كيف تُساعد ثقافة المعارضة في بيئة العمل على صياغة استراتيجية ناجعة؟

6 دقيقة
الاستراتيجية الناجحة
سفيتان غانيف سيكلي/500 بي إكس/غيتي إميدجيز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: في عالم متقلب يسوده عدم اليقين يُنظر إلى الاستراتيجية الناجحة على أنها مجموعة من الخيارات لا خطة توجيهية ثابتة، لكن لإنشاء مثل هذه الاستراتيجية وإعلانها، يجب على المدراء تبني أفكار غير متوافقة أو حتى متعارضة فيما بينها، ومشاركة روايات متعددة ومتضاربة، والتعبير عن أفكارهم عندما تخطر على بالهم بدلاً من التسلسل التقليدي للتفكير أولاً ثم المشاركة. لتحقيق ذلك، يجب على القادة تعزيز ثقافة يمكن للموظفين في إطارها التعبير عن وجهات نظرهم المخالفة من دون خوف من العقاب.

في مقال نُشر مؤخراً في هارفارد بزنس ريفيو، اقترحنا أن على الشركات في عالم اليوم الذي يسوده عدم اليقين والتغير السريع تبني استراتيجيات تستند إلى عقلية الاختيارية القصوى؛ أي العمل باستمرار على تطوير خيارات جديدة يمكن أن تشكل أساساً للنجاح في المستقبل اعتماداً على الظروف غير المتوقعة التي قد تطرأ. لكن تنفيذ استراتيجية الاختيارية القصوى يمثل تحدياً للشركات لأن إنشاء الخيارات مكلف في الواقع، إذ ينطوي على عملية استكشاف محفوفة بالمخاطر ومكلفة وتزيد تعقيد العمل ويمكن أن تؤدي إلى الإفراط في التكرار. يزداد التحدي صعوبة بسبب تجاوز القيود المفروضة على الموارد، بارتفاع تكلفة رأس المال تحديداً.

وإضافة إلى تحدي التنازلات التقليدية في الاستراتيجية التي ناقشناها في مقالتنا التي أشرنا إليها آنفاً، ستتطلب استراتيجية الاختيارية القصوى أيضاً نهجاً جديداً للتفكير في الاستراتيجيات وإعلانها وقيادتها. في الأساس، يجب علينا قبول حقيقة أن الاستراتيجية لم تعد خطة توجيهية واحدة وثابتة، بل مجموعة من الاحتمالات التي يتطلب التعامل معها دليلاً إرشادياً جديداً تماماً. لتحقيق النجاح في عصر الاختيارية القصوى هذا، يجب على المدراء والقادة تقبّل ما يلي:

عدم توافق الأفكار وتعارضها

يعمل كل من الشركات والأفراد غالباً على عدة مبادرات ومهام في الوقت نفسه، ومن المفترض عادة أنه على الرغم من اختلاف هذه الأنشطة الشديد، فهي تتوافق في جوهرها مع استراتيجية ورؤية واحدة للمستقبل.

مع ذلك، قد يتعين على المؤسسات التي تضع عدة خيارات للتعامل مع مختلف السيناريوهات المستقبلية المحتملة اتباع خيارات غير متكاملة أو حتى متعارضة في الوقت نفسه. على سبيل المثال، تبيع شركة إنفيديا بطاقاتها الرسومية للمستهلكين، ولكنها تعمل أيضاً على إنشاء خدمة اشتراك قائمة على السحابة تتيح للمستخدمين الوصول إلى قوة معالجة الرسومات عن بُعد وبث الألعاب أو البرامج الأخرى إلى الأجهزة التي قد لا تحتوي بالضرورة على بطاقاتها الرسومية. في هذه الحالة، يمكن أن يؤدي حل مشكلة واحدة مثل تقليل زمن انتقال البث إلى تعزيز جاذبية الخدمة السحابية التي تقدمها إنفيديا، ولكن ذلك قد يلحق الضرر بأعمالها التقليدية في مجال مكونات أجهزة الكمبيوتر (من خلال انخفاض مبيعاتها المباشرة).

يتطلب تعزيز الاختيارية الاعتراف بالفوائد المحتملة لمثل هذه الخيارات غير المتوافقة. تشمل هذه الفوائد زيادة القدرة على التحمل نتيجة تنوع مصادر الدخل المستقبلي، والقدرة على ضمان مكان في مستقبلٍ معقول سيعتمد إلى حد كبير على الحوسبة المركزية. علاوة على ذلك، فإن خطوة إنفيديا تؤهلها للاستفادة من مجموعة أوسع من الابتكارات المستقبلية المحتملة، إذ ستستفيد خدماتها السحابية من التطورات التي ستطرأ على الأجهزة ومن التحسينات في برمجيات البث المباشر عبر الإنترنت، من بين تطورات أخرى.

يجب على الشركات التي تتطلع إلى النجاح في المستقبل تبني بعض الخيارات غير المتوافقة المنتقاة بعناية وبطريقة مماثلة من خلال تقبّل وجهات النظر المتباينة حول المستقبل واستكشاف مختلف النتائج المحتملة وتحويل تركيزها ومواردها بين هذه الاحتمالات وفقاً للتطورات.

يمكن أن يؤثر تعدد وجهات النظر حول المستقبل أيضاً في التوافق بين أصحاب المصالح في المؤسسة؛ في الواقع، صورة “المركب الواحد” جذابة: “نحن جميعاً في مركب واحد، وسيساعدنا التجديف معاً على الوصول إلى خط النهاية بسرعة وكفاءة”، ولكن في عالم يسوده انعدام اليقين الشديد، قد لا نعرف وجهتنا دائماً، أو لا نعرف في الواقع إذا ما كان قارب معين هو خيارنا الأفضل للوصول إليها.

نتيجة لذلك، لم يعد تحقيق التوافق الكامل بين أصحاب المصلحة المبدأ التوجيهي الأساسي. في مواجهة مستقبل غامض، سيتعين على الشركات تعزيز مجموعة متنوعة من التصورات عن الواقع والرؤى عن المستقبل، فتصادمها داخل الشركة سيطلق العنان لأفكار جديدة من خلال الابتكار الاندماجي ويحسّن قدرة المؤسسة على الاستمرار في المستقبل.

تعدد الروايات وعدم اتساقها

غالباً ما نعلن الاستراتيجيات باستخدام القصص التي تشكّل طريقة جذابة ومفيدة لتبسيط الحقائق المعقدة، لكن عند استكشاف خيارات مختلفة وربما غير متوافقة للمستقبل، لن نتمكن بعد ذلك من الاعتماد على سرد استراتيجي فريد وثابت. بدلاً من ذلك، تجب على المؤسسات مشاركة قصص متعددة ومتغيرة ودعمها للمساعدة على متابعة خيارات مختلفة والتبديل بينها.

على سبيل المثال، فيما يتعلق باستراتيجية شركة مايكروسوفت للذكاء الاصطناعي التي حظيت بإشادة كبيرة في الأشهر الماضية، أصدرت الشركة بيانات تسلط الضوء على أدوار برنامجها المتنوعة بوصفه مدرباً ومساعداً ومحرك أتمتة. يُبرز بعض هذه القصص مشاركة العنصر البشري في العملية، على خلاف بعضها الآخر. وفي حين أن هذه القصص لا تتطابق من حيث الوقت والسياق والجمهور المستهدف، لكن قدرة مايكروسوفت على تكييف سردها وعروضها باستمرار في بيئة سريعة التغير تمكّنها من الحفاظ على قدرتها التنافسية وأهميتها في السوق.

في مثل هذا العالم المليء بالسرديات المتعددة، يجب على المؤسسات أن تتخلى عن هدف الحفاظ على الاتساق والاستقرار الكاملين للسرد -الأمر الذي كان يُنظر إليه تقليدياً على أنه سمة مميزة للنزاهة- وأن تتبنى التنوع والتغيير بدلاً منه.

يقدّم لو غيرستنر مثالاً رائعاً على التواصل غير المتسق الناجح؛ عندما تولى منصب الرئيس التنفيذي لشركة آي بي إم في أبريل/نيسان عام 1993، قال للمستثمرين ووسائل الإعلام إن “آخر شيء تحتاج إليه شركة آي بي إم الآن هو الرؤية“، مشيراً إلى أنه سيركز بدلاً من ذلك على التبسيط والتنفيذ. لكنه في الواقع قاد العمل على وضع رؤية جديدة للشركة ركزت على تمكين الشركات من استثمار الإنترنت في أعمالها، وكشف النقاب عن هذه الرؤية بعد أقل من عام من توليه منصبه وأطلق بعدها بفترة وجيزة حملة إعلانية لها بلغت تكلفتها 500 مليون دولار، ما أسهم في ريادة آي بي إم في هذا المجال مبكراً.

التفكير بصوت عالٍ

الروايات ليست وسيلة للتواصل فحسب، بل هي أدوات قيّمة لصياغة الاستراتيجية واختبارها: يساعد التعبير عن الأفكار، حتى لو كان لنفسك فقط، على تنظيمها واكتشاف العيوب في منطقك. أشار الشاعر والكاتب المسرحي هاينريش فون كلايست في مقال نشره عام 1805، إلى أن التحدّث يولّد الأفكار تماماً مثلما يثير بدء تناول الطعام الشهية.

في السعي لتحقيق الاختيارية القصوى، تمهد مشاركة الأفكار الاستراتيجية مع الآخرين الطريق لتحسينها أيضاً، ويمكن أن يكون التحدث في حد ذاته شكلاً من أشكال التفكير لا مجرد نتيجة له. يمكننا اختبار الاستراتيجيات وتطويرها من خلال التحدث عنها بصوت عالٍ وملاحظة ردود الفعل عليها والتعاون مع الجمهور لفرز الأفكار وصياغتها. في هذا السياق، يمكن أن يكون سرد قصص متعددة وربما غير متسقة مفيداً لأنه يولد استجابات قيّمة يمكن ملاحظتها وتسخيرها. يمكننا هنا أن نتوسع في الاقتباس الشهير للروائي البريطاني إي إم فورستر “كيف أعرف ما أفكر به ما لم أسمع ما أقوله؟” ليصبح “كيف أعرف ما أفكر به ما لم أرَ كيف يتفاعل الآخرون مع ما أقوله؟”

يمكن تنفيذ ممارسة “التفكير بصوت عالٍ” داخل الشركة لاستكشاف وجهات النظر المتنوعة وفهمها. على سبيل المثال، يمكن للمسؤولين التنفيذيين عقد ورش عمل يضعون فيها أنفسهم في مكان الشركات الناشئة في القطاع التي تتحدى نماذج الأعمال الراسخة، ومناقشة طرائق نجاح أفكارهم. هذا التمرين وغيره من تمارين تمثيل الأدوار التي طورناها لتسهيل ورش العمل هذه طرائق فعالة لاختبار الأفكار وتطوير عقليتك.

علاوة على ذلك، يمكن أيضاً تطبيق عملية “التفكير بصوت عالٍ” في سياق خارجي، من خلال طرح أفكار اختبارية للجمهور وتقييم استجابتهم لها (أسلوب لاستقصاء الآراء يُعرف ببالون الاختبار)، على غرار تسريب السياسي لخططه إلى وسائل الإعلام أو عرض الشركات نماذج أولية لمنتجاتها أو الإعلان عن عرض جديد على منصة التمويل الجماعي. أحد الأمثلة الحديثة التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة هي المناقشة العامة التي أجراها الرئيس التنفيذي لشركة تويتر، إيلون ماسك، مع مستخدمي المنصة حول تسعير اشتراك العلامة الزرقاء.

التحول إلى ثقافة جديدة

كتب خبير القيادة الشهير والرئيس التنفيذي السابق لشركة هيرمان ميلر (Herman Miller)، ماكس دي بري: “المسؤولية الأساسية للقائد هي تحديد الواقع”. ولأن قادة الشركات هم صانعو المعنى الرئيسيون، فهم يحددون أسلوب التواصل والسياق المناسبين لما يفضلون التفكير فيه ومناقشته داخل مؤسساتهم، وبالتالي يجب عليهم أيضاً قيادة تغيير العقلية وممارسات التواصل التي من شأنها إطلاق العنان للاختيارية القصوى. سيتطلب ذلك منهم:

  • القيادة بالقدوة: يجب أن يكون القادة قادرين على مشاركة مجموعة متنوعة من الروايات وحتى مناقضة رواياتهم السابقة عندما تظهر روايات جديدة أهم. هذا لا يعني التلاعب بالحقائق والأدلة التجريبية أو تشويهها، بل هو اعتراف بأن الحقائق تدعم العديد من الروايات المحتملة التي قد لا تكون متوافقة فيما بينها، وأن معارفنا وظروفنا تتغير وتتطور بمرور الوقت.
  • وضع معايير جديدة: للاستفادة من قوة “التفكير بصوتٍ عالٍ”، يحتاج الموظفون إلى الشعور بالثقة والأمان بأن مشاركة أفكارهم مع زملائهم، حتى لو لم تتبلور بالكامل ولم يتحققوا من صحتها بعد، لن تهدد حياتهم المهنية. بطبيعة الحال، من المهم أيضاً وضع حدود للتفكير بصوت عالٍ في المنتديات العامة، حيث يمكن أن تكون العواقب وخيمة إذا لم تلقَ الفكرة قبولاً حسناً أو لم تُنفذ في نهاية المطاف.
  • خلق بيئة آمنة: لتشجيع التفاعل بين وجهات النظر المتنوعة والاستفادة منه، يجب على القادة توفير مساحات آمنة لتعزيز الإبداع من خلال المرح لضمان شعور الموظفين بالأمان عند تجربة أفكار وعمليات وممارسات جديدة.

سيتطلب النجاح في عالم الاختيارية القصوى ثقافة تتبنى التجريب مع نماذج الأعمال والتشغيل الجديدة والمتضاربة في كثير من الأحيان. لتحقيق ذلك، سيتعين على الشركات إدراك أن الاستراتيجية عبارة عن مجموعة من الخيارات وليست خطة توجيهية ثابتة، وسيتعين على المدراء تبني روايات متعددة ومتضاربة بينما يعملون على وضع الاستراتيجيات وصياغة الرسائل الفورية حولها. سيتمثل التحدي الذي يواجه القادة في ضمان أن تكون المؤسسة مساحة آمنة للموظفين تتيح لهم التفكير والتواصل بهذه الطرائق الجديدة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .