تيراكسي شركة ناشئة سعودية تستلهم ابتكاراتها من الكائنات الحية الأكثر قدرة على التكيف

6 دقيقة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يروي الباحث ومؤلف كتاب “الابتكار خارج المألوف“، أليكس لازارو، كيف استطاع رواد أعمال عالميون أن يبتكروا شركات تُسهم في تقديم حلول عالمية مستفيدة من بعض ميزات عالم الحيوان وما يوحيه للإنسان من ابتكارات، بدءاً من اعتماد منهجية “اليونيكورن” التي تشير إلى النمو السريع، وصولاً إلى منهجية “الجمل” في بناء الشركات المبتكرة، التي تعتمد على الصبر والتحمل والثبات. ويتحدث هذا الباحث عن مجال مفتوح لهذه الابتكارات التي يمكن أن تُستلهم من الحيوانات. واليوم سنتحدث عن رائدي أعمال وجدا في المملكة العربية السعودية مستقراً لإطلاق مشروع ريادي ابتكاري في الزراعة التقنية يستلهم ابتكاراته من السحلية التي لديها ميزات خاصة في القدرة على التكيف والاحتفاظ بالمياه في المناطق الصحراوية، فكيف تمكّن رائدا الأعمال آدير جالو وهيمانشو ميشرا من تحويل ميزات هذه الكائنات الحية إلى مشاريع زراعية كبرى تمكن الاستفادة منها في تعظيم إنتاج الزراعة وجودتها في المناطق الصحرواية.

منذ آلاف السنين، أدخل السكان الأصليون في غابات الأمازون مواد عضوية قابلة للتحلُّل في التربة الفقيرة بالعناصر المُغذية بهدف تحسين جودة المحاصيل الزراعية، وأصبحت هذه التُربة تُعرف فيما بعد باسم “التُربة السوداء” (Terra Preta)، وهي موجودة حالياً في أجزاء من غابات الأمازون في البيرو وكولومبيا والبرازيل، هذا الأخير هو البلد الأصلي للباحث آدير جالو الذي ألهمته هذه القصة في ابتكار منتج عضوي يساعد على تخصيب التربة في الأراضي القاحلة.

يقطن آدير حالياً في المملكة العربية السعودية، وأسّس عام 2023، بالتعاون مع أستاذه هيمانشو ميشرا، شركة ناشئة أطلق عليها اسم تيراكسي (Terraxy)، وهي استمرار لمشروعه البحثي الذي بدأه بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وغاية هذه الشركة باختصار هي ابتكار تكنولوجيا تُساعد على تحقيق أقصى استفادة ممكنة من المياه المُتاحة للري، وتعزيز خصوبة الأراضي الصحراوية شبه القاحلة، وهي غاية متوافقة مع مبادرة السعودية الخضراء ومبادرة الشرق الأوسط الأخضر، وأهداف الاستدامة ضمن رؤية 2030.

ما المشكلة التي تُعالجها تيراكسي؟

تهدف تيراكسي إلى معالجة مُشكلتين رئيسيتين، إذ يواجه العديد من الأراضي القاحلة مشاكل خطيرة في مجال الأمن المائي؛ ففي المناطق الصحراوية مثل تلك التي تتمتع بها السعودية، تؤدي درجات الحرارة المرتفعة والرياح الجافة إلى تسريع عملية التبخر من الطبقة السطحية للتربة وزيادة نتح (تعرّق) النباتات، وبالتالي تحتاج كميات إضافية من المياه إلى الحفاظ على درجة حرارتها المثالية وامتصاص العناصر الغذائية، ما يؤدي بالمزارعين إلى الاعتماد على مصادر مكلفة وغير مستدامة للحصول على المياه. يؤكد خبير النباتات وأحد أعضاء فريق عمل تيراكسي، كينيدي أودوكونيرو، في هذا الصدد: “مع استخدام أكثر من 70% من موارد المياه العذبة في المملكة في الزراعة، فإن طبقات المياه الجوفية التي توفر 90% من مياه الري تُستنزف بمستويات خطيرة لا يُمكن تعويضها”.

المشكلة الثانية التي تُواجه التربة الزراعية الصحراوية في المملكة هي طبيعة التُربة نفسها، إذ إنها تُربة غير طينية فقيرة جداً من حيث المواد العضوية المُغذية، ورملية بدرجة حموضة قاعدية (قلوية)، ومعدل امتصاصها للعناصر المغذية والأسمدة منخفض جداً، فما الحل إذاً للتغلب على هاتين المشكلتين؟

استلهام أفكار مُبتكرة من أماكن غير متوقعة

تعيش سُحلية “الشيطان الشائك” في صحاري أستراليا الجافة في بيئة قاحلة تندُر فيها الأمطار، مع ذلك تستطيع تأمين ما تحتاج إليه من مياه لتعيش، فقط باستخدام شبكة معقدة من المسامات شبه المُغلقة الموجودة على جلدها لالتقاط الماء من الضباب وقطرات الماء المتبخرة من الجو، لذلك فهي تُمثل مصدراً قيّماً لابتكار منتجات تلتقط الماء من الجو، وحتى لابتكار تكنولوجيا تحفظ المياه من التبخر من مبدأ “تخيّل الأضداد”. يقول روجر مارتن في كتابه “العقل المعاكس” إن المفكرين المبتكرين لديهم “القدرة على الاحتفاظ بفكرتين متعارضتين كلياً في رؤوسهم”. ويوضح عن صفات المبتكر “أنهم قادرون على إنتاج تركيبة تتفوق على أي من تلك الأفكار منفردة دون الشعور بالاستسلام لبديل دون الآخر”.

استلهمت تيراكسي فكرة منتجها الأول “ساندإكس” (Sandx) الذي عالج مشكلة ندرة المياه من الطبيعة، وتحديداً من بعض الحيوانات والنباتات التي تُنتج مادة عازلة للماء، مثل سُحليات المناطق القاحلة والبط وبق الماء المتزحلق وبعض النباتات التي تعيش فوق سطح الماء، ويكون ذلك عبر عدة ميكانيزمات مثل إنتاج مادة شمعية دقيقة تستخدمها كطبقة عازلة تمنع نفاد الماء وتحميها من التبخر (التعرق في حالة الحيوانات والنتح في حالة النباتات). لذلك ابتكرت تيراكسي تكنولوجيا تمكّنها من تغليف حبات الرمل الموجودة على القشرة السطحية للأرض الزراعية، بطبقة نانوية دقيقة من شمع البارافين (ذي المصدر الطبيعي من الفحم وليس المصدر البترولي)، ما يشكّل حاجزاً يمنع تبخر المياه الموجودة في التربة. نتائج التجارب كانت مذهلة بحيث خفّض المنتج الجديد تبخر المياه من التُربة بنسبة وصلت إلى 80%، ورفعت نسبة المحاصيل إلى نحو 30%، ولا سيما أن التجربة شملت محاصيل “استراتيجية” مثل القمح والشعير وحتى الطماطم، والأفضل من ذلك أن شمع البارافين لم يؤثر في النظام الإيكولوجي للبكتيريا المحيطة بجذور النباتات لأنه من مصدر طبيعي، عكس المنتجات “القديمة” التي تعتمد على جزيئات دقيقة من المواد البلاستيكية، وتؤثر سلباً في جودة المحاصيل كما أن لها تأثيرات غير مضمونة على صحة الإنسان على المدى البعيد.

من أجل حل المشكلة الثانية المتعلقة بجودة التُربة، أطلقت تيراكسي مُنتجاً اسمه “كاربوسويل” (Carbosoil)، وهو منتج عضوي صديق للبيئة يُشبه السماد مكوّن من الفحم الحيوي ومواد عضوية أخرى مثل فضلات الدجاج، يُسهم في تعديل تركيبة التربة الصحراوية ويُعزّز امتصاص العناصر المغذية النادرة الوجود في البيئات القاعدية (القلوية)، مثل النيتروجين والفوسفور والكالسيوم والمغنزيوم، كما يُبطيء كاربوسويل من رشح المياه (تسربها إلى المياه الجوفية أو غير ذلك) ويضبط معدل امتصاص العناصر الغذائية بوتيرة ملائمة للنباتات؛ أي أنه منتج مكمّل للمنتج الأول ساندإكس، أضف إلى ذلك القدرة على حبس الكربون في التربة لآلاف السنين. أكدت التجارب أن حجم المحاصيل المزروعة في تُربة مدعّمة بمنتج كاربوسويل كان أكبر بنسبة 40% إلى 70%، ونمو النباتات كان أسرع بنسبة 70%.

تعمل السعودية ضمن الأولويات والطموحات الوطنية في البحث والتطوير والابتكار وإحداها أولوية البحث والتطوير في مجال الاستدامة والاحتياجات الأساسية، التي تشرف عليها هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار. وأعلنت المملكة في عام 2022 عن أربع أولويات وطنية لقطاع البحث والتطوير والابتكار، هي صحة الإنسان، واستدامة البيئة والاحتياجات الأساسية، والريادة في الطاقة والصناعة، واقتصادات المستقبل.

من زاوية الابتكار، لجأ آدير وهيمانشو إلى مهارتين يستخدمهما كبار المستكشفين: الأولى سمّاها خبير الابتكار كلايتون كريستنسن “مهارة المراقبة”، حيث كانا يراقبان من كثب الظواهر الشائعة التي يمكن أن تحمل في طياتها حلاً للمشكلة التي تدور في رأسيهما، وهو ما مكّنهما من التقاط جزئية تغيير سكان الأمازون الأصليين لتركيبة التُراب، وهي مهارة شائعة بين المبتكرين المميزين في مجال الأعمال، على غرار مؤسس شركة إنتويت (Intuit)، سكوت كوك، الذي استلهم فكرة برنامج الكمبيوتر المالي “كويكن” (Quicken) بعد ملاحظتين رئيسيتين: الأولى عندما عايش إحباط زوجته وهي تعاني تتبع أوضاعهما المالية، والثانية عندما ساعده صديقه في الحصول على نظرة خاطفة على حاسوب “آبل ليزا” (Apple Lisa) قبل موعد إطلاقه، ما ألهمه لبناء واجهة مستخدم رسومية سهلة لتبدو تماماً مثل رؤيتها في العالم الحقيقي.

المهارة الثانية هي “مهارة الربط” التي تجسدت في إيجاد رابط بين بيئتين تبدوان مختلفتين تماماً: غابات الأمازون المطيرة وصحراء السعودية شبه القاحلة. أطلق رائد الأعمال السويدي-الأميركي فرانس يوهانسون على هذه المهارة اسم تأثير ميديشي، ويُقصد بها القدرة على إيجاد رابط بين الأفكار التي تبدو غير ذات صلة ومن مجالات مختلفة، وذلك في سبيل تحقيق ابتكارات في شتى المجالات، واشتُق هذا المصطلح من اسم عائلة ميديشي التي عاشت في مدينة فلورنسا بإيطاليا بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر، وجمعت أشخاصاً من شتى التخصصات مثل الأطباء والشعراء والفلاسفة والرسامين والمهندسين المعماريين، وهو ما أدى إلى انفجار إبداعي وازدهار في الأفكار المبتكرة جراء تعاونهم وتقاطع مجالات تخصصاتهم، وأسهم ذلك في ولادة عصر النهضة، أحد العصور المميّزة بالكم الهائل من الابتكارات.

مواجهة المنافسة ومشاريع واعدة

أهم ميزة تنافسية لمنتجات تيراكسي هي أنها “صديقة للبيئة”، فمنتجات المنافسين الحالية تعتمد على جزئيات البلاستيك، ما يصعّب عملية تحلّلها ومعرفة آثارها السلبية على المدى البعيد، بالإضافة إلى عمل هيمانشو وآدير على تأمين جميع الأبحاث العلمية ببراءات الاختراع بهدف حماية منتجاتهما المبتكرة من التقليد، إذ يؤكدان أن أيّ منافس يلزمه من 3 إلى 5 سنوات حتى يصل إلى تركيبة كاربوسويل وساندإكس، كما أن تيراكسي تُخطط لإطلاق منتج جديد مطوّر يساعد في إطلاق المغذيات للأسمدة بوتيرة أبطأ لتمكين الامتصاص الأمثل لها، أو للتبسيط، يعمل كاربوسويل كإسفنجة لامتصاص المغذيات ويساعد المنتج المكمّل الجديد في ضبط وتيرة إطلاقها في التراب.

تعمل تيراكسي على العديد من المشاريع الواعدة، ويحدث توسُّعها بوتيرة مرتفعة حتى يواكب الحاجات الضخمة التي تتطلبها المشاريع الواعدة في السعودية، على غرار مبادرة تغطية الغطاء النباتي في نيوم التي تهدف إلى زراعة 100 مليون شجرة محلية متنوعة وإعادة تأهيل 1.5 مليون هكتار من الأراضي والمحميات الطبيعية. على سبيل المثال، تنتج وحدة التصنيع في مدينة عسفان وحدها 7 أطنان أسبوعياً (وستُرفع إلى 21 طناً أسبوعياً قريباً) كلها موجّهة لمدينة نيوم، بالإضافة إلى المشاركة في مشروع أرامكو للتشجير في منطقة الخريص والكثير من المشاريع العملاقة الأخرى ضمن رؤية 2030.

تُعد تيراكسي شركة ناشئة تكنولوجية استخدم أعضاؤها المنطق الابتكاري السليم لإيجاد حلول عملية لمشكلة واسعة النطاق تُهدد الأمن الغذائي لفئة واسعة من السكان السعوديين وغير السعوديين، واللافت في الأمر بحسب هيمانشو، أنه يشعر بفخر كبير لأن كل التكنولوجيا التي تستخدمها صُممت وطُورت وجُربت ثم طُبقت في السعودية، وليست تكنولوجيا مستوردة، وبالتالي هي ثمرة البحث والتطوير بالشراكة مع جامعة كاوست، كما أن تيراكسي صُنفت ضمن الفائزين العشرة بـ “تحدي النُظم البيئية الغذائية في المناخات القاحلة” الذي نظم بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي عام 2023، كما حصلت على العديد من الجوائز في مجال الاستدامة، استفادت بفضلها من تمويل من جهات حكومية وخاصة عديدة، ما أسهم في بناء وحدات إنتاج جديدة وتحسين حجم الإنتاج.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .