء (رسالة صوتية) بما يُعادل ثلث مستويات الكلفة السابقة. وبما أن الشبكة أنفقت مبلغاً أقل على التطوير، فهي قادرة على تزويد أسواق محلية بالبرنامج مجاناً لمدة من الزمن، حتى تستطيع تكوين جمهور له.
لاحظ العبرة هنا، "سبوتيفاي"، و"شبكة الراديو الوطنية"، وجميع ممارسي تقنية "أجايل" الخبراء الآخرين لا يعتمدون على التقنيات الرقمية على أنها استراتيجية، بل إن تلك التقنيات تساعدهم على اكتشاف استراتيجيتهم. وهم أيضاً لا يقترفون خطأ توقع أن يكون جميع الناس متساويين من حيث الذكاء التكنولوجي، بل يعتمدون على الفرق التي تضم ذوي الذكاء التكنولوجي، إلى جانب ذوي الذكاء التسويقي، والذكاء الاقتصادي، وما إلى ذلك. باختصار، لا يقعون فريسة لخرافتي التكنولوجيا الرقمية، لذا تكون شركاتهم أقوى.